عنوان و نام پدیدآور:نفحات الولایه: شرح عصری جامع لنهج البلاغه المجلد 6 / ناصرمکارم شیرازی، بمساعده مجموعه من الفضلاء؛ اعداد عبدالرحیم الحمدانی.
مشخصات نشر:قم : مدرسه الامام علی ابن ابی طالب (ع) ، 1426ق.-= 1384.
مشخصات ظاهری:10 ج.
شابک:30000 ریال : دوره 964-813-958-X: ؛ ج. 1 964-813-907-5 : ؛ ج. 2 964-813-908-3 : ؛ ج. 3 964-813-917-2 : ؛ ج. 4 964-813-918-0 : ؛ ج.5 : 964-813-941-5 ؛ 70000 ریال: ج. 6 978-964-533-120-5 : ؛ 70000 ریال: ج. 7 978-964-533-121-2 : ؛ 70000 ریال: ج. 8 978-964-533-122-9 : ؛ 70000 ریال: ج. 9 978-964-533-123-6 : ؛ 70000 ریال: ج. 10 978-964-533-124-3 :
یادداشت:عربی.
یادداشت:ج 1- 5 ( چاپ دوم: 1384).
یادداشت:ج. 6- 10 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390).
یادداشت:کتابنامه.
مندرجات:.- ج. 6. من خطبة 151 الی 180.- ج. 7. من خطبة 181 الی 200.- ج. 8. من خطبة 201 الی 241.- ج. 9. من رسالة 1 الی 31.- ج. 10. من رسالة 32 الی 53
موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق -- خطبه ها
موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- کلمات قصار
موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- نامه ها
موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق . نهج البلاغه -- نقد و تفسیر
شناسه افزوده:حمرانی، عبدالرحیم
شناسه افزوده:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق . نهج البلاغه. شرح
شناسه افزوده:مدرسة الامام علی بن ابی طالب (ع)
رده بندی کنگره:BP38/02 /م7 1384
رده بندی دیویی:297/9515
شماره کتابشناسی ملی:م 84-40347
ص :1
ص :2
نفحات الولایه: شرح عصری جامع لنهج البلاغه المجلد 6
ناصرمکارم شیرازی، بمساعده مجموعه من الفضلاء
اعداد عبدالرحیم الحمدانی
ص :3
ص :4
وَمِنْ خُطْبِةٍ لَهُ علیه السلام یُحِذِّرُ مِنَ الفِتَنِ(1)
تتکوّن هذه الخطبة من أقسام ثلاثة:
أمّا القسم الأول: فهو حمد اللّه والثناء علیه، ومن ثم الشهادة بالرسالة للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله وبعض صفاته الخاصة. حیث أشار الإمام علیه السلام فی هذا القسم إلی الأوضاع المربکة التی کانت سائدة إبان الجاهلیة لیقف المسلمون من خلال المقارنة علی عظمة النعم التی أفاضها اللّه علیهم ببرکة الإسلام.
أمّا القسم الثانی من الخطبة: فقد أخبر فیه الإمام علیه السلام عن ظهور الفتن فی المستقبل والعودة القهقری إلی الجاهلیة بأفکارها وممارساتها، کالفتن التی یقودها
ص:5
الظلمة والتی تفعل فعلها فی الوسط الإسلامی.
وأخیراً یختتم الخطبة بوصیة الناس بالحذر من الظلمة وعدم الإنخداع بفتنهم والاستجابة لتحقیق مآربهم، إلی جانب عدم اتّباع خطوات الشیطان والسقوط فی شراکه، والإبتعاد عن تناول الحرام وتقوی اللّه علی کل حال.
ص:6
وَأَحْمَدُ اللّهَ وَأَسْتَعِینُهُ عَلَی مَدَاحِرِ الشَّیْطَانِ وَمَزَاجِرِهِ وَالاِعْتِصَامِ مِنْ حَبَائِلِهِ وَمَخَاتِلِهِ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَاإِلهَ إِلَّا اللّهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَنَجِیبُهُ وَصَفْوَتُهُ. لَایُؤَازَی فَضْلُهُ، وَلَا یُجْبَرُ فَقْدُهُ. أَضَاءَتْ بِهِ الْبِلَادُ بَعْدَ الضَّلاَلَةِ الْمُظْلِمَةِ، وَالْجَهَالَةِ الْغَالِبَةِ، وَالْجَفْوَةِ الْجَافِیَةِ؛ وَالنَّاسُ یَسْتَحِلُّونَ الْحَرِیمَ، وَیَسْتَذِلُّونَ الْحَکِیمَ؛ یَحْیَوْنَ عَلَی فَتْرَةٍ، وَیَمُوتُونَ عَلَی کَفْرَةٍ!
إنّ هذه الخطبة من خطب الملاحم التی تتعرض إلی جانب من الأحداث الخطیرة التی تقع فی المستقبل وتحذّر الناس من ضرورة التحلی بالیقظة ومراقبة الذات بغیة عدم التلوث بالظلم والفتن والفساد. فقد استهل الإمام علیه السلام خطبته بحمد اللّه والثناء علیه والاستعاذة بذاته المقدّسة من شر الشیاطین فقال:
«وَأَحْمَدُ اللّهَ وَأَسْتَعِینُهُ عَلَی مَدَاحِرِ(1) الشَّیْطَانِ وَمَزَاجِرِهِ(2) وَالاِعْتِصَامِ مِنْ حَبَائِلِهِ وَمَخَاتِلِهِ(3)»، فالإمام علیه السلام یسأل اللّه تعالی فی هاتین العبارتین التوفیق للطاعة والعبادة والاعتصام من الذنب والمعصیة، فلیس هنالک من وسیلة لابعاد
«مداحر» الشیطان و
«مزاجره» سوی طاعة اللّه وامتثال أوامره، ولیست
«حبائل» الشیطان و
«مخاتله» سوی
ص:7
الذنوب والمعاصی.
ولا تبدو طاعة اللّه والاحتراز من الذنب والمعصیة ممکنة دون تسدید اللّه وتوفیقه، وذلک لأنّ طریق الطاعة واجتناب المعصیة صعب ملیئ بالمطبّات والعوائق، ثم یقر للّه بالوحدانیة وللنبی الأکرم صلی الله علیه و آله بالرسالة فیقول:
«وَأَشْهَدُ أَنْ لَاإِلهَ إِلَّا اللّهُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَنَجِیبُهُ وَصَفْوَتُهُ». وذهب أغلب شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ
«نجیبه» و «صفوته» بمعنی واحد هو الانتخاب والاصطفاء وکل منهما یؤکّد الآخر، والصحیح أنّ هنالک فارقاً بین المفردتین. بالنظر إلی أنّ النجیب یعنی النفیس، والمفردة الأُولی فی الواقع ممهدة للمفردة الثانیة؛ لأنّ الشیء یصطفی حین یکون نفیساً قیّما، ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بالإشارة إلی صفتین من صفات النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فقال:
«لَا یُؤَازَی فَضْلُهُ، وَلَا یُجْبَرُ فَقْدُهُ» حقّاً یتعذر تعویض الشیء الذی لا نظیر له حین یفقد، کما أشار فی آخر صفة إلی آثار النبی صلی الله علیه و آله الوجودیة فی تلک الظروف التی شهدها عصر الجاهلیة حیث أشرقت بنور وجوده البلاد التی کانت غارقة فی لجج الضلالة والظلمة وقد استحوذ الجهل علی أفکار أهلها فقست قلوبهم وطفحت بالجمود:
«أَضَاءَتْ بِهِ الْبِلَادُ بَعْدَ الضَّلاَلَةِ الْمُظْلِمَةِ، وَالْجَهَالَةِ الْغَالِبَةِ، وَالْجَفْوَةِ الْجَافِیَةِ(1)». وذلک حین کان الناس یستحلون الحرمات ویحتقرون العلماء فی ظل الفترة وغیاب أولیاء اللّه وهم یموتون علی الکفر ومجانبة الدین
«وَالنَّاسُ یَسْتَحِلُّونَ الْحَرِیمَ، وَیَسْتَذِلُّونَ الْحَکِیمَ؛ یَحْیَوْنَ عَلَی فَتْرَةٍ، وَیَمُوتُونَ عَلَی کَفْرَةٍ!». فهذه الصفات السبع التی أوردها الإمام علیه السلام بعبارات مجملة بشأن عهد الجاهلیة إنّما تجسد صورة رائعة عن ذلک الزمان الذی اتسم بالضلال، والجهل، والقسوة، واستحلال الحرمات، والإستخفاف بالعلماء، وانعدام وجود القائد والمرشد، والموت علی الکفر.
وقد بلغ ضلال القوم مرتبة من الفضاعة إلی الحد الذی جعلهم یفخرون بجنایاتهم
ص:8
ویرون سفک الدماء ووأد البنات دلیلاً علی الغیرة، والسلب والنهب شجاعة، کما تأصلت لدیهم معانی الجهل والخرافة حتی جعلهم یصنعون آلهتهم بأیدهم تارة من الخشب وأخری من الحجر وأخیراً من التمر، فإن جاعوا التهموها. وأمّا قساوة قلوبهم فقد تجذّرت فی أعماقهم حتی توارثوا الحقد جیلاً عن جیل، فکانوا لایأبهون بسفک الدماء وممارسة سائر المفاسد والانحرافات. وفی ظل هذه الظروف العصیبة یمکن إدراک عظمة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله ومعطیاته فی تلک الأجواء المتلفِّعة بالظلمة، حتی استطاع خلال تلک الفترة القصیرة من النهوض بذلک المجتمع الخرافی الجاهل والمتخلف لیضعه فی مصاف المجتمعات المتمدنة والمتحضرة.
ص:9
ص:10
«ثُمَّ إِنَّکُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَغْرَاضُ بَلَایَا قَدِ اقْتَرَبَتْ، فَاتَّقُوا سَکَرَاتِ النِّعْمَةِ، وَاحْذَرُوا بَوَائِقَ النِّقْمَةِ، وَتَثَبَّتُوا فِی قَتَامِ الْعِشْوَةِ، وَاعْوِجَاجِ الْفِتْنَةِ عِنْدَ طُلُوعِ جَنِینِهَا، وَظُهُورِ کَمِینِهَا، وَانْتِصَابِ قُطْبِهَا، وَمَدَارِ رَحَاهَا. تَبْدَأُ فِی مَدَارِجَ خَفِیَّةٍ، وَتَؤُولُ إِلَی فَظَاعَةٍ جَلِیَّة. شِبَابُهَا کَشِبَابِ الْغُلَامِ، وَآثَارُهَا کَآثَارِ السِّلَامِ، یَتَوَارَثُهَا الظَّلَمَةُ بِالْعُهُودِ! أَوَّلُهُمْ قَائِدٌ لِآخِرِهِمْ، وَآخِرُهُمْ مُقْتَدٍ بِأَوَّلِهِمْ؛ یَتَنَافَسُونَ فی دُنْیَا دَنِیَّةٍ، وَیَتَکَالَبُونَ عَلَی جِیفَةٍ مُرِیحَةٍ. وَعَنْ قَلِیلٍ یَتَبَرَّأُ التَّابِعُ مِنَ الْمَتْبُوعِ، وَالْقَائِدُ مِنَ الْمَقُودِ، فَیَتَزَایَلُونَ بِالْبَغْضَاءِ، وَیَتَلَاعَنُونَ عِندَ اللِّقَاءِ».
أخبر الإمام علیه السلام الناس فی هذا المقطع من الخطبة بالفتن التی تنتظرهم إلی جانب تحذیرهم وإلفات نظرهم إلی خطورتها لیتحصنوا قدر المستطاع من ضربات تلک الفتن ویحدّوا من الخسائر، حیث أشار الإمام علیه السلام بعبارات لطیفة إلی مصادر هذه الفتنة وکیفیة تبلورها ومرورها بمختلف المراحل فقال:
«ثُمَّ إِنَّکُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَغْرَاضُ بَلَایَا قَدِ اقْتَرَبَتْ، فَاتَّقُوا سَکَرَاتِ النِّعْمَةِ، وَاحْذَرُوا بَوَائِقَ(1) النِّقْمَةِ». فقد رکّز الإمام علیه السلام فی هذه العبارة علی عنصرین یقفان وراء الفتن؛ أحدهما سکرات النعمة، والآخر عقوبة الأعمال.
ص:11
وبیَّن نتیجة تلک الفتن التی یعصف بلاؤها بالناس. ثم أوصی الناس بالتحلی بالیقظة والحذر بغیة التقلیل من الخسائر حین تهب ریاح الحوادث المعتمة وتستفحل الفتن عند ظهور اجنتها وانتصاب محورها وحرکة رحاها
«وَتَثَبَّتُوا فِی قَتَامِ(1) الْعِشْوَةِ(2) ، وَاعْوِجَاجِ الْفِتْنَةِ عِنْدَ طُلُوعِ جَنِینِهَا، وَظُهُورِ کَمِینِهَا، وَانْتِصَابِ قُطْبِهَا، وَمَدَارِ رَحَاهَا». فالأمام علیه السلام یشبّه الفتنة فی هذه العبارة بالجنین الذی یترعرع بصورة خفیة ویولد فجأة تارة، وتارة أخری یعدّها کالرحی التی یقام محورها بادئ الأمر ثم تدور حوله، وتشیر الشواهد التاریخیة إلی أنّ الفتن کذلک حقّاً، فهی مراحل تتبلور أثر بعض العوامل الاجتماعیة المختلفة لتنفجر فجأة ویطفو علی السطح مایعتصر فی باطن المجتمع، ثم یتطرق الإمام علیه السلام مواصلاً کلامه إلی الملامح الأخری لتبلور الفتن علی أنّها تبدأ من مراحل خفیة لتظهر فی خاتمة المطاف بوجهها الخطیر، وهی تنمو وتنتشر بسرعة علی غرار نمو الشباب وتسدّد ضرباتها الموجعة إلی جسد المجتمع
«تَبْدَأُ فِی مَدَارِجَ خَفِیَّةٍ، وَتَؤُولُ إِلَی فَظَاعَةٍ جَلِیَّة. شِبَابُهَا کَشِبَابِ(3) الْغُلَامِ، وَآثَارُهَا کَآثَارِ السِّلَامِ(4)».
هنالک خلاف بین شرّاح نهج البلاغة فی الفتنة التی أشار إلیها الإمام علیه السلام فی هذه العبارة وحذّر منها؛ ویبدو أنّ المراد بها فتنة بنی أمیة التی بدأت منذ عهد عثمان وبرزت بقتله ثم بلغت ذروتها إثر خلافة معاویة ویزید وعبد الملک بن مروان ومن سار فی فلکهم، وقد اتّضحت هذه الفتنة وتجلّت فضیحتها بشتم أمیر المؤمنین علی علیه السلام من علی منابر المسلمین وتلک الضربات التی وجهت إلی الإسلام بحیث لو وضعت علی جبل لتصدّع.
.
ص:12
ثم واصل حدیثه بالإشارة إلی سائر خصائص هذه الفتنة
«یَتَوَارَثُهَا الظَّلَمَةُ بِالْعُهُودِ! أَوَّلُهُمْ قَائِدٌ لِآخِرِهِمْ، وَآخِرُهُمْ مُقْتَدٍ بِأَوَّلِهِمْ». أجل فقادة الفتن علی هذه الشاکلة یتوارثون فیما بینهم أسباب الفتنة ویسیرون جمیعاً فی خط واحد وباتّجاه مشترک، ومن شأن هذا الانسجام والاتفاق والوراثة أن یضاعف أخطار الفتنة ویشعب آثارها السلبیة، آنذاک أشار الإمام علیه السلام إلی الدافع الأصلی لقادة الفتن والظلمة فی أنّهم یتسابقون من أجل الظفر بهذه الدنیا الدنیة ویتکالبون علی حطامها کتهافت الکلاب علی المزابل النتنة، فالواقع هم متحدون فی الظاهر وینطلقون معا فی مسار واحد، غیر أنّهم یعیشون باطنیا حالة من الصراع والنزاع ویسعی کل فرد منهم لأن یکون رأس الفتنة ویقتفی آثاره الآخرون
«یَتَنَافَسُونَ فی دُنْیَا دَنِیَّةٍ، وَیَتَکَالَبُونَ عَلَی جِیفَةٍ مُرِیحَةٍ(1)».
ثم أشار علیه السلام بعبارة قصیرة وبلیغة إلی عاقبتهم المریرة فقال:
«وَعَنْ قَلِیلٍ یَتَبَرَّأُ التَّابِعُ مِنَ الْمَتْبُوعِ، وَالْقَائِدُ مِنَ الْمَقُودِ، فَیَتَزَایَلُونَ بِالْبَغْضَاءِ، وَیَتَلَاعَنُونَ عِندَ اللِّقَاءِ».
لعل هذه العبارة إشارة إلی أصحاب الفتن من بنی العباس.
رغم أنّهم اقتفوا آثار بنی أمیة فی سلوک هذا النفاق والتکالب علی الدنیا وتوجیه الضربات إلی أهل البیت علیهم السلام زعماء الأُمّة الإسلامیة وأئمّتها، إلّاأنّ الظاهر أنّهم کانوا یلعنونهم ویتبرأون من أفعالهم، وکان شعارهم الذی أرادوا به خداع الناس «الرضا لآل محمد»، ففتکوا بفلول بنی أمیة وسفکوا دماءَهم حتی سالت أنهار من الدماء وقضوا علی تراثهم ونهبوا أموالهم، وذهب البعض من شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ المراد من العبارة
«وَیَتَلَاعَنُونَ عِندَ اللِّقَاءِ»، لقاء اللّه ویوم القیامة، کما ورد فی القرآن الکریم: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِینَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِینَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ»(2) کما ورد فی القرآن الکریم بشأن براءة المشرکین من أئمّتهم: «وَیَوْمَ
ص:13
نَحْشُرُهُمْ جَمِیعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِینَ أَشْرَکُوا أَیْنَ شُرَکَاؤُکُمُ الَّذِینَ کُنتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَکُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللّهِ رَبِّنَا مَا کُنَّا مُشْرِکِینَ»(1). وعبارة
«وَیَتَکَالَبُونَ عَلَی جِیفَةٍ مُرِیحَةٍ» تشبه هذه الفئة الطاغیة المتهافتة علی الدنیا بالکلاب التی تهجم علی المیتة العفنة وینهش کل منها ما فی ید الآخر وفمه، ویاله من تشبیه بلیغ رائع!
یستفاد من العبارات المذکورة فی خطبة الإمام علیه السلام أنّ الحکام الظلمة یتسمون ببعض الممیزات التی یشهد بها التاریخ البشری، ومنها:
1. إثارة الفتن والبلابل بغیة تحقیق الأهداف؛ الأمر الذی نشهده فی استغلال بنی أمیة لقضیة المطالبة بدم عثمان.
2. الاتحاد والتنسیق فی الانطلاقة والتواطیء فی الخطط الهدامة وإثارة الفتن.
3. اشتداد المنافسة حین الغلبة بحیث تبدو المجموعة وکأنّها حفنة من الکلاب التی تتکالب علی جیفة لیحوز کل حصته من الآخر.
4. لعن کل طرف للآخر فی خاتمة المطاف وتحمیله المسؤولیة ولعل التاریخ بماضیه وحاضره شاهد حی علی کلام الإمام علیه السلام.
ص:14
«ثُمَّ یَأْتِی بَعْدَ ذلِکَ طَالِعُ الْفِتْنَةِ الرَّجُوفِ، وَالْقَاصِمَةِ الزَّحُوفِ، فَتَزِیغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَةٍ، وَتَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلَامَةٍ؛ وَتَخْتَلِفُ الْأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا، وَتَلْتَبِسُ الْآرَاءُ عِنْدَ نُجُومِهَا. مَنْ أَشْرَفَ لَهَا قَصَمَتْهُ، وَمَنْ سَعَی فِیهَا حَطَمَتْهُ؛ یَتَکَادَمُونَ فِیهَا تَکَادُمَ الْحُمُرِ فِی الْعَانَةِ! قَدِ اضْطَرَبَ مَعْقُودُ الْحَبْلِ، وَعَمِیَ وَجْهُ الْأَمْرِ. تَغِیضُ فِیهَا الْحِکْمَةُ، وَتَنْطِقُ فِیهَا الظَّلَمَةُ، وَتَدُقُّ أَهْلَ الْبَدْوِ بِمِسْحَلِهَا، وَتَرُضُّهُمْ بِکَلْکَلِهَا یَضِیعُ فِی غُبَارِهَا الْوُحْدَانُ، وَیَهْلِکُ فِی طَرِیقِهَا الرُّکْبَانُ؛ تَرِدُ بِمُرِّ الْقَضَاءِ، وَتَحْلُبُ عَبِیطَ الدِّمَاءِ، وَتَثْلِمُ مَنَارَ الدِّینِ، وَتَنْقُضُ عَقْدَ الْیَقِینِ. یَهْرُبُ مِنْهَا الْأَکْیَاسُ، وَیُدَبِّرُهَا الْأَرْجَاسُ. مِرْعَادٌ مِبْرَاقٌ، کَاشِفَةٌ عَنْ سَاقٍ! تُقْطَعُ فِیهَا الأَرْحَامُ، وَیُفَارَقُ عَلَیْهَا الإِسْلَامُ! بَرِیُّهَا سَقِیمٌ، وَظَاعِنُهَا مُقِیمٌ!».
أشار الإمام علیه السلام - فی هذا المقطع من الخطبة - إلی فتنة مهمّة أخری تنتظر المسلمین، فتنة مرعبة وکاسرة وردت تفاصیلها فی عبارات الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة، علی أمل أن یتعرف علیها المسلمون فینأوا بأنفسهم بعیداً عنها ولإجتناب من فداحة أضرارها، فقال علیه السلام:
«ثُمَّ یَأْتِی بَعْدَ ذلِکَ طَالِعُ الْفِتْنَةِ الرَّجُوفِ(1) ،
ص:15
وَالْقَاصِمَةِ(1) الزَّحُوفِ(2) ، فَتَزِیغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَةٍ، وَتَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلَامَةٍ؛ وَتَخْتَلِفُ الْأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا، وَتَلْتَبِسُ الْآرَاءُ عِنْدَ نُجُومِهَا(3)».
ذهب أغلب شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ المراد بهذه الفتنة هنا فتنة المغول والتاتار، ولم یذکروا حسب اطّلاعنا احتمالاً آخر؛ إلّاأنّ هذا الاحتمال یبدو بعیداً؛ لأنّ أهداف المغول لم تکن سوی نهب الأموال وخراب البلدان والسیطرة علی الممالک الإسلامیة؛ فی حین أخبر الإمام علیه السلام بعبارات فی هذه الخطبة عن فتنة تستهدف أفکار الناس ومعتقداتهم وتلقی بهم فی غیاهب الغی والضلال والاختلافات الفکریة والدینیة، وعلیه یمکن أن یکون المراد بها فتنة بنی العباس التی أعقبت فتنة بنی أمیة والتی أشارت إلیها العبارات السابقة، والواقع هو أنّ بنی العباس وبنی أمیة وإن کانوا وجهین لعملة واحدة وسیاسة شیطانیة واحدة، إلّاأنّ بنی أمیة وکما صرّح زعیمهم معاویة کانوا لا یکترثون للصوم والصلاة وطقوس الناس الدینیة، سوی - فی المواقع - التی تصطدم بحکومتهم الغاشمة؛ بینما اخترق بنو العباس عقائد الأُمّة حتی ظهرت علی عهدهم أغلب المدارس المنحرفة والمذاهب الفاسدة، کما اشتدت الاختلافات فی بعض المسائل من قبیل «حدوث القرآن وقدمه» و «الجبر والتفویض» إلی جانب الخلافات بین «الأشاعرة والمعتزلة»، وممّا لا شک فیه أنّ ذلک کان یجری وفق خطة مرسومة حتی أنّهم کانوا یشجعون العلماء والمفکرین لإثارة مثل هذه المباحث بهدف الاستمرار فی السلطة، طبعاً لا نزعم أنّ بنی أمیة تخلوا مطلقاً عن هذه الأمور، لکننا نقول لیس لمثل هذه المباحث من ظهور آنذاک کالذی أصبح علیه بنو العباس، کما یبدو، مستبعداً أیضاً، الاحتمال الآخر الذی ذکره بعض شرّاح نهج البلاغة من أنّ هذا الکلام إشارة إلی فتنة «الدجال» فی آخر الزمان
ص:16
الذی یضل فئة من الناس.
ثم أشار الإمام علیه السلام إلی شدّة تلک الفتنة قائلاً:
«مَنْ أَشْرَفَ لَهَا قَصَمَتْهُ، وَمَنْ سَعَی فِیهَا حَطَمَتْهُ؛ یَتَکَادَمُونَ(1) فِیهَا تَکَادُمَ الْحُمُرِ(2) فِی الْعَانَةِ!» وهذه العبارة تأکید لما ذکر فی الکلام السابق بشأن الفتنة الأولی من أنّ رؤوس الفتنة متحدون بادیء الأمر، أنّهم سرعان ما یسعون لطرد کل منهم الآخر عند الغلبة، ثم تطرق إلی أوضاع الناس الدینیة والأخلاقیة آنذاک فقال:
«قَدِ اضْطَرَبَ مَعْقُودُ الْحَبْلِ، وَعَمِیَ وَجْهُ الْأَمْرِ. تَغِیضُ فِیهَا الْحِکْمَةُ، وَتَنْطِقُ فِیهَا الظَّلَمَةُ، وَتَدُقُّ أَهْلَ الْبَدْوِ بِمِسْحَلِهَا(3) ، وَتَرُضُّهُمْ(4) بِکَلْکَلِهَا(5)». نعم، حین یغیب العلماء عن مسرح الأحداث تؤول الأمور إلی الظلمة لیقولوا ما یریدون ویحملوا الآخرین علی فعل ما یشاؤون، آنذاک تعم الفتنة لتشمل البلاد بأسرها وتأتی علی القری الصغیرة والنائیة.
ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بشأن فضاعة أخطار هذه الفتنة (حیث یصبح الوضع بالشکل الذی) یضیع فی غبارها المشاة من الأفراد وتهلک فیها الفرسان:
«یَضِیعُ فِی غُبَارِهَا الْوُحْدَانُ، وَیَهْلِکُ فِی طَرِیقِهَا الرُّکْبَانُ». إشارة إلی أنّ الفتنة علی درجة من القوّة بحیث یکفی غبارها لقمع المعارضین المتفردین، کما تعصف بالجمع الکثیر منهم إن اعترضوا سبیلها، بالتالی لیس لأحد القدرة علی مواجهتها والصمود بوجهها.
قال بعض شرّاح نهج البلاغة فی تفسیرهم لهذه العبارة، إنّ المراد ب
«الوحدان»، العلماء والفضلاء الذین یبتلون بغبار الشبهات ویضیعون الحق، والرکبان کنایة عن الفئات المقتدرة التی لا تقوی أیضاً علی مقاومة رؤوس الفتنة وتهلک فی مواجهتها؛
ص:17
إلّا أنّ التفسیر الأول أقرب، لأن
«الوحدان» إشارة إلی الأفراد الوحیدین أو المشاة، و
«الرکبان» إلی الأفراد الأشداء أو الفرسان.
ثم قال علیه السلام:
«تَرِدُ بِمُرِّ الْقَضَاءِ، وَتَحْلُبُ عَبِیطَ(1) الدِّمَاءِ، وَتَثْلِمُ مَنَارَ الدِّینِ، وَتَنْقُضُ عَقْدَ الْیَقِینِ. یَهْرُبُ مِنْهَا الْأَکْیَاسُ، وَیُدَبِّرُهَا الْأَرْجَاسُ»، أجل حین ینحّی الأکیاس والحکماء ویتسلم الأراذل والأرجاس زمام الأمور تتصدع عری الإیمان وتتفسخ عقد الیقین وتتعرض أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم إلی الخطر.
ویختتم الإمام علیه السلام بیانه لخصائص هذه الفتنة العظیمة بالقول:
«مِرْعَادٌ(2) مِبْرَاقٌ، کَاشِفَةٌ عَنْ سَاقٍ! تُقْطَعُ فِیهَا الأَرْحَامُ، وَیُفَارَقُ عَلَیْهَا الإِسْلَامُ! بَرِیُّهَا سَقِیمٌ، وَظَاعِنُهَا مُقِیمٌ!». و «مِرْعَادٌ مِبْرَاقٌ»، صفات کنائیة لشدّة هول هذه الفتنة، لأن هذه العبارات عادة ما تستعمل بهذا المعنی، رغم أنّ بعض الشراح عدوا ذلک إشارة إلی أصوات ضربات السیوف وبرقها، غیر أنّ المعنی الأول أنسب. وعبارة
«کَاشِفَةٌ عَنْ سَاقٍ» کنایة عن شدّة مشقتها؛ لأنّ الإنسان یشمر عن ذراعه وساقه عادة إن همّ بإتیان عمل شاق. وعبارة
«تُقْطَعُ فِیهَا الأَرْحَامُ» إشارة إلی أنّ رؤوس الفتنة لا یرعون فی آخ وأب وأم إلاً ولا ذمة ویذبحون کل من یعترض طریقهم ولتحقق رغباتهم.
ومن الطبیعی أن تغیب التعالیم الإسلامیة فی ظل هذه الظروف، وأخیراً عبارة
«بَرِیُّهَا سَقِیمٌ، وَظَاعِنُهَا مُقِیمٌ!» إشارة إلی أنّ الفتنة تطال حتی من یعتقد بأنّه بعید عن مخاطر هذه الفتنة، کما یقع فیها حتی من ظن باستطاعته الهرب منها، فهی فتنة کاسرة قاصمة قلّ من ینجو منها.
ص:18
بَیْنَ قَتِیلٍ مَطْلُولٍ، وَخَائِفٍ مُسْتَجِیرٍ، یَخْتِلُونَ بِعَقْدِ الأَیْمَانِ وَبِغُرُورِ الْإِیمَانِ؛ فَلَا تَکُونُوا أَنْصَابَ الْفِتَنِ، وَأَعْلَامَ الْبِدَعِ؛ وَالْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَیْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةِ، وَبُنِیَتْ عَلَیْهِ أَرْکَانُ الطَّاعَةِ؛ وَاقْدَمُوا عَلَی اللّهِ مَظْلُومِینَ، وَلَا تَقْدَمُوا عَلَیْهِ ظَالِمِینَ؛ وَاتَّقُوا مَدَارِجَ الشَّیْطَانِ وَمَهَابِطَ الْعُدْوَانِ؛ وَلَا تُدْخِلُوا بُطُونَکُمْ لُعَقَ الْحَرَامِ، فَإِنَّکُمْ بِعَیْنِ مَنْ حَرَّمَ عَلَیْکُمُ الْمَعْصِیَةَ، وَسَهَّلَ لَکُمْ سُبُلَ الطَّاعَةِ.
ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی عدم إرتباط هذا الجانب من الخطبة بما سبقه من کلام، وقد اختاره السید الرضی جریاً علی عادته فی الاقتطاف ولم یذکر الکلام الذی سبقه؛ والحال هنالک ارتباط وثیق بین هذا المقطع من الخطبة وما سبقه من مقاطع، حیث تصدت المقاطع السابقة لبیان الفتن التی تنتظر الناس وأهم ممیزاتها، وانتقلت هنا إلی نتائجها ووظیفة الأُمّة فی ظلها، فقد استهل الإمام علیه السلام کلامه هنا قائلاً:
«بَیْنَ قَتِیلٍ مَطْلُولٍ(1) ، وَخَائِفٍ مُسْتَجِیرٍ»، ثم واصل کلامه بالقول:
«یَخْتِلُونَ(2) بِعَقْدِ الأَیْمَانِ وَبِغُرُورِ الْإِیمَانِ».
أجل فرأس الفتنة یتشبث بکل وسیلة لتحقیق مآربه الشیطانیة من قبیل ممارسة
ص:19
القتل والقمع والتظاهر بالإیمان إن اقتضت الضرورة واعطاء الأمان لبعض الأفراد ومن ثم ضرب کل هذه الأمور عرض الحائط، ثم أشار الإمام علیه السلام إلی وظائف الناس فی ظل هذه الفتن والإرباکات فأورد خمس تعلیمات لأصحاب الحق فقال فی وصیّته الأولی:
«فَلَا تَکُونُوا أَنْصَابَ الْفِتَنِ، وَأَعْلَامَ الْبِدَعِ» إشارة إلی اعتزال هذه المعرکة الخطیرة دون التعاون مع رؤوس الفتنة وأصحاب البدعة.
والوصیة الثانیة:
«وَالْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَیْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةِ، وَبُنِیَتْ عَلَیْهِ أَرْکَانُ الطَّاعَةِ» والزموا ما عقد علیه حبل الجماعة، وبنیت علیه أرکان الطاعة إشارة إلی ضرورة الالتزام بالقوانین والتعالیم الشرعیة التی تضمن طاعة اللّه وبقاء المجتمع الإسلامی ورعایتها قدر المستطاع فی ظل نشوب الفتن، ذلک لأنّه إن کان هنالک من سبیل للنجاة من الفتنة إنّما یتمثل فی الالتزام بهذه التعالیم، والکلام یشمل بالطبع التعالیم الإسلامیة الواردة بهذا الخصوص من قبیل الجمعة والجماعة والحج والتکافل الاجتماعی، وهی الأمور التی تؤدی إلی النجاة من الفتنة.
وقال فی الوصیة الثالثة:
«وَاقْدَمُوا عَلَی اللّهِ مَظْلُومِینَ، وَلَا تَقْدَمُوا عَلَیْهِ ظَالِمِینَ». طبعاً لیس مفهوم العبارة الاستسلام للظلم والاستجابة للظالم؛ فهذا الأمر منهی عنه فی الإسلام وهو نوع من إعانة الظالم علی الظلم، لکن المراد إن خیرتم بین أمرین إمّا أن تهضم حقوقکم أو تهضموا حقوق الآخرین، فما علیکم إلّا أنّ تغضوا الطرف عن حقوقکم لکی لا تدنسوا أنفسکم بظلم الغیر، ومثل هذا الأمر عادل ومرضی للّه علی ضوء قاعدة تقدیم الأهم علی المهم.
الوصیة الرابعة:
«وَاتَّقُوا مَدَارِجَ الشَّیْطَانِ وَمَهَابِطَ الْعُدْوَانِ» أی لا تقتربوا من الخطوط الحمراء (الظلم والفساد)، والتعبیر ب
«المدارج» و
«المهابط» إشارة إلی نکتة لطیفة، أی أنّ الشیطان یرفع الإنسان من سلم الطغیان، فإن بلغ القمة قذف به إلی الأسفل، وأحیاناً یهوی به إلی أودیة المعصیة لیزل قدمه فتهوی به إلی أعماق الکبائر.
ص:20
والوصیة الخامسة والأخیرة:
«وَلَا تُدْخِلُوا بُطُونَکُمْ لُعَقَ(1) الْحَرَامِ، فَإِنَّکُمْ بِعَیْنِ مَنْ حَرَّمَ عَلَیْکُمُ الْمَعْصِیَةَ، وَسَهَّلَ لَکُمْ سُبُلَ الطَّاعَةِ». لا شک فی أنّ الأموال الحرام تزداد فی أیدی الناس فی ظل حکومة الظلمة وبروز الفتن والاستفادة من تلک الأموال تنعکس سلباً علی الإنسان، فهی تسود القلب وتبعد الإنسان عن اللّه وتسوقه لاتباع خطوات الشیطان. فالإمام علیه السلام یحذر من الحرام ویلفت نظرهم إلی عدم غلق الرحمن لأبواب الطاعة والکسب الحلال قط، فاللّه یترک الباب مفتوحاً فی کل الظروف بوجه عباده لممارسة الطاعة والنجاة من الفتنة. قال العلّامة مغنیة: «إنّ أفضل تفسیر لهذه العبارة وما بعدها ما أورده الإمام علیه السلام فی الخطبة 114
إِنَّ الَّذِی أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ الَّذِی نُهِیْتُمْ عَنْهُ وَمَا أُحِلَّ لَکُمْ أَکْثَرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَیْکُمْ. فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا کَثُرَ، وَمَا ضَاقَ لِمَا اتَّسَعَ».
ص:21
ص:22
وَمِنْ خُطْبِةٍ لَهُ علیه السلام فِی صِفَاتِ اللّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَصِفَاتِ أئِمَّةِ الدِّینِ(1)
تتکون هذه الخطبة بصورة رئیسیة من ثلاثة أقسام. أشار الإمام علیه السلام فی القسم الأول إلی بعض النقاط المهمّة بشأن صفات اللّه التی صرح فیها بعض شرّاح نهج البلاغة بأنّها لم ترد فی أی کتاب وهی أعظم من تلک المطالب التی ذکرها الفلاسفة والحکماء والعرفاء بشأن صفات اللّه، بینما أشار فی القسم الثانی إلی المنزلة الرفیعة لزعماء الدین وأئمة الهدی ومقامهم عند اللّه وموقعهم فی المجتمع البشری، وتحدث الإمام علیه السلام فی القسم الثالث عن نعمة اللّه الکبری أی الإسلام والقرآن، فذکر بعض النقاط الرقیقة بشأن هذا الکتاب السماوی لیقف المسلمون علی عظمة الکتاب وینهلوا من فیضه العذب.
ص:23
ص:24
الْحَمْدُ لِلّهِ الدَّالِّ عَلَی وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ، وَبِمُحْدَثِ خَلْقِهِ عَلَی أَزَلِیَّتِهِ؛ وَبِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَی أَنْ لَاشَبَهَ لَهُ. لَاتَسْتَلِمُهُ الْمَشَاعِرُ، وَلَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ، لاِفْتِرَاقِ الصَّانِعِ وَالْمَصْنُوعِ، وَالْحَادِّ وَالْمَحْدُودِ، وَالرَّبِّ وَالْمَرْبُوبِ؛ الْأَحَدِ بِلَا تَأْوِیلِ عَدَدٍ، وَالْخَالِقِ لَابِمَعْنی حَرَکَةٍ وَنَصَبٍ، وَالسَّمِیعِ لَابِأَدَاةٍ، وَالْبَصِیرِ لَابِتَفْرِیقِ آلَةٍ، وَالشَّاهِدِ لَابِمُماسَّةٍ، وَالْبَائِنِ لَابِتَرَاخِی مَسَافَةٍ، وَالظَّاهِرِ لَابِرُؤْیَةٍ، وَالْبَاطِنِ لَابِلَطَافَةٍ. بَانَ مِنَ الْأَشْیَاءِ بِالْقَهْرِ لَهَا، وَالْقُدْرَةِ عَلَیْهَا، وَبَانَتِ الْأَشْیَاءُ مِنْهُ بِالْخُضُوعِ لَهُ، وَالرُّجُوعِ إِلَیْهِ. مَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ حَدَّهُ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ، وَمَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ، وَمَنْ قَالَ: «کَیْفَ» فَقَدِ اسْتَوْصَفَهُ، وَمَنْ قَالَ: «أَیْنَ» فَقَدْ حَیَّزَهُ. عَالِمٌ إِذْ لَامَعْلُومٌ، وَرَبٌّ إِذْ لَامَرْبُوبٌ، وَقَادِرٌ إِذْ لَامَقْدُورٌ.
کما ذکر آنفاً فإنّ الإمام علیه السلام أورد هذه الخطبة بعد أن بایعته الأمة أثر نقمتها علی عثمان وبطانته وقتلها إیّاه، استهل الإمام علیه السلام الخطبة بمعرفة اللّه وبیان صفاته الجلالیة والجمالیة؛ کونها دعامة السعادة والفلاح والصلاح الفردی والاجتماعی. وقد ذکر ثمان صفات فی عبارات قصیرة عمیقة المعنی بما یعجز الفلاسفة والمتکلّمون عن الوقوف علی کنهها.
فقد قال علیه السلام:
«الْحَمْدُ لِلّهِ الدَّالِّ عَلَی وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ» أجل، حین نتأمل عجائب
ص:25
الخلقة إلی جانب الأسرار والنظم التی تکتنف خلق الأرض والسماء والإنسان والحیوان لا نملک سوی التسلیم بأنّ هنالک إرادة حکیمة وقادرة عالمة وراء کل تلک الآثار البدیعة التی لا یسعها أن تکون ولیدة هذه الطبیعة الصماء، وهذا هو برهان النظم الذی أشار إلیه القرآن الکریم والروایات الإسلامیة بفضله أدل دلیل علی معرفة اللّه.
ثم قال فی بیان الصفة الثانیة:
«وَبِمُحْدَثِ خَلْقِهِ عَلَی أَزَلِیَّتِهِ» والعبارة فی الواقع إشارة إلی برهان الوجوب والإمکان؛ ذلک أنّ سلسلة المخلوقات التی ارتدت لباس الوجود خلف بعضها البعض لا یمکنها الاستمرار إلی مالانهایة فکل حادث مخلوق، لأنّ عدم تناهی المعلول یحتاج بالتالی إلی علّة أزلیة وغنیة عن الخلق والتی یصطلح علیها بواجب الوجود.
وقال فی الصفة الثالثة:
«وَبِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَی أَنْ لَاشَبَهَ لَهُ» والسؤال الذی یطرح نفسه: کیف یکون تشابه المخلوقات دلیلاً علی عدم الشبیه للّه؟ الجواب: أنّ هذا الشبه دلیل علی ترکب هذه المخلوقات، لأنّ لها قدراً مشترکاً من قبیل الزمان والمکان وبعض الإشکال والعوارض الظاهریة، کما هنالک بعض الجهات المختلفة التی تمیزها عن بعضها. وبناءً علی هذا فإنّ کل مخلوق مرکب ممّا به الاشتراک وما به الامتیاز (الجهات المشترکة والجهات المختلفة) ومن الطبیعی أن تکون هذه المخلوقات المرکبة محتاجة (محتاجة إلی أجزائها ومن یرکبها) ومن هنا نفهم أن لا شبیه للّه وإلّا للزم الترکیب والحاجة علی ذاته المقدّسة.
وقال فی الصفة الرابعة والخامسة:
«لَا تَسْتَلِمُهُ(1) الْمَشَاعِرُ، وَلَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ، لاِفْتِرَاقِ الصَّانِعِ وَالْمَصْنُوعِ، وَالْحَادِّ وَالْمَحْدُودِ، وَالرَّبِّ وَالْمَرْبُوبِ» والدلیل واضح علی تعذر بلوغ مشاعر الإنسان بما فیها الحواس الظاهریة والباطنیة والعقل کنه ذاته المقدّسة؛ فهو وجود غیر محدود ولامتناهٍ من جمیع الجهات، والعقل البشری
ص:26
محدود من جمیع الجهات، وغیر المحدود لا یسعه المحدود مطلقاً. من جانب آخر فقد ملأت آثار وجوده أرکان العالم بأسره بحیث لا یسع شیء حجبها، فذاته خفیة علی الجمیع وآثاره ظاهرة للجمیع.
والعبارة
«لاِفْتِرَاقِ الصَّانِعِ...» دلیل علی خفاء ذاته المقدّسة وظهور آثاره، لاختلاف الخالق والمخلوق والحاد والمحدود والرب والمربوب. فالمصنوع الممکن الوجود لا یمکنه إدراک الصانع الواجب الوجود، والمخلوقات المحدودة لا یسعها درک الخالق اللامحدود والموجودات الخاضعة لربوبیة الرب یتعذر علیها إدراکه کما هو. جدیر بالذکر أنّ طائفة من شرّاح نهج البلاغة ذهبوا إلی أنّ هذه استدلالات علی جمیع الصفات المذکورة سابقاً، إلّاأنّ التفسیر الأول یبدو أنسب.
وقال فی بیانه للصفة السادسة والسابعة:
«اَلْأَحَدِ بِلَا تَأْوِیلِ عَدَدٍ، وَالْخَالِقِ لَا بِمَعْنی حَرَکَةٍ وَنَصَبٍ(1)» فحین یقال: اللّه واحد یتصور البعض أن مفهوم ذلک أنّه واحد ولیس بثان، وهذا خطأ محض؛ لأنّ مفهوم هذا الکلام إمکانیة تصور ثانٍ له ولکن لا وجود له؛ والحال لا یمکن تصور ثانٍ لذاته المقدّسة، وهل یمکن تصور التعدد فی الذات اللامحدودة من جمیع الجهات؟! لو تصور التعدد لکان کلاهما محدودا. وعلیه فتوحید الذات الإلهیة لیس بمعنی الوحدة العددیة، بل بمعنی الوحدة بالنسبة للشبیه والنظیر وما شاکل ذلک، لا فی الذهن ولا فی الخارج. وحین یقال: قد یقتدح إلی ذهن البعض أنّ الخالق شمّر عن ساقیه ویدیه وانطلق من هنا إلی هنالک واجهد نفسه لخلق الموجودات؛ علی غرار ما نقوم به حین نصنع بعض الأشیاء، کلا:
«إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ»(2).
ثم تطرق إلی الصفة الثامنة والتاسعة فقال:
«وَالسَّمِیعِ لَابِأَدَاةٍ، وَالْبَصِیرِ لَابِتَفْرِیقِ آلَةٍ». والتوضیح الذی أورده الإمام علیه السلام منشأه ما یتوارد إلی الأذهان حین الحدیث
ص:27
عن السمع والبصر وما شابه ذلک إلی سمعنا وبصرنا الذی یتمّ من خلال بعض الوسائل من قبیل الاذن والعین، والحال سمعه وبصره سبحانه لیس بأداة، بل بحضور ذاته المطلقة فی کل مکان وفی ظاهر جمیع الأشیاء وباطنها. العبارة
«لَا بِتَفْرِیقِ آلَةٍ» یمکن أن تکون إشارة إلی نقطة وهی أنّ الإنسان إذا أراد رؤیة صورة کاملة - بیت مثلاً - ینبغی له أن یرکز بصره علی مختلف جوانب ذلک البیت، لیری أعلاه وأسفله وشرقه وغربه، وتنتقل عدّة صور إلی الدماغ لیقوم بترتیبها للظفر بصورة صحیحة تامة عن البیت. وبناءً علی هذا فوظیفة العین الأولی، التقاط الصور المستقلة، والثانیة، تحویلها إلی الدماغ لیرکبها مع بعضها. وهکذا بشأن مشاهدة حرکة معینة - کحرکة إنسان مثلاً - والعملیة أشبه بالتقاط الأفلام والتصویر، حیث تلتقط العین کل لحظة صورة لشکل ذلک الإنسان وهیئته، ثم تنقلها إلی الدماغ لیرکب هذه الصور واظهار الحرکة.
قال فی بیانه للصفة العاشرة والحادیة عشرة:
«وَالشَّاهِدِ لَابِمُماسَّةٍ، وَالْبَائِنِ لَا بِتَرَاخِی مَسَافَةٍ». إشارة إلی أنّ حضور اللّه فی کل مکان لا بمعنی الحضور المکانی من خلال الاتصال بالأشیاء، بل حضوره بمعنی احاطته الوجودیة بکل شیء، کما أنّ مباینته عن الأشیاء لیس علی نحو المسافة المکانیة أو الزمانیة، بل بمعنی أنّ ذاته فی ذروة الکمال وما سواه فی غایة النقص. لعل هنالک من یتصور تناقض هذه الصفات مع تلک التی ستأتی، فالبعد والقرب والعلو والدنو والظاهریة والباطنیة من الصفات التی لا یسع تفکیرنا جمعها مع بعضها؛ والأمر کذلک بالنسبة لهذه الصفات أن استعملت بشأن المخلوقات المحدودة من حیث الزمان والمکان ومختلف الجهات، غیر أنّ هذه الصفات المتضادة یمکن جمعها فی الذات المقدّسة اللامتناهیة، فرغم حضوره المطلق فی کافة الأمکنة (بمعنی إحاطته العلمیة بجمیع الأشیاء) لکن لیس له حضور مکانی فی أی مکان، ذلک لأنّه لیس بجسم لیحتاج إلی مکان.
ص:28
ثم خاض الإمام علیه السلام فی بیان الصفة الثانیة والثالثة عشرة فقال:
«وَالظَّاهِرِ لَا بِرُؤْیَةٍ، وَالْبَاطِنِ لَابِلَطَافَةٍ» أجل، فهو أظهر جمیع الأشیاء، فآثاره قد ملأت العالم بأسره فاصبح الوجود قبساً من صفات جلاله وجماله، وهو خفی لا علی شاکلة الأشیاء اللطیفة الغایة فی الصغر کالهواء، بل بمعنی عجز العقول عن إدراک کنه ذاته.
والصفة الرابعة عشرة:
«بَانَ مِنَ الْأَشْیَاءِ بِالْقَهْرِ لَهَا، وَالْقُدْرَةِ عَلَیْهَا، وَبَانَتِ الْأَشْیَاءُ مِنْهُ بِالْخُضُوعِ لَهُ، وَالرُّجُوعِ إِلَیْهِ» أی إن قیل إنّ اللّه بائن عن کل شیء، فذلک لا یعنی أنّه بعید عنّا، بل هو قریب منّا بمقتضی الأدلة الفلسفیة القطیعة وصریح الآیة القرآنیة: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَیْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِیدِ»(1) ، والمعنی أنّ قدرته قهرت کل شیء، فأین نحن من اللّه، وأین الثری من الثریا؟ کما أنّ بینونة الأشیاء عنه تعنی خضوع کل شیء لإرادته.
وقال فی الصفة الخامسة عشرة التی تنزه الذات عن الوصف:
«مَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ حَدَّهُ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ، وَمَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ، وَمَنْ قَالَ: «کَیْفَ» فَقَدِ اسْتَوْصَفَهُ، وَمَنْ قَالَ: «أَیْنَ» فَقَدْ حَیَّزَهُ(2)».
وتوضیح هذا الکلام: إننا کمخلوقات نعیش فی عالم الممکنات إنّما نقارن کل شیء بالنسبة لنا، ونصف اللّه فی أغلب الأحیان بأوصافنا الناقصة والمحدودة فنضفی علیه بعض صفات الممکنات وهذا هو وادی التشبیه الخطیر الذی حذرتنا الآیات والروایات من السقوط فیه. ومن هنا قال الإمام علیه السلام من وصف اللّه بهذه الصفات فقد حده ومن حد اللّه فإنّه سیتصور له شبیها لا محال وعلیه سیجعله فی قالب الأعداد فإن فعل ذلک أنکر علیه أزلیته وأبدیته، ذلک لأنّ هاتین الصفتین تترشحان من ذاته الغنیة عن الحدود، کما أنّ من یسأل عن کیفیة ذاته فقد نعته بصفات المخلوقات، ومن سأل عن مکانه أو زمانه فقد افترضه جسماً یقع ضمن
ص:29
دائرة المکان والزمان. ولعل هنالک من یری الوصف المذکور لیس بقوة الأوصاف السلبیة الثلاث عدم الحدودیة ونفی الکیفیة ونفی المکان علی الذات المقدّسة.
أمّا الصفات السادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة، فقال فی بیانها علیه السلام:
«عَالِمٌ إِذْ لَامَعْلُومٌ، وَرَبٌّ إِذْ لَامَرْبُوبٌ، وَقَادِرٌ إِذْ لَامَقْدُورٌ». إمّا أنّه عالم إذ لا معلوم فذلک لأنّه عالم بذاته وذاته مصدر جمیع الموجودات، وعلیه فالعلم بالذات هو فی الواقع علم بجمیع الموجودات التی لبست ثوب الوجود تدریجیاً فی العالم. وإمّا أنّه ربّ قبل وجود الموجودات فذلک لأنّ القدرة علی الربوبیة وربوبیة الموجودات عین ذاته المقدّسة، علی غرار قولنا: إنّ فلاناً مدیرا ومدبرا فی الوقت الذی لم یتسلّم فیه لحدّ الآن زمام الإدارة.
وأخیراً إن قیل هو قادر قبل وجود المقدور فإنّما یستند ذلک أیضاً إلی أنّ قدرته عین ذاته، وهکذا کقولنا إنّ فلاناً قادر علی القیام بالعمل الفلانی ولم یقم به لحدّ الآن. وزبدة الکلام فإنّ صفاته کالعلم والقدرة وجمیع الصفات الثبوتیه عین ذاته تبارک وتعالی، وعلیه فقد کان کل شیء قبل أن یوجد أی شیء، ولو تمعنا قلیلاً فهو الآن کل شیء وکل ما سواه لا شیء.
ص:30
منها: «قَدْ طَلَعَ طَالِعٌ، وَلَمَعَ لَامِعٌ، وَلَاحَ لَائِحٌ، وَاعْتَدَلَ مَائِلٌ؛ وَاسْتَبْدَلَ اللّهُ بِقَوْمٍ قَوْماً، وَبِیَوْمٍ یَوْماً؛ وَانْتَظَرْنَا الْغِیَرَ انْتِظَارَ الْمُجْدِبِ الْمَطَرَ. وَإِنَّمَا الْأَئِمَّةُ قُوَّامُ اللّهِ عَلَی خَلْقِهِ، وَعُرَفَاؤُهُ عَلَی عِبَادِهِ؛ وَلَا یَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ عَرَفَهُمْ وَعَرَفُوهُ. وَلَا یَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا مَنْ أَنْکَرَهُمْ وَأَنْکَرُوهُ. إِنَّ اللّهَ تَعَالَی خَصَّکُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَاسْتَخْلَصَکُمْ لَهُ، وَذلِکَ لِأَنَّهُ اسْمُ سَلَامَةٍ، وَجِمَاعُ کَرَامَةٍ.
اصْطَفَی اللّهُ تَعَالَی مَنْهَجَهُ، وَبَیَّنَ حُجَجَهُ، مِنْ ظَاهِرِ عِلْم، وَبَاطِنِ حِکَمٍ. لَا تَفْنَی غَرَائِبُهُ، وَلَا تَنْقَضِی عَجَائِبُهُ. فِیهِ مَرَابِیعُ النِّعَمِ، وَمَصَابِیحُ الظُّلَمِ، لَا تُفْتَحُ الْخَیْرَاتُ إِلَّا بِمَفَاتِیحِهِ، وَلَا تُکْشَفُ الظُّلُمَاتُ إِلَّا بِمَصَابِیحِهِ. قَدْ أَحْمَی حِمَاهُ، وَأَرْعَی مَرْعَاهُ. فِیهِ شِفَاءُ الْمُسْتَشْفِی، وَکِفَایَةُ الْمُکْتَفِی».
یعتقد البعض من شرّاح نهج البلاغة - کما ذکرنا سابقاً - بأنّ هذه الخطبة ولاسیما هذا المقطع منها یعالج مسائل الخلافة عقب مقتل عثمان وبیعة الأُمّة للإمام علیه السلام بالخلافة، والشاهد علی ذلک عباراتها وخاصة مایتعلق بأئمة المسلمین. علی کل حال فإنّ الإمام علیه السلام أشار هنا بادیء الأمر إلی ظهور خلافة الحق فقال:
«قَدْ طَلَعَ طَالِعٌ، وَلَمَعَ لَامِعٌ، وَلَاحَ لَائِحٌ، وَاعْتَدَلَ مَائِلٌ» تفید هذه العبارات بما لا یقبل الشک أنّ عهد حکومة عثمان کان من العهود المظلمة فی التاریخ الإسلامی، وذلک لأنّ بطانته وقرابته استاثرت بالسلطة وتسلطت علی کافة المقامات المهمّة فی البلاد
ص:31
وجعلت بیت المال جزءاً من ملکیتها الشخصیة فتعالت صرخات المحرومین إلی عنان السماء، ثم أشرقت من بعده شمس العدالة واحترقت سحب الظلم لتعود الحکومة إلی سابق عزّها علی عهد النبی الأکرم صلی الله علیه و آله. جدیر ذکره، هنالک خلاف بین شرّاح نهج البلاغة بشأن العبارات الثلاث الأولی، هل العطف فیها عطف تفسیری وأنّها تبیّن مطلباً واحداً (بزوغ شمس ولایة الحق) بعدّة عبارات، أم أنّ کل عبارة تشیر إلی معنیً معین. ویبدو الصحیح أنّ لکل عبارة معنیً معیّن؛ لأنّ الشمس إنّما تجتاز ثلاث مراحل حین البزوغ؛ الأولی: الخروج من الأفق، والثانیة: نشر شعاعها علی سطح الأرض، والثالثة: ارتفاع قرص الشمس وتوسطها للسماء وطلوعها للجمیع. وکل عبارة من العبارات الثلاث تشیر إلی مرحلة من هذه المراحل؛ أی أشرقت شمس الولایة وألقت بأشعتها علی الأرض وبالتالی ارتفعت لتستقر فی قلب السماء.
ثم واصل علیه السلام کلامه بالقول:
«وَاسْتَبْدَلَ اللّهُ بِقَوْمٍ قَوْماً، وَبِیَوْمٍ یَوْماً؛ وَانْتَظَرْنَا الْغِیَرَ انْتِظَارَ الْمُجْدِبِ الْمَطَرَ». حیث تشیر هذه العبارات بوضوح إلی أنّ الحوادث التی وقعت علی عهد عثمان لم تکن بعیدة عن التوقع، فکلّ شخص عاقل کان یتکهّن بأنّ مثل هذه الحکومة التی تتسلم فیها القرابة مقدّرات البلاد دون رادع أو وازع سوف لن یکتب لها النجاح وأنّها ترعرع نطفة الثورة فی رحمها، وهذه سنّة إلهیة جاریة طیلة التاریخ، ولعل مَن أشکل علی علی علیه السلام ما ورد فی هذه العبارة أنّه کان ینتظر مقتل عثمان، قد غفل عمّا ذکرناه آنفاً من أنّ تلک الأحداث کانت متوقعة من قبل شخص فطن، بعبارة أخری إنّما کان ذلک نتیجة طبیعیة لتلک الأعمال. أضف إلی ذلک فانّ الإمام علیه السلام لم یکن راضیاً بقتل عثمان - بل ینتظر التغییرات علی غرار من ینتظر المطر حین الجفاف؛ ویاله من تعبیر رائع! فالبلاد الإسلامیة أصبحت إثر ظلم بطانة عثمان وکأنّها صحراء مقفرة وقد أمطرتها السماء بزوال عثمان وظهور حکومة العدل العلوی. وقد تعرض ابن أبی الحدید المعتزلی لهذه القضیة من خلال
ص:32
إثارته لسؤال والإجابة عنه.
فقد سأل نفسه بادیء الأمر: هل یصح حسب عقیدة المعتزلة أن ینتظر علی علیه السلام قتل عثمان انتظار نزول المطر حین الجفاف؟ أو لیس هذا دلیلاً علی حقّانیة الشیعة؟ ثم قال ابن أبی الحدید فی مقام الجواب عن هذا السؤال: إنّ علیاً علیه السلام لم یقل کنّا ننتظر قتله، بل کان ینتظر بعض التغییرات کعزله عن الخلافة، لأننا نعتقد أنّه کان یری أعماله توجب ضرورة عزله لا قتله، وهذا ینسجم مع عقیدتنا، کما تعرّض لسؤال آخر وهو: هل تعتقد المعتزلة أنّ علیاً علیه السلام کان یعتبر عثمان فاسقاً یجب عزله عن الخلافة؟ فیجیب: إنّ المعتزلة لا تری ذلک، بل تعتقد إنّ علیاً علیه السلام کان یری عثمان شخصاً ضعیفاً لا یستطیع تدبیر أمور المسلمین، وذلک لأنّه قرب بطانته وسلّطهم علی بیت مال المسلمین حتی قاموا علیه(1).
ثم تطرّق الإمام علیه السلام مواصلاً کلامه إلی منزلة أئمة الهدی فقال:
«وَإِنَّمَا الْأَئِمَّةُ قُوَّامُ اللّهِ عَلَی خَلْقِهِ، وَعُرَفَاؤُهُ(2) عَلَی عِبَادِهِ؛ وَلَا یَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ عَرَفَهُمْ وَعَرَفُوهُ.
وَلَا یَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا مَنْ أَنْکَرَهُمْ وَأَنْکَرُوهُ». وهذه العبارة تفید أنّ نصب الإمام علیه السلام من قبل اللّه تعالی لا من قبل الناس وإن کانت هنالک من بیعة وإنتخاب فبغیة تنسیق الأعمال والنهوض بمستوی الأُمّة وتطویر شؤونها، والمفردة
«قُوَّامُ» إشارة إلی تدبیر شؤون الخلق والعرفاء جمع عریف إشارة إلی أنّ هؤلاء الأئمّة بفعل معرفتهم بالآخرین وعلمهم بالظروف الزمانیة والمکانیة وخبرتهم بمصالح الناس ومفاسدهم إنّما یضعون کلّ فرد فی موضعه المناسب ویباشرون کلّ عمل بموعده وفی وقته.
وأمّا العبارة
«وَلَا یَدْخُلُ الْجَنَّةَ...
وَلَا یَدْخُلُ النَّارَ» تأکید لما قیل فی العبارات السابقة؛ فلو سلّمنا أنّهم نُصبوا من قبل اللّه، فمن تبعهم وسار علی نهجهم وقبلوا عمله کان من الداخلین إلی الجنّة، ومن أنکرهم فقد أنکر فی واقع الأمر أوامر اللّه،
ص:33
ومثل هذا الفرد یدخل النار. وطبعاً کلّ هذه العبارات تنسجم مع المدرسة الشیعیة التی تری نصب الإمام من قبل اللّه بواسطة النبی أو مَن سبقه من إمام، وتراه معیار الفرقان بین الحق والباطل، وتعتقد بعدم اتّصاف من یختاره الناس بهذه المقامات ولعله یسیر فیهم بالخطأ والظلم والعدوان، ومن هنا ورد فی الحدیث الشریف:
«مَن ماتَ وَلَمْ یَعْرِفْ إِمامَ زَمانِهِ ماتَ مِیتَةَ الجاهِلِیةِ»(1) والغریب إصرار ابن أبی الحدید علی أنّ هذه العبارة صادقة علی جمیع الخلفاء من بعد النبی صلی الله علیه و آله والحال عرض الإمام علیه السلام فی العبارات السابقة بالذم الشدید لحکومة عثمان؛ الأمر الذی یتناقض صراحة مع ما استنبطه ابن أبی الحدید. بل کیف یکون ذلک الخلیفة الضعیف - الذی جعل کافة مناصب الدولة الإسلامیة وبیت مال المسلمین ومقدّراتهم تحت تصرف قرابته الانتهازیة الهزیلة من عبدة الأهواء حتی قامت ضدّهم جموع المسلمین وأباحوا دماءَهم وقد صمت إزاء ذلک أغلب الصحابة - مصداقاً لقول الإمام علیه السلام: قوّام اللّه علی خلقه وعرفاؤه علی عباده؟ لیدخل من أذعن له الجنّة ومن أنکره النار؟! ورد فی الحدیث الشریف أنّ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله قال لأمیر المؤمنین علی علیه السلام:
«ثَلاثَةٌ أُقْسِمُ أَنَّهُنَّ حَقٌ، إِنَّکَ وَالأَوصِیاءِ مِنْ بَعدِکَ عُرَفاءٌ، لایُعْرَفُ اللّهَ إلّا بِسَبِیلِ مَعْرِفَتِکُم، وَعُرَفاءٌ لایَدْخُلُ الجَنَّةَ إلّامَنْ عَرَفَکُم وَعَرَفْتُمُوه، وَعُرَفاءٌ لا یَدْخُلُ النَّارَ إِلّا مَنْ أَنْکَرکُم وَأَنْکَرْتُمُوهُ»(2).
ثم أشار الإمام علیه السلام إلی أعظم النعمة التی منّ اللّه بها علی المسلمین:
«إِنَّ اللّهَ تَعَالَی خَصَّکُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَاسْتَخْلَصَکُمْ لَهُ» أجل، إنّ اللّه تعالی خصّکم بهذه النعمة العظیمة ورآکم أهلاً للذود عنه.
ثم أضاف:
«وَذلِکَ لِأَنَّهُ اسْمُ سَلَامَةٍ، وَجِمَاعُ کَرَامَةٍ». ووضح ذلک بالقول:
«اصْطَفَی اللّهُ تَعَالَی مَنْهَجَهُ، وَبَیَّنَ حُجَجَهُ، مِنْ ظَاهِرِ عِلْم، وَبَاطِنِ حِکَمٍ». لعلّ
ص:34
الضمیر فی
«منهجه» و «حججه» یعود إلی اللّه أو الإسلام والنتیجة واحدة لکلیهما، والعبارة
«ظَاهِرِ عِلْم» إشارة إلی الأدلة العقلیة التی تثبت حقانیة الإسلام، کما أنّ العبارة
«بَاطِنِ حِکَمٍ» إشارة إلی أسرار الأحکام الشرعیة المبیّنة فی الأدلة النقلیة.
نعم، الإسلام دین السلامة وشرعة الکرامة، ودعوته أینما کان إلی الحب والسلام والوئام والتحذیر من البغض والعنف والعداوة حیث یخاطب المؤمنین: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِی السِّلْمِ کَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّیْطَانِ إِنَّهُ لَکُمْ عَدُوٌّ مُبِینٌ»(1). أضف إلی ذلک فإنّه مصدر الکرامة الإنسانیة وداعیة العدل والمساواة والحریة وتنمیة الفکر والبیان والورع والتقوی ومکارم الاخلاق. والحق أنّ المسلمین أفضل سند ودرع للذود عن الإسلام وقد ضحّوا بالغالی والنفیس طیلة التاریخ من أجل إسلامهم وسعوا جاهدین لحفظ بیضته وکیانه، ولما کانت هذه العبارات تختزن إشارة واضحة إلی القرآن الکریم، فقد أردفها ببیان خصائص هذا الکتاب السماوی بما یربو علی عشر صفات فقال:
«لَا تَفْنَی غَرَائِبُهُ، وَلَا تَنْقَضِی عَجَائِبُهُ. فِیهِ مَرَابِیعُ(2) النِّعَمِ، وَمَصَابِیحُ الظُّلَمِ، لَاتُفْتَحُ الْخَیْرَاتُ إِلَّا بِمَفَاتِیحِهِ وَلَا تُکْشَفُ الظُّلُمَاتُ إِلَّا بِمَصَابِیحِهِ» فقد أشار الإمام علیه السلام بهذه العبارات إلی ست صفات مهمة للقرآن الکریم کل واحدة منها أروع من الأخری، فذکر بادیء الأمر أن غرائب القرآن (صفاته البارزة الفریدة) لا تفنی أبداً ولا یعتریها غبار القدم فتتآکل، فهی غضّة طریة علی الدوام، وأشار فی الصفة الثانیة إلی التجدد والحیویة التی تبدو علیه کلّ یوم فقال: إنّها لا تنقضی؛ وعلیه فالفارق بین
«الغرائب» و
«العجائب» و «الفناء» و «الانقضاء» أن الأُولی إشارة الصفات البارزة التی کان وسیظل یتحلی بها القرآن، والثانیة إشارة إلی نقاط مهمّة تظهر کلّ یوم من تقادم الزمان وکثرة القراءة، وهذا ما ورد فی الحدیث المروی
ص:35
عن الإمام الصادق علیه السلام حین سئل:
«ما بالُ القُرآنِ لایَزدَادُ عَلی النَّشرِ وَالدَّرسِ إلّا غَضَاضَةً؟ قَالَ: لأَنَّ اللّهَ تَعالی لَمْ یَجْعَلْهُ لِزمانٍ دُونَ زَمانٍ وَلا لِناسٍ دُونَ ناسٍ فَهُو فِی کُلِّ زَمانٍ جَدِیدٍ وَعِنْدَ کُلِّ قَومٍ غَضٍّ إِلی یَومِ القِیامَةِ»(1).
ثم شبّهه فی الصفة الثالثة بالأرض الملیئة بالنبات وتفیض بالنعم فی فصل الربیع، ونعلم جمیعاً ما علیه نبات الربیع من طراوة ولطافة وطعم عذب، کما شبّهه فی الصفة الرابعة بمصابیح النور التی تخترق دهالیز الظلمة وتضیء بنورها کلّ شیء، بینما حصر فی الصفتین الخامسة والسادسة سبل نیل الخیرات بالقرآن، إشارة إلی خطأ من یبحث عن مفاتح الخیر خارج القرآن ویستعین بغیره فی ضیاء عتمة القلب وظلمة المجتمع.
ثم اختتم کلامه بالإشارة إلی أربع صفات أخر فی أنّ القرآن قد أوضح الحلال والحرام والمباح، فهو الشفاء لمن استشفاه والکفایة لمن استکفاه
«قَدْ أَحْمَی حِمَاهُ(2) ، وَأَرْعَی(3) مَرْعَاهُ. فِیهِ شِفَاءُ الْمُسْتَشْفِی، وَکِفَایَةُ الْمُکْتَفِی». فقد أشار الإمام علیه السلام فی هذه الأوصاف إلی النظام القانونی القرآنی حیث بین الأصول الکلیة للحلال والحرام بصورة تامة وعرض سبل مواجهة الأمراض الأخلاقیة والمفاسد الإجتماعیة علی عمق هذه العبارة مالم یتعرف علی القرآن. أجل إنّ علاج الأمراض الخلقیة والإنحرافات الفکریة والمشاکل الإجتماعیة کافّة، فی القرآن. ومن کان القرآن معه وکان مع القرآن فقد ظفر بکل شیء، کما قال الإمام علیه السلام فی خطبة أخری:
«وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَیْسَ عَلَی أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ وَلاَ لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنًی»(4). ومن هنا بلغ
ص:36
ذلک المجتمع شبه الوحشی فی الجاهلیة تلک المنزلة المرموقة فی ظل تعالیم القرآن بعد أن کان یعیش منتهی الفقر الأخلاقی والإقتصادی والإجتماعی، وما یجدر ذکره أنّ بعض شرّاح نهج البلاغة یری أنّ الصفات المذکورة تعود إلی الإسلام لا القرآن والضمائر کذلک، ولکن بالنظر إلی ورود مثل هذه العبارات فی سائر خطب نهج البلاغة بشأن القرآن، یتضح أنّ المراد بتلک الأوصاف هو القرآن وإن لم ترد مفردة القرآن فی نصوص العبارة، ناهیک عن عدم اختلاف النتیجة مهما کان المراد(1).
ص:37
ص:38
وَمِنْ خُطْبِةٍ لَهُ علیه السلام
هذه الخطبة قطوف مختارة من خطبة طویلة للإمام علیه السلام. یتحدث فی القسم الأول عن صفات الأفراد الفاسدین والمفسدین لیتعرّف علیهم الناس ولیبتعدوا عنهم.
وأشار فی القسم الثانی إلی ممیزات الغافلین الذین لا یفیقون إلّاحین ضیاع الفرصة وفوات الأوان فیبتلون بشر أعمالهم. ویعرض فی القسم الثالث بالوعظ والنصح لهم لینهضوا من سباتهم ویصلحوا أمر آخرتهم. وتطرق فی الفصل الرابع إلی بعض الأمور الخطیرة التی تحبط الأعمال وتحول دون النجاة. ویختتم الخطبة فی القسم الخامس بالمقارنة بین صفات البهائم والسباع والناس من أصحاب الدنیا والمؤمنین.
ص:39
ص:40
«وَهُوَ فِی مُهْلَةٍ مِنَ اللّهِ یَهْوِی مَعَ الْغَافِلِینَ، وَیَغْدُومَعَ الْمُذْنِبِینَ، بِلَا سَبِیلٍ قَاصِدٍ، وَلَا إِمَامٍ قَائِدٍ».
یعتقد بعض شرّاح نهج البلاغة - کما ذکرنا سابقاً - أنّ الإمام علیه السلام أورد هذه الخطبة أثناء حرکته إلی البصرة للقضاء علی فتنة طلحة والزبیر وعائشة وضمّنها جانباً من الوعظ والنصح والإرشاد. تحدّث علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة عن الإنسان الضال - والذی یتجلی نموذجه فی مشعلی فتیل معرکة الجمل - علی ضوء أربع صفات تمیّزه، فقد منحه اللّه الفرصة فی عمره لیباشر الأعمال الصالحة من أجل الظفر بالسعادة الأبدیة، ولکنه لا ینفک عن ملازمة الغافلین والمذنبین الذین یسلکون به مهاوی الردی، دون أن یسیر علی الحق ویقتدی بزعیم حق
«وَهُوَ فِی مُهْلَةٍ مِنَ اللّهِ یَهْوِی(1) مَعَ الْغَافِلِینَ، وَیَغْدُومَعَ الْمُذْنِبِینَ، بِلَا سَبِیلٍ قَاصِدٍ، وَلَا إِمَامٍ قَائِدٍ». نعم أنّ أسباب بؤسه وشقائه تکمن فی أربعة أمور؛ ملازمة الغافلین والآثمین، وعدم السیر علی طریق الحق إلی جانب عدم الإقتداء بالإمام الصالح.
ولعلّ العبارة
«إِمَامٍ قَائِدٍ» إشارة إلی الإمام المعصوم علیه السلام أو کلّ عالم صالح من أتباع المعصومین علیهم السلام وعلی کلّ حال فإنّ الإمام علیه السلام یفصح عن دور القائد الصالح
ص:41
فی هدایة الناس ونجاتهم، کما یوضح دور ملازمة أهل الغفلة والمعصیة فی بؤس الإنسان وسقوطه.
ص:42
منها: «حَتَّی إِذَا کَشَفَ لَهُمْ عَنْ جَزَاءِ مَعْصِیَتِهِمْ، وَاسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ جَلَابِیبِ غَفْلَتِهِمُ اسْتَقْبَلُوا مُدْبِراً، وَاسْتَدْبَرُوا مُقْبِلاً، فَلَمْ یَنْتَفِعُوا بِمَا أَدْرَکُوا مِنْ طَلِبَتِهِمْ، وَلَا بِمَا قَضَوْا مِنْ وَطَرِهِمْ.
إِنِّی أُحَذِّرُکُمْ، وَنَفْسِی، هذِهِ الْمَنْزِلَةَ. فَلْیَنْتَفِعِ امْرُؤٌ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّمَا الْبَصِیرُ مَنْ سَمِعَ فَتَفَکَّرَ، وَنَظَرَ فَأَبْصَرَ، وَانْتَفَعَ بِالْعِبَرِ، ثُمَّ سَلَکَ جَدَداً وَاضِحاً یَتَجَنَّبُ فِیهِ الصَّرْعَةَ فِی الْمَهَاوِی، وَالضَّلَالَ فِی الْمَغَاوِی وَلَا یُعِینُ عَلَی نَفْسِهِ الْغُواةَ بِتَعَسُّفٍ فِی حَقٍّ، أَوْ تَحْرِیفٍ فِی نُطْقٍ، أَوْ تَخَوُّفٍ مِنْ صِدْقٍ».
لما أشار الإمام علیه السلام إلی غفلة أصحاب الدنیا أردفها بعدم دیمومتها وطرحها قریباً حین یصفعهم الموت ویخرجهم من غفلتهم، وعلیه فمدی هذه الغفلة
«حَتَّی إِذَا کَشَفَ لَهُمْ عَنْ جَزَاءِ مَعْصِیَتِهِمْ، وَاسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ جَلَابِیبِ(1) غَفْلَتِهِمُ اسْتَقْبَلُوا مُدْبِراً، وَاسْتَدْبَرُوا مُقْبِلاً» أجل، عمر الدنیا قصیر فإن أشرف الإنسان علی الموت وأُزیلت عن عینه البرزخیة حجب الغفلة ورأی أعماله آنذاک عندئذٍ یتغیّر کلّ شیء ویواجه حقیقة الموقف. ومن هنا یخلص الإمام علیه السلام إلی نتیجة واضحة
«فَلَمْ یَنْتَفِعُوا بِمَا أَدْرَکُوا مِنْ طَلِبَتِهِمْ، وَلَا بِمَا قَضَوْا مِنْ وَطَرِهِمْ(2)». قد ظن هؤلاء بخلودهم فی الدنیا
ص:43
بما جنوا من تلک الأموال الطائلة والقصور الفارهة والبساتین الواسعة والخدم والحشم لکنّهم ودّعوها فی الحال وأصبحوا تحت التراب.
کأنّ العبارة الأولی تشیر إلی أولئک الأفراد الذین لم ینتفعوا قط بإمکاناتهم (مثلاً شیّدوا قصراً فلم یتنعموا به حتی أتاهم الأجل). والعبارة الثانیة إشارة إلی أولئک الذین تمتعوا قلیلاً بإمکاناتهم ثم حال بینهم وبینها الموت من قبیل ذلک الذی بنی قصراً، وما أن حلّ فیه حتی أخرجه الموت منه.
ثم استطرد الإمام علیه السلام لیسدی بعض النصائح والمواعظ التی تقود إلی السعادة والفلاح بعد أن حذّر من الحیاة العصیبة التی یعیشها أهل الغفلة
«إِنِّی أُحَذِّرُکُمْ، وَنَفْسِی، هذِهِ الْمَنْزِلَةَ». ثم بین أثر ذلک، سبیل النجاة من هذه الغفلة القاتلة من خلال خمسة تعالیم فقال:
«فَلْیَنْتَفِعِ امْرُؤٌ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّمَا الْبَصِیرُ مَنْ سَمِعَ فَتَفَکَّرَ، وَنَظَرَ فَأَبْصَرَ، وَانْتَفَعَ بِالْعِبَرِ، ثُمَّ سَلَکَ جَدَداً(1) وَاضِحاً یَتَجَنَّبُ فِیهِ الصَّرْعَةَ فِی الْمَهَاوِی(2) ، وَالضَّلَالَ فِی الْمَغَاوِی(3)» فالإمام علیه السلام یخاطب نفسه والآخرین بادیء الأمر لیأخذ النصح موضعه من قلوب الآخرین، وذلک لأنّ المستمع إنّما یتفاعل مع الواعظ الذی یمزج القول بالعمل ولا یترفع عن الآخرین. ثم یحذّر الجمیع من أنّ اللّه أسبغ علیهم ما لا یُحصی من النعم وأودعهم مختلف الإستعدادات والقابلیات بغیة استثمارها والإنتفاع بها من خلال تفعیل السمع بالأذن والنظر بالعین والإنفتاح علی تجارب الآخرین وسلوک السبیل القویم الذی یجنبهم الإنحراف والضلال.
وأخیراً یحذّر الإمام علیه السلام من تمکین الغواة من النفس:
«وَلَا یُعِینُ عَلَی نَفْسِهِ الْغُواةَ(4) بِتَعَسُّفٍ(5) فِی حَقٍّ، أَوْ تَحْرِیفٍ فِی نُطْقٍ، أَوْ تَخَوُّفٍ مِنْ صِدْقٍ». إشارة إلی أنّ
ص:44
البعض من الأفراد الضعاف النفوس والذین یمیلون إلی الدعة والراحة حین یواجهون الغواة من الأفراد یسعون إلی التغاضی عن بعض الحقائق أو المداهنة فی بیان الحق أو الخشیة من الصدق والصراحة بهدف الحدّ من معارضتهم وهذا ما یؤدّی إلی تسلط أولئک الغواة وتفاقم جرأتهم بما یجعل من المتعذر الوقوف بوجوههم. وعلیه لابدّ من اعتماد الصراحة المفعمة بالأدب والشفقة فی بیان الحقائق والإبتعاد عن الخشیة، فالغواة عادة ما یتراجعون وینکسرون إزاء المواقف الشجاعة، وقد دلّت بعض النماذج التی حفل بها التأریخ علی أنّ الأفراد الذین یحرّفون الحقائق ویکتمون الواقع إنّما أسهموا فی مضاعفة المشاکل التی جرّت علیهم وعلی مجتمعاتهم الویلات. فقصة قریة الحوأب المعروفة فی معرکة الجمل معروفة. حیث سمعت عائشة من النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال لها:
«فِیکُنَّ مَنْ تَنبَحها کِلابُ الحَوأب». وحین انطلق أصحاب الجمل إلی البصرة وبلغوا الحوأب سمعت عائشة ذلک النباح، فسألت عن اسم الموضع فقیل لها: الحوأب. فعزمت علی العودة إلی المدینة، فاعترضها محمد بن طلحة وقال لها: هذه لیست الحوأب، ثم أتی ببعض الأفراد وشهدوا لها زوراً، فواصلت مسیرها.
وما أکثر القصص من هذا القبیل فی الماضی والحاضر(1).
ص:45
ص:46
«فَأَفِقْ أَیُّهَا السَّامِعُ مِنْ سَکْرَتِکَ، وَاسْتَیْقِظْ مَنْ غَفْلَتِکَ، وَاخْتَصِرْ مِنْ عَجَلَتِکَ، وَأَنْعِمِ الْفِکْرَ فِیمَا جَاءَکَ عَلَی لِسَانِ النَّبِیِّ الْأُمِّیِّ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا لَابُدَّ مِنْهُ وَلَا مَحِیصَ عَنْهُ؛ وَخَالِفْ مَنْ خَالَفَ ذلِکَ إِلَی غَیْرِهِ، وَدَعْهُ وَمَا رَضِیَ لِنَفْسِهِ؛ وَضَعْ فَخْرَکَ، وَاحْطُطْ کِبْرَکَ، وَاذْکُرْ قَبْرَکَ، فَإِنَّ عَلَیْهِ مَمَرَّکَ، وَکَمَا تَدِینُ تُدَانُ، وَکَمَا تَزْرَعُ تَحْصُدُ، وَمَا قَدَّمْتَ الْیَوْمَ تَقْدَمُ عَلَیْهِ غَداً، فَامْهَدْ لِقَدَمِکَ، وَقَدِّمْ لِیَوْمِکَ. فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَیُّهَا الْمُسْتَمِعُ! وَالْجِدَّ الْجِدَّ أَیُّهَا الْغَافِلُ! «وَلَا یُنَبِّئُکَ مِثْلُ خَبِیرٍ»».
خاض الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة بعد تلک التحذیرات السابقة فی إسداء الوعظ والنصح بعبارات قصیرة عمیقة المعنی فخاطب مستمعه قائلاً:
«فَأَفِقْ(1) أَیُّهَا السَّامِعُ مِنْ سَکْرَتِکَ، وَاسْتَیْقِظْ مَنْ غَفْلَتِکَ، وَاخْتَصِرْ مِنْ عَجَلَتِکَ». إشارة إلی أنّ زخرف الدنیا والمال والمقام والشهرة تسکر الإنسان وتقذفه فی سبات الغفلة وتضطرّه للعجلة دون التروی والتریث، وتورث هذه الأمور مختلف المعاصی والذنوب والأخطاء، وهل یرتجی من السکران سوی الخطأ والزلل؟
ثم قال علیه السلام:
«وَأَنْعِمِ الْفِکْرَ فِیمَا جَاءَکَ عَلَی لِسَانِ النَّبِیِّ الْأُمِّیِّ (2)- صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ
ص:47
وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا لَابُدَّ مِنْهُ وَلَا مَحِیصَ عَنْهُ؛ وَخَالِفْ مَنْ خَالَفَ ذلِکَ إِلَی غَیْرِهِ وَدَعْهُ وَمَا رَضِیَ لِنَفْسِهِ» فقد دعی بادیء الأمر إلی الاتباع التام للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله، فما یقوله علیه السلام هو الوحی السماوی الذی یهدف إلی سعادة الإنسان فی الدنیا والآخرة. ثم یوصی علیه السلام بمخالفة من یخالف ذلک مهما کثر عدد المخالفین واتباع الحق دون أدنی شک وریبة أو إکتراث للآخرین.
وواصل علیه السلام نصحه قائلا:
«وَضَعْ فَخْرَکَ، وَاحْطُطْ(1) کِبْرَکَ، وَاذْکُرْ قَبْرَکَ» فقد أشار الإمام علیه السلام فی هذه الوصایا الثلاث إلی أساس الشر والفساد الذی یتمثل فی الفخر والکبر التی لن تجعل الإنسان یذوق طعم السعادة ما لم یطرحها جانباً، وسیکون مصیره مصیر الشیطان الذی قاده نحو فخره وکبره. وتطرق علیه السلام بعد ذلک إلی القبر الذی یسوق نسیانه الإنسان إلی طول الأمل والانغماس فی الدنیا، وهو الموضع الذی یتساوی فیه الجمیع وهذا ما ورد فی الکلمة القصیرة رقم 398 من قصار الکلمات وهذا یدلّ علی أنّ السید الرضی کان یقتطف أحیاناً الکلمات القصار من بعض الخطب الطویلة.
ثم أورد علیه السلام ثلاث نصائح أخری منسجمة مع بعضها، فقال:
«وَکَمَا تَدِینُ تُدَانُ، وَکَمَا تَزْرَعُ تَحْصُدُ، وَمَا قَدَّمْتَ الْیَوْمَ تَقْدَمُ عَلَیْهِ غَداً، فَامْهَدْ(2) لِقَدَمِکَ، وَقَدِّمْ لِیَوْمِکَ».
کیف ینتظر الإنسان من اللّه أن یعفو عن سیئاته ویجازیه بالاحسان وهو یظلم الآخرین ویقابل الاحسان بالإساءة؟ أم کیف ینتظر الورد من یزرع الشوک؟! الواقع
ص:48
هو أنّ هذه النصائح مستقاة من الآیات القرآنیة والأحادیث النبویة، فاللّه: «مَلِکِ یَوْمِ الدِّینِ» وفی الحدیث:
«الدُّنیا مَزرَعَةُ الآخِرةِ» والآیة الشریفة: «وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ»(1) والآیة الکریمة: «وَمَا تُقَدِّمُوا لِاَنفُسِکُمْ مِنْ خَیْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ»(2). ثم یعود الإمام علیه السلام فی ختام الخطبة الی ذات المطلب الذی ابتدأ به لیوقظ الغافلین ثانیة من سباتهم ویسوقهم إلی الجد والاجتهاد فیقول:
«فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَیُّهَا الْمُسْتَمِعُ! وَالْجِدَّ الْجِدَّ أَیُّهَا الْغَافِلُ! «وَلَا یُنَبِّئُکَ مِثْلُ خَبِیرٍ»». العبارة الأخیرة المقتبسة من الآیة 14 من سورة فاطر إشارة إلی أنّ أی شخص لا یضاهی القائل فی بیانه لحقیقة الموت والحیاة وحاضر الإنسان وغده ومصیره فی المستقبل وعاقبته فی الآخرة.
وقد قال أحد شرّاح نهج البلاغة: إنّ من یتأمل خطب أمیر المؤمنین علیه السلام ورسائله وقصار کلماته یکتشف بوضوح أنّ أحداً لا یسعه التحدث بهذه الدقة والرقة عن الدنیا وماهیتها وبدایتها ونهایتها.
قال الشاعر بشأن النصائح الأخیرة فی الخطبة:
هِیَ الدُّنیا تَقُولُ بِمَل فِیها
ص:49
ص:50
«إِنَّ مِنْ عَزَائِمِ اللّهِ فِی الذِّکْرِ الْحَکِیمِ، الَّتِی عَلَیْهَا یُثِیبُ وَیُعَاقِبُ، وَلَهَا یَرْضَی وَیَسْخَطُ، إِنَّهُ لَایَنْفَعُ عَبْداً - وَإِنْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ، وَأَخْلَصَ فِعْلَهُ - أَنْ یَخْرُجَ مِنَ الدُّنْیَا، لَاقِیاً رَبَّهُ بِخَصْلَةٍ مِنْ هذِهِ الْخِصَال لَمْ یَتُبْ مِنْهَا: أَنْ یُشْرِکَ بِاللّهِ فِیمَا افْتَرَضَ عَلَیْهِ مِنْ عِبَادَتِهِ، أَوْ یَشْفِیَ غَیْظَهُ بِهَلَاکِ نَفْسٍ، أَوْ یَعُرَّ بِأَمْرٍ فَعَلَهُ غَیْرُهُ، أَوْ یَسْتَنْجِحَ حَاجَةً إِلَی النَّاسِ بِإِظْهَارِ بِدْعَةٍ فِی دِینِهِ، أَوْ یَلْقَی النَّاسَ بِوَجْهَیْنِ، أَوْ یَمْشِیَ فِیهِمْ بِلِسَانَیْنِ. اعْقِلْ ذلِکَ فَإِنَّ الْمِثْلَ دَلِیلٌ عَلَی شِبْهِهِ.
إِنَّ الْبَهَائِمَ هَمُّهَا بُطُونُهَا؛ وَإِنَّ السِّبَاعَ هَمُّهَا الْعُدْوَانُ عَلَی غَیْرِهَا؛ وَإِنَّ النِّسَاءَ هَمُّهُنَّ زِینَةُ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَالْفَسَادُ فِیهَا؛ إِنَّ الْمُؤْمِنِینَ مُسْتَکِینُونَ.
إِنَّ الْمُؤْمِنِینَ مُشْفِقُونَ. إِنَّ الْمُؤْمِنِینَ خَائِفُونَ».
حذر الإمام علیه السلام مخاطبیه فی المقطع السابق من الخطبة من سبات الغفلة وحثهم علی الجد والاجتهاد، لیشیر هنا إلی خمسة من الذنوب الکبیرة الخطیرة التی لا یقبل عمل العبد دون التوبة منها، فقال:
«إِنَّ مِنْ عَزَائِمِ اللّهِ فِی الذِّکْرِ الْحَکِیمِ، الَّتِی عَلَیْهَا یُثِیبُ وَیُعَاقِبُ، وَلَهَا یَرْضَی وَیَسْخَطُ، إِنَّهُ لَایَنْفَعُ عَبْداً - وَإِنْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ، وَأَخْلَصَ فِعْلَهُ - أَنْ یَخْرُجَ مِنَ الدُّنْیَا، لَاقِیاً رَبَّهُ بِخَصْلَةٍ مِنْ هذِهِ الْخِصَال لَمْ یَتُبْ مِنْهَا». العبارة
«وَأَخْلَصَ فِعْلَهُ» - مع العلم، یتعذر الإخلاص فی العمل لمن اتصف بهذه الخصال
ص:51
السیئة - تبدو إشارة إلی الإخلاص المرحلی والآنی حین ینسی فی لحظة کل هذه المساویء من قبیل التصدق فی سبیل اللّه ومد العون للفقیر، إلّاأنّ هذا الإخلاص لایدوم حتی یحل محله الشرک والنفاق والبدعة.
ثم خاض الإمام علیه السلام فی شرح هذه الخصال المتمثلة بالشرک وقتل النفس والتهمة والبدعة والنفاق حیث بین کل واحدة منها بعبارة قصیرة فقال:
«أَنْ یُشْرِکَ بِاللّهِ فِیمَا افْتَرَضَ عَلَیْهِ مِنْ عِبَادَتِهِ، أَوْ یَشْفِیَ غَیْظَهُ بِهَلَاکِ نَفْسٍ، أَوْ یَعُرَّ(1) بِأَمْرٍ فَعَلَهُ غَیْرُهُ، أَوْ یَسْتَنْجِحَ حَاجَةً إِلَی النَّاسِ بِإِظْهَارِ بِدْعَةٍ فِی دِینِهِ، أَوْ یَلْقَی النَّاسَ بِوَجْهَیْنِ، أَوْ یَمْشِیَ فِیهِمْ بِلِسَانَیْنِ. اعْقِلْ ذلِکَ فَإِنَّ الْمِثْلَ دَلِیلٌ عَلَی شِبْهِهِ». وعلی هذا الضوء فإنّ أول کبیرة هی الشرک. فی عبودیة اللّه؛ وهی الکبیرة التی مالم یتب عنها العبد لن ینال عفو اللّه ومغفرته «إِنَّ اللّهَ لَایَغْفِرُ أَنْ یُشْرَکَ بِهِ وَیَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِکَ لِمَنْ یَشَاءُ»(2).
والکبیرة الأخری اطفاء الإنسان لغضبه بسفک دم الآخرین، حیث ورد فی القرآن: «وَمَنْ یَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِیهَا»(3). ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ العبارة تشمل الانتحار وقتل النفس أیضاً، إلّا أنّ المعنی الأول هو المراد من ظاهر الآیة. علی کل حال فإنّ البعض اعتبر الآیة دلیلاً علی أنّ قتل النفس البریئة یؤدّی بالقاتل إلی الموت علی الکفر، لأنّ الخلود فی جهنم یختص بالکافرین، أمّا بالنسبة للخصلة الثالثة، اتهام الأفراد بما لم یقارفوا من أعمال هو فی الواقع قتل لشخصیة الآخرین وإراقة ماء وجوههم. الأمر الذی تعدّه بعض الروایات بمثابة إراقة الدم.
وأمّا الخصلة الرابعة أی البدعة فی الدین بهدف نیل المال والمقام فیکفی فی ذمها ما ورد عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:
«أَهْلُ البِدَعِ شَرُّ الخَلْقِ وَالخَلِیقَةِ، أهْلُ
ص:52
البِدَعِ کِلابُ أهْلِ النَّارِ»(1).
وأخیراً خصلة النفاق التی قال بشأنها القرآن الکریم: «وَإِذَا لَقُوا الَّذِینَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَی شَیَاطِینِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَکُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ»(2) وقد صرحت ما بعدها من آیات أنّ الإحباط هو نصیب عمل هؤلاء المنافقین الذین لن یهدیهم اللّه.
حقّاً أنّ المجتمع البشری إذا طهر من دنس هذه الرذائل الخمس لعاش الأمن والسلام والوئام ولحفظت فیه الأموال والأنفس والأعراض، ولتکاتف الجمیع علی الحبّ والمودة وسارعوا علی مدارج السمو والکمال والإبتعاد عن البدعة والشرک، ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ المراد بالعبارة
«أَوْ یَلْقَی النَّاسَ بِوَجْهَیْنِ» معنی معیّن، وبالعبارة
«أَوْ یَمْشِیَ فِیهِمْ بِلِسَانَیْنِ» معنی آخر؛ فالأول یشیر إلی نفاقه بالنسبه لنفسه، والآخر إلی النفاق بالنسبة للآخرین. ومن هنا جعلوا الصفات المذکورة ستاً، لکن یبدو أنّ کلیهما من آثار النفاق، أحدهما باللسان والآخر بالوجه، وعلیه فالأفضل جمعهما فی عنوان واحد. القضیة الجدیرة بالاهتمام ما أورده بعض شرّاح نهج البلاغة من أنّ هذه الخطبة وإن وردت أثناء المسیر إلی البصرة لمواجهة أصحاب الجمل إلی أنّها تشیر إلی أنّ الصفات المذکورة موجودة فی أصحاب الجمل؛ ذلک لأنّهم حکموا أهواءهم بدلاً من اللّه من جانب، ومن جانب آخر فإنّهم یسعون لإطفاء غضبهم علی علی علیه السلام بسفک دماء الأبریاء، کما نسبوا لعلی علیه السلام تهمة قتل عثمان الذی قتل علی أیدیهم بتحریض الآخرین، کما أنکروا إمامة علی علیه السلام ونسبته من رسول اللّه صلی الله علیه و آله فابتدعوا فی الدین ما لیس منه، وأخیراً منعوا الناس من التعرض لقتل عثمان من جهة، ومن جهة أخری کانوا یتآمرون علی قتله خفیة. والعبارة
«اعْقِلْ ذلِکَ» إشارة إلی هذا المعنی(3). قال الإمام علیه السلام إثر طرحه
ص:53
لهذه الأمور
«اعْقِلْ ذلِکَ»، وذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ هذه العبارة إشارة إلی مطلب سیرد لاحقاً، إلّاأنّ هذا خلاف التعبیر (ذلک).
وأخیراً أشار الإمام علیه السلام فی ختام الخطبة إلی بعض النقاط المهمّة التی لا تبدو بمعزل عن قضیة معرکة الجمل فقال:
«إِنَّ الْبَهَائِمَ هَمُّهَا بُطُونُهَا؛ وَإِنَّ السِّبَاعَ هَمُّهَا الْعُدْوَانُ عَلَی غَیْرِهَا؛ وَإِنَّ النِّسَاءَ هَمُّهُنَّ زِینَةُ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَالْفَسَادُ فِیهَا؛ إِنَّ الْمُؤْمِنِینَ مُسْتَکِینُونَ(1). إِنَّ الْمُؤْمِنِینَ مُشْفِقُونَ. إِنَّ الْمُؤْمِنِینَ خَائِفُونَ».
أجل فالمؤمنون الصالحون العاملون خائفون من اللّه وخائفون من خلق اللّه، إمّا خوفهم من اللّه بدلیل تکالیفهم ووظائفهم تجاهه، وإمّا خوفهم من خلق اللّه حذراً من هضم حقوق فرد من الأفراد، خلافاً للسباع الذین لا یفکرون سوی فی بطونهم والعدوان علی الآخرین.
فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام یوجز المظاهر الدنیویة فی ثلاثة أشیاء؛ الاهتمام بالبطن والنزعة السبعیة والاهتمام بالزینة، فأسند أحدهما إلی البهائم والأخری إلی السباع إشارة إلی قادة معرکة الجمل الذین ساقتهم هذه العناصر إلی تأجیج نار حرب الجمل فسفکوا تلک الدماء ولم یظفروا بأهدافهم (لابدّ من الالتفات إلی أنّ الإمام علیه السلام علی ضوء بعض الروایات أورد هذه الخطبة حین سار إلی قتال أصحاب الجمل.
ص:54
یَذْکُرُ فِیها فَضَائِلَ أهْلِالْبَیْتِ علیهم السلام(1)
تدور مطالب هذه الخطبة بصورة رئیسیة حول ثلاثة محاور:
1. فضائل أهل البیت علیهم السلام وعلومهم ومعارفهم الخارقة ووصیة الناس باتبعاهم.
2. بحث بشأن ارتباط الظاهر بالباطن وأنّ طهارة الباطن عادة ما تؤدی إلی طهارة الظاهر لأعمال الإنسان، ومن کان ملوثاً باطناً غالباً ما یکون ملوثاً ظاهریاً.
3. لابدّ من الرجوع إلی الجذور فی ممارسة إصلاح کل شیء والانطلاق من الأساس والبنیة التحتیة فی الإصلاحات.
ص:55
ص:56
«وَنَاظِرُ قَلْبِ اللَّبِیبِ بِهِ یُبْصِرُ أَمَدَهُ، وَیَعْرِفُ غَوْرَهُ وَنَجْدَهُ دَاعٍ دَعَا، وَرَاعٍ رَعَی، فَاسْتَجِیبُوا لِلدَّاعِی، وَاتَّبِعُوا الرَّاعِیَ.
قَدْ خَاضُوا بِحَارَ الْفِتَنِ، وَأَخَذُوا بِالْبِدَعِ دُونَ السُّنَنِ. وَأَرَزَ الْمُؤْمِنُونَ، وَنَطَقَ الضَّالُّونَ الْمُکَذِّبُونَ. نَحْنُ الشِّعَارُ وَالْأَصْحَابُ، وَالْخَزَنَةُ وَالْأَبْوَابُ؛ وَلَا تُؤْتَی الْبُیُوتُ إِلَّا مِنْ أَبْوَابِهَا؛ فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَیْرِ أَبْوَابِهَا سُمِّیَ سَارِقاً».
إنّ الأبحاث المتنوعة لهذه الخطبة تفید جری المرحوم السید الرضی علی عادته فی اقتطاف هذه المقاطع من خطبة طویلة، ولذلک یبدو هنالک نوع من التعقید فی ترابط مقاطع هذه الخطبة. یورد الإمام علیه السلام مقدمة لبیان فضائل أهل البیت علیهم السلام فیتحدث عن صفات المهتدین والضالین فیقول:
«وَنَاظِرُ(1) قَلْبِ اللَّبِیبِ(2) بِهِ یُبْصِرُ أَمَدَهُ، وَیَعْرِفُ غَوْرَهُ وَنَجْدَهُ(3)» إشارة إلی أنّ الإنسان العاقل لا یقنع بظواهر الأمور، بل یسعی إلی الوقوف علی ملابساتها وتفاصیلها وما یمکن أن تؤول إلیه عاقبتها فلا یسلک مساره جزافاً ویواجه بعض المطیات والمخاطر.
ثم قال علیه السلام:
«دَاعٍ دَعَا، وَرَاعٍ رَعَی، فَاسْتَجِیبُوا لِلدَّاعِی، وَاتَّبِعُوا الرَّاعِیَ» من
ص:57
الواضح أنّ المراد بالداعی نبی الإسلام صلی الله علیه و آله الذی أرسی دعائم الدین، والمقصود بالراعی الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام الذی تزعّم الأُمّة الإسلامیة بأمر اللّه ورسوله صلی الله علیه و آله.
فالکلام یشیر إلی هذا الأمر: أنّکم إن نظرتم بحکمة لمعرفة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وخلیفته بالحق، وبموجب هذه المعرفة سوف لن یکون لدیکم أدنی شک وریبة فی اجابة دعوته واقتفاء آثار خلیفته.
ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی الفئة الأخری التی تقابل الفئة المذکورة وهی الفئة المعادیة للحق التی خاضت فی بحار الفتن وابتدعت فی الدین حتی انتهی الأمر إلی اقصاء المؤمنین فخمدت أصواتهم ولم تصدح سوی اصوات الضالین المکذبین المنحرفین
«قَدْ خَاضُوا بِحَارَ الْفِتَنِ، وَأَخَذُوا بِالْبِدَعِ دُونَ السُّنَنِ. وَأَرَزَ(1) الْمُؤْمِنُونَ، وَنَطَقَ الضَّالُّونَ الْمُکَذِّبُونَ».
فالعبارة إشارة إلی تلک الفئة المنحرفة التی غصبت الخلافة عقب رحیل النبی الأکرم صلی الله علیه و آله حتی انتهت إلی بنی أمیة بزعامة معاویة ویزید وآل مروان. أجل لم یکن هم تلک الفئة سوی إثارة الفتن من قبیل فتنة الجمل وصفین والنهروان واستغلالها لصالحها إلی جانب ایجاد البدع فی دین اللّه وهجران سنن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، الأمر الذی اتضح بجلاء علی عهد خلیفة بنی أمیة الثالث، بعد ذلک خاض الإمام علیه السلام فی صفات وفضائل أهل البیت علیهم السلام فقال:
«نَحْنُ الشِّعَارُ وَالْأَصْحَابُ، وَالْخَزَنَةُ وَالْأَبْوَابُ؛ وَلَا تُؤْتَی الْبُیُوتُ إِلَّا مِنْ أَبْوَابِهَا؛ فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَیْرِ أَبْوَابِهَا سُمِّیَ سَارِقاً».
إشارة إلی أننا أقرب الجمیع للنبی صلی الله علیه و آله (لابدّ من الالتفات هنا إلی أنّ الشعار یعنی مایلی البدن من الثیاب) وقد ورثنا علم النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وکل من أراد نیل تعالیمه صلی الله علیه و آله والاقتداء بهدیه علیه أن یمر من خلالنا.
والواقع هو أنّ هذه العبارات قد اقتبست من روایات النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بشأن أهل
ص:58
البیت علیهم السلام عموماً وعلی علیه السلام علی وجه الخصوص. ومن ذلک حدیث الثقلین الذی ألزم المسلمین بالتمسک بالقرآن وأهل البیت إلی یوم القیامة وحدیث:
«أَنا مَدِینَةُ العِلمِ وَعَلیٌّ بابُها فَمَنْ أرادَ العِلمَ فَلیأتِ البَابَ»(1). جدیر بالذکر أنّ شارح نهج البلاغة ابن أبی الحدید حین بلغ هذا الموضع من الخطبة صرّح بأنّ ما أشار إلیه علی علیه السلام فی هذه الخطبة لا یتضمن سوی عشر الفضائل التی صرّحت بها العدید من الروایات الواردة عن النبی صلی الله علیه و آله بشأن علی علیه السلام. ثم أضاف: لا اقصد الروایات التی استدلت بها الإمامیة علی إمامة علی علیه السلام، بل مرادی الروایات التی رواها کبار محدثی العامة فی مصادرهم عن فضائل علی علیه السلام وأذکر هنا بعضها، ثم یذکر أربعاً وعشرین روایة معتبرة فی فضائل علی علیه السلام سنشیر فی البحث القادم إلی جانب منها إن شاء اللّه.
یتساءل بعض المغرضین هنا: لماذا خاض الإمام علیه السلام فی مدح ذاته والتعریف بها ؟ ألیس هذا الأمر دون شأن الإمام علیه السلام؟ وقد روی ابن أبی الحدید فی شرحه لنهج البلاغة أنّ البعض أشار علی عمر بتأمیر علی علیه السلام علی الجند. فقال: إنّ علیاً علیه السلام یری نفسه أرفع شأناً من ذلک.
ولکن یبدو أنّ مثل هذه الإشکالات إنّما یفرزها الجهل والحسد الذی لا یصمد أمام منطق العقل، وذلک أنّ أغلب الناس قد لا یقفون علی عظمة شخص وعمق مکانته فلا یکادون ینفتحون علی أفکاره ومشاریعه وخططه التربویة والإصلاحیة، ونقول هنا: ألا ینبغی لهذا الشخص أن یعرف الآخرین بذاته وإمکاناته؟ ولعل هذا
ص:59
الأمر أشبه بذلک الطبیب الماهر والمتخصص بمختلف الأمراض والذی نصب لوحة کبیرة علی باب عیادته لیبیّن علیها شهاداته وخبرته الطبیة والعلمیة حتی یتعرف علیها الآخرون فیقبلون علی عیادته، فهل هذا العمل من العُجب ومدح الذات أم التعریف بالنفس فی مقابل الجهال؟
ناهیک عّما سبق، فإن احدی مراحل شکر النعم التحدث بها. قال اللّه تبارک وتعالی فی قرآنه الکریم بهذا الشان: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّکَ فَحَدِّثْ»(1).
وورد عن الإمام الصادق علیه السلام فی تفسیر هذه الآیة الکریمة أنّه قال:
«حدث بما أعطاک اللّه وفضلک ورزقک وأحسن إلیک وهداک»(2). ومن هنا ورد فی بعض الروایات أنّ علیاً علیه السلام حین سئل عن بعض فضائله، أجاب بأنّ الثناء علی النفس مذموم؛ لکنّی أُجیبک عن هذه الفضائل علی أساس ما ورد فی القرآن الکریم: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّکَ فَحَدِّثْ» ثم بیّن عدداً من فضائله ومناقبه.
کما أشرنا سابقاً فإنّ ابن أبی الحدید حین بلغ فی شرحه لنهج البلاغة هذه الخطبة، نقل أکثر من أربع وعشرین روایة روتها مصادر العامة فی فضائل علی علیه السلام وصرّح بأنّ هذه الروایات غیر تلک الأحادیث التی تمسکت بها الشیعة الإمامیة فی مقام اثبات ولایة وإمامة علی علیه السلام. ومن الضروری بمکان أن نشیر هنا إلی بعض تلک الروایات العظیمة المضمون:
1. قال النبی الأکرم صلی الله علیه و آله:
«یا عَلیُّ إنّ اللّهَ قَدْ زَیَّنَکَ بِزِینَةٍ لَمْ یُزَیِّن العِبَادَ بِزِینَةٍ أَحَبُّ إِلیهِ مِنْها هِیَ زِینَةُ الأَبرارِ عِنْدَ اللّهَ تَعالی؛ الزُّهْدُ فِی الدُّنیا جَعَلَکَ لاتَرْزَءُ مِنَ الدُّنیا شَیئاً، وَلا تَرْزَءُ الدُّنیا مِنْکَ شَیئاً وَوَهَبَ لَکَ حُبَّ المَساکِینَ فَجَعَلَکَ تَرضی
ص:60
بِهِم أَتباعاً وَیَرْضُونَ بِکَ إِماماً»(1).
2. قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله:
«إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلیَّ فِی عَلِیٍّ عَهْدَاً، فَقُلتُ: یاربِّ بَیِّنْهُ لِی.
قَالَ: إِسْمَعْ أَنَّ عَلیّاً رَایَةُ الهُدی وَإِمامُ أَولِیائِی وَنُورُ مَنْ أَطاعَنِی وَهُوَ الکَلِمَةُ الَّتِی أَلْزَمتُها المُتَّقِینَ مَنْ أَحَبَّهُ فَقَدْ أَحَبَّنِی وَمَنْ أَطاعَهُ فَقَدْ أَطاعَنِی فَبَشِّرُهُ بِذَلِکَ»(2).
3. قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله:
«مَنْ سَرَّهُ أَنْ یَحیا حَیاتِی وَیَمُوتُ مَماتِی وَیَسْکُنُ جَنَّةَ عَدنٍ الَّتِی غَرَسْها رَبِّی فَلْیُوالِ عَلیّاً مِنْ بَعْدِی وَلیُوالِ وَلِیَّهُ وَلیَقْتَدِ بِالأَئِمَةِ مِنْ بِعدِی فَإِنَّهُم عِتْرَتِی خُلِقُوا مِنْ طِینَتِی وَرُزِقُوا فَهْماً وَعِلْماً فَوَیلٌ لِلمُکَذِّبِینَ مِنْ أُمَّتِی القاطِعِینَ فِیهِم صِلَتِی لْاأَنالَهُم اللّهُ شَفاعَتِی»(3).
ص:61
ص:62
منها: «فِیهِمْ کَرَائِمُ الْقُرْآنِ، وَهُمْ کُنُوزُ الرَّحْمنِ. إِنْ نَطَقُوا صَدَقُوا، وَإِنْ صَمَتُوا لَمْ یُسْبَقُوا. فَلْیَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ، وَلْیُحْضِرْ عَقْلَهُ، وَلْیَکُنْ مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ مِنْهَا قَدِمَ، وَإِلَیْهَا یَنْقَلِبُ.
فَالنَّاظِرُ بِالْقَلْبِ، الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ، یَکُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِهِ أَنْ یَعْلَمَ: أَعَمَلُهُ عَلَیْهِ أَمْ لَهُ؟! فَإِنْ کَانَ لَهُ مَضَی فِیهِ، وَإِنْ کَانَ عَلَیْهِ وَقَفَ عَنْهُ. فَإِنَّ الْعَامِلَ بِغَیْرِ عِلْمٍ کَالسَّائِرِ عَلَی غَیْرِ طَرِیقٍ. فَلَا یَزِیدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِیقِ الْوَاضِحِ إِلَّا بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ. وَالْعَامِلُ بِالْعِلْمِ کَالسَّائِرِ عَلَی الطَّرِیقِ الْوَاضِحِ. فَلْیَنْظُرْ نَاظِرٌ:
أَسَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ؟!».
تعرض الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة بالإشارة إلی غیض من فیض فضائل أهل البیت علیهم السلام بهدف إحباط الدعایات المغرضة لأجهزة بنی أمیة ضد أهل البیت علیهم السلام والعناصر التی تآمرت علیهم من بعض العملاء الذین تجلببوا بثیاب رواة الحدیث، فقال:
«فِیهِمْ کَرَائِمُ(1) الْقُرْآنِ، وَهُمْ کُنُوزُ الرَّحْمنِ. إِنْ نَطَقُوا صَدَقُوا، وَإِنْ صَمَتُوا لَمْ یُسْبَقُوا». العبارة
«فِیهِمْ کَرَائِمُ الْقُرْآنِ» یمکن أن تکون إشارة إلی المعنی المذکور أو تعنی عندهم آیات القرآن الکریم، والعبارة
«کُنُوزُ» إشارة إلی أنّ عندهم أحکام اللّه وتعالیم السماء؛ لأنّ الأشیاء النفیسة عادة ما تحفظ فی الکنز.
ص:63
والعبارة
«إِنْ نَطَقُوا صَدَقُوا» تتضمن احدی صفات أهل البیت علیهم السلام وهی الصدق فی الکلام التی تنسجم والآیة الشریفة: «کُونُوا مَعَ الصَّادِقِینَ»(1). والعبارة
«وَإِنْ صَمَتُوا لَمْ یُسْبَقُوا» إشارة واضحة إلی أنّ صمتهم علیهم السلام لا یعنی عجزهم عن الإجابة قط، بل صمتهم علی ضوء الحکمة والمصلحة، وعلیه فلا یسع أحد أن یسبقهم. أومعنی ذلک أنّ هیبتهم تحول دون قدرة الآخرین علی الکلام حین صمتهم. علی کل حال فإنّ هذه الصفات الأربع فی أهل البیت علیهم السلام تمیز مقامهم عن الآخرین وتکشف عن علو منزلتهم ومکانتهم العلمیة، ثم قال تأکیداً لهذا المطلب فی أنّ الهدف لیس المدح والثناء علی الذات:
«فَلْیَصْدُقْ رَائِدٌ(2) أَهْلَهُ، وَلْیُحْضِرْ عَقْلَهُ، وَلْیَکُنْ مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ مِنْهَا قَدِمَ، وَإِلَیْهَا یَنْقَلِبُ».
تعنی کلمة
«رَائِدٌ» فی الأصل، الشخص الذی یتقدم القافلة ویبحث عن الماء والمرعی. فلو کان مثل هذا الشخص کاذباً لعرّض أهل القافلة أنفسهم إلی الخطر.
فاختیار هذه الکلمة یشیر إلی لطیفة مؤداها أنّی إن شرحت لکم خصائص أهل البیت علیهم السلام فذلک لأنّی بمنزلة ذلک الشخص الذی یوفر لاتباعه ضروریات وسائل العیش. ولعل العبارة
«فَإِنَّهُ مِنْهَا قَدِمَ» تشیرمفهوم الآیة الشریفة: «إِنَّا للّهِِ وَإِنَّا إِلَیْهِ رَاجِعُونَ». أو بعبارة أخری أنّ الآخرة تعنی هنا ماوراء الطبیعة. نعم ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ المراد بالعبارة أنّا خلقنا للآخرة، کما ورد ذلک فی قصار کلمات الإمام:
«أَلا فَما یَصْنَعُ بِالدُّنیا مَنْ خُلِقَ للآخِرَةِ»(3).
ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بالنظر إلی ما ورد قبیل ذلک بشأن أهل البیت علیهم السلام
ص:64
لیحذر الآخرین من ضرورة مراقبة أعمالهم وأن یلحقوا بتلک الکنوز أی الأئمّة العارفین بالقرآن ویحذوا حذوهم ویسیروا علی هدیهم وأن یفکروا فی بدایة کل عمل بعاقبته ویعزمون علیه:
«فَالنَّاظِرُ بِالْقَلْبِ، الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ، یَکُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِهِ أَنْ یَعْلَمَ: أَعَمَلُهُ عَلَیْهِ أَمْ لَهُ؟! فَإِنْ کَانَ لَهُ مَضَی فِیهِ، وَإِنْ کَانَ عَلَیْهِ وَقَفَ عَنْهُ». والواقع هو أنّ الإمام علیه السلام یری توقف النجاح علی ثلاثة أمور تتفرع جمیعها من العلم والمعرفة؛ التفکیر فی أصل العمل، والعمل علی أساس البصیرة ودراسة وتأمل نتیجة ذلک العمل نافعة له أم مضرة؟
ثم خاض فی بیان دلیل ذلک وقد استعان بتشبیه رائع لیوضح الفارق بین العالم والجاهل فقال:
«فَإِنَّ الْعَامِلَ بِغَیْرِ عِلْمٍ کَالسَّائِرِ عَلَی غَیْرِ طَرِیقٍ. فَلَا یَزِیدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِیقِالْوَاضِحِ إِلَّا بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ. وَالْعَامِلُ بِالْعِلْمِ کَالسَّائِرِ عَلَیالطَّرِیقِ الْوَاضِحِ».
یا له من تشبیه رائع! فالعالم والجاهل کلاهما یسعی، إلّاأنّ العالم حیث یسیر علی الطریق الصحیح فإنّه یقترب من هدفه کل آن، أمّا الجاهل حیث یسیر علی غیر هدی وعلی غیر الطریق فإنّه یبتعد عن هدفه کل آن؛ بعبارة أخری فإنّ سعیه لن یؤدّی إلّاإلی النتائج المعکوسة.
روی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله تعبیر رائع بهذا الشأن حیث قال:
«مَنْ عَمِلَ عَلَی غَیْرِ عِلْمٍ کَانَ ما یُفْسِدُ أَکْثَرَ مِمّا یُصْلِحُ»(1).
وورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:
«العامِلُ عَلَی غَیْرِ بَصِیرَةٍ کَالسَّائِرِ عَلَی غَیْرِ الطَّرِیقِ لْایَزِیدُهُ سُرْعَةَ السَّیْرِ إِلَّا بُعدَاً»(2).
ثم یخلص الإمام علیه السلام إلی هذه النتیجة:
«فَلْیَنْظُرْ نَاظِرٌ: أَسَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ؟!».
فالعبارة تشیر إلی أنّ الجهال من الأفراد لیسوا فقط لا یبلغون الهدف بسعیهم وجهدهم، بل أحیاناً یخطون بذلک الجهد إلی ما یخالفه.
ص:65
ص:66
«وَاعْلَمْ أَنَّ لِکُلِّ ظَاهِرٍ بَاطِناً عَلَی مِثَالِهِ، فَمَا طَابَ ظَاهِرُهُ طَابَ بَاطِنُهُ، وَمَا خَبُثَ ظَاهِرُهُ خَبُثَ بَاطِنُهُ. وَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ الصَّادِقُ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ -: «إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْعَبْدَ، وَیُبْغِضُ عَمَلَهُ، وَیُحِبُّ الْعَمَلَ وَیُبْغِضُ بَدَنَهُ».
وَاعْلَمْ أَنَّ لِکُلِّ عَمَلٍ نَبَاتاً. وَکُلُّ نَبَاتٍ لَاغِنَی بِهِ عَنِ الْمَاءِ، وَالْمِیَاهُ مُخْتَلِفَةٌ؛ فَمَا طَابَ سَقْیُهُ، طَابَ غَرْسُهُ وَحَلَتْ ثَمَرَتُهُ، وَمَا خَبُثَ سَقْیُهُ، خَبُثَ غَرْسُهُ وَأَمَرَّتْ ثَمَرَتُهُ».
کشف الإمام علیه السلام هنا - مواصلة لما أورده سابقاً - سبیل معرفة المحسن من المسیئ فقال:
«وَاعْلَمْ أَنَّ لِکُلِّ ظَاهِرٍ بَاطِناً عَلَی مِثَالِهِ، فَمَا طَابَ ظَاهِرُهُ طَابَ بَاطِنُهُ وَمَا خَبُثَ ظَاهِرُهُ خَبُثَ بَاطِنُهُ». فهذه قاعدة کلیة من شأنها تمهید السبیل أمام الإنسان لمعرفة الأفراد والمجتمعات البشریة ومختلف التنظیمات الاجتماعیة والسیاسیة والعقائدیة (وإن کانت لها علی غرار کل قاعدة کلیة شواذ) لأنّ أعمال الإنسان عادة ما تکون انعکاساً لأفکاره وأخلاقه وصفاته الباطنیة، وظاهره ما یترشح عن باطنه، علی غرار ما ورد فی المثل المعروف: الظرف ینضح بما فیه.
وعلی هذا الإساس فإن شککنا فی باطن شخص کان لابدّ لنا من التوقف عند أعماله لننظر من خلالها إلی باطنه. وقد أید القرآن الکریم هذه الحقیقة فی عدّة آیات فقال بشأن المنافقین: «قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِی صُدُورُهُمْ
ص:67
أَکْبَرُ»(1). وقال فی موضع آخر: «وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَیْنَاکَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِیمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِی لَحْنِ الْقَوْلِ»(2). کما قال فی آیة أخری: «وَالْبَلَدُ الطَّیِّبُ یَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِوَالَّذِی خَبُثَ لَایَخْرُجُ إِلَّا نَکِداً»(3) کما ورد هذا الأمر فی الروایات الإسلامیة وکلمات الفقهاء.
فقد قال أمیر المؤمنین علی علیه السلام:
«ما أَضْمَرَ أَحَدٌ شَیئاً إِلَّا ظَهَرَ فِی فَلَتاتِ لِسانِهِ وَصَفَحاتِ وَجْهِهِ»(4). وصرّح الفقهاء فی مبحث العدالة: أنّ حسن الظاهر والعمل بالتکالیف الشرعیة یفید وجود ملکة العدالة فی الباطن. الغریب فی عصرنا الراهن أنّ العلماء توصلوا إلی صنع جهاز من شأنه التعرف علی کذب المقابل من صدقه فی موضوع ما من خلال نبض قلبه وضغط دمه وما شاکل ذلک. وکما أشرنا سابقاً أنّ لهذه القاعدة کما لسائر القواعد الکلیة شواذ؛ فهنالک بعض الأفراد الذین یعیشون حالة من التعقید بحیث لا یمکن التعرف علیهم من خلال أعمالهم بسهولة، کما یمکن لبعض المرائین والمنافقین أن یخدعوا العقلاء، ومن هنا واصل الإمام علیه السلام کلامه لیقول:
«وَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ الصَّادِقُ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ -: «إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْعَبْدَ، وَیُبْغِضُ عَمَلَهُ، وَیُحِبُّ الْعَمَلَ وَیُبْغِضُ بَدَنَهُ»». فافتراق الظاهر عن الباطن والعمل عن العقیدة فی بعض الحالات یعزی إلی بعض العوامل التی تحدث وتبعد الشخص عن ذلک الأصل الکلی؛ من قبیل مجالسة الصالحین والطالحین والتواجد فی الأوساط الطاهرة والفاسدة إلی جانب التعصب والبغض والحقد والحسد والدعایة المسمومة والفقر المدقع وما شاکل ذلک من الأمور التی تقدح أحیاناً بانسجام الظاهرمع الباطن. آثار المرحوم العلّامة الخوئی شارح نهج البلاغة مطلباً آخر فی شرحه لهذه العبارة، فقد قال - بعد تلک الإشارة إلی تناقض صدر هذا القسم
ص:68
من الخطبة وذیلها - إنّه تدبر وفکر لأیّام وتوسل بجده أمیر المؤمنین علیه السلام لیخلص إلی هذه النتیجة وهی أنّ الإمام علیه السلام أراد أن یشیر بالاستناد إلی حدیث النبی صلی الله علیه و آله إلی أنّ الشخص إن رأی عدم انسجام ظاهره وباطنه علیه أن یسعی لإصلاح نفسه، یعنی، إن کان باطنه حسناً وعمله سیئاً یسعی لأنّ یصلح عمله، وإن کان عمله حسناً وباطنه سیئاً یسعی لإصلاح باطنه(1). وهذا الکلام وإن کان صحیحاً إلّاأنّ استفادة هذا المعنی من العبارة المذکورة لا یخلو من إشکال، ویبدو التفسیر الأول أنسب.
ثم اختتم الخطبة فی إطار اتمام عبارته السابقة فی مجال انسجام الظاهر والباطن ولزوم تطهیر الباطن بهدف تطهیر الظاهر بالقول:
«وَاعْلَمْ أَنَّ لِکُلِّ عَمَلٍ نَبَاتاً. وَکُلُّ نَبَاتٍ لَاغِنَی بِهِ عَنِ الْمَاءِ، وَالْمِیَاهُ مُخْتَلِفَةٌ؛ فَمَا طَابَ سَقْیُهُ، طَابَ غَرْسُهُ وَحَلَتْ ثَمَرَتُهُ، وَمَا خَبُثَ سَقْیُهُ، خَبُثَ غَرْسُهُ وَأَمَرَّتْ ثَمَرَتُهُ». فقد شبّه الإمام علیه السلام الإنسان وأعماله بالنبات وثمره، فکما أنّ النبات لا غنی به عن الماء لسقیه ونموه، فإنّ الإنسان لا یستغنی عن التعلیم والتربیة والإرشاد. فمن عکف علی التعلیم والتربیة والإرشاد الصحیح ظهرت أعماله صالحة، بینما تسی وتخبث أعمال ذلک الذی لاحظَّ له من الإرشاد والتربیة. بعبارة أخری فإنّ قیمة ثمرة النبات تنشأ فی الواقع من ثلاثة عوامل: البذرة الطیبة والأرض الخصبة والماء الوفیر. والحق أنّ بذرة الإنسان علی ضوءالفطرة التی أودعها إیّاه اللّه، طیبة؛ کما أنّ عوامل البیئة الوراثیة بمثابة الأرض، والتعلیم والتربیة بمنزلة الماء، فإن طهرت وطابت هذه الأمور، کانت ثمرة وجود الإنسان طیبة وطاهرة.
ص:69
ص:70
یَذْکُرُ فِیْها بَدِیعَ خِلْقَةِ الخُفّاشِ(1)
تعتبر هذه الخطبة من خطب نهج البلاغة التوحیدیة المهمّة وتتألف من قسمین.
یتعرض القسم الأول لحمد اللّه والثناء علیه وبیان عظمته التی حیرت العقول إلی جانب قدرته فی الخلق دون الاستناد إلی فکرة مسبقة حیث یختزن کل مخلوق عجائب الاسرار. اما القسم الثانی فقد رکز علی الخفاش وعجائب خلقته، فیتعرض الإمام علیه السلام إلی تفاصیل خلقه وکأنه استغرق سنوات فی دراسة هذا المخلوق العجیب حتی وقف علی اسراره.
ص:71
ص:72
«الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِی انْحَسَرَتِ الْأَوْصَافُ عَنْ کُنْهِ مَعْرِفَتِهِ، وَرَدَعَتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ، فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إِلَی بُلُوغِ غَایَةِ مَلَکُوتِهِ!
هُوَ اللّهُ الْحَقُّ الْمُبِینُ، أَحَقُّ وَأَبْیَنُ مِمَّا تَرَی الْعُیُونُ، لَمْ تَبْلُغْهُ الْعُقُولُ بِتَحْدِیدٍ فَیَکُونَ مُشَبَّهاً، وَلَمْ تَقَعْ عَلَیْهِ الْأَوْهَامُ بِتَقْدِیرٍ فَیَکُونَ مُمَثَّلاً. خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَی غَیْرِ تَمْثِیلٍ، وَلَا مَشُورَةِ مُشِیرٍ، وَلَا مَعُونَةِ مُعِینٍ، فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ، وَأَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ، فَأَجَابَ وَلَمْ یُدَافِعْ، وَانْقَادَ وَلَمْ یُنَازِعْ».
ذکرنا آنفاً أنّ الإمام علیه السلام استهل هذه الخطبة بحمد الذات الإلهیّة المطلقة وبیان صفاتها الجمالیة والجلالیة، فأشار بادیء ذی بدء إلی معرفة کنه ذات اللّه فقال:
«الْحَمْدُلِلّهِ الَّذِی انْحَسَرَتِ(1) الْأَوْصَافُ عَنْ کُنْهِ مَعْرِفَتِهِ، وَرَدَعَتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ، فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً(2) إِلَی بُلُوغِ غَایَةِ مَلَکُوتِهِ!(3)».
والسؤال الذی یطرح نفسه: لماذا عجزت الاوصاف عن معرفة کنه الذات
ص:73
الإلهیّة؟ ذلک لأنّ جمیع الألفاظ الموضوعة لبیان الأوصاف إنّما ترتبط بصفات المخلوقین وهی صفات محدودة ومخلوقة. وبعبارة أخری فإنّ ذات اللّه المطلقة واللامتناهیة من جمیع الجهات متعذرة الإدراک من قبل عقولنا المحدودة ولا یسع ألفاظنا وأفکارنا بیانها والوقوف علیها، وهذا ما أذهل العقول البشریة وحال دون ظفرها بالسبیل إلی معرفة تلک الذات، طبعاً هذا لا یعنی أننا نقول باستحالة معرفة البشر باللّه، أو بعبارة أخری أننا لانقول بتعطیل المعرفة، بل المراد أنّ حظنا من العلم بتلک الذات المطلقة من جمیع الجهات هو العلم الإجمالی الذی یسعنا الإشارة إلیه من خلال آثاره ولیس لدینا من علم تفصیلی بهذا الشأن. ولا تبدو هذه القضیة عجیبة، فعظمة اللّه ممّا لا نقاش فیها. بل هنالک الکثیر من مخلوقات عالم الإمکان التی نؤمن بها وتبدو واضحة لنا کالشمس، غیر أننا نجهل کنهها، علی سبیل المثال أننا نؤمن بوجود الروح، ووجود الجاذبیة والزمان والمکان، لکن ما حقیقة کنه هذه الأمور؟ إنّ هذه الأمور تعدّ من الأبحاث التی حظیت باهتمام الفلاسفة والحکماء وعلماء العلوم الطبیعیة ولم یتفقوا لحد الآن علی نقطة مشترکة، بل أبعد من ذلک إننا لأقرب إلی أنفسنا من کل شیء ولکن ما زلنا نجهل الکثیر من أسرار وجودنا، حتی انبری العالم الغربی «ألکسیس کارل» لیکتب کتابه «الإنسان ذلک المجهول».
ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه ببیان صفة أخری من صفات اللّه - وهی تأکید لما سبق - فقال
«هُوَ اللّهُ الْحَقُّ الْمُبِینُ، أَحَقُّ وَأَبْیَنُ مِمَّا تَرَی الْعُیُونُ، لَمْ تَبْلُغْهُ الْعُقُولُ بِتَحْدِیدٍ فَیَکُونَ مُشَبَّهاً، وَلَمْ تَقَعْ عَلَیْهِ الْأَوْهَامُ بِتَقْدِیرٍ فَیَکُونَ مُمَثَّلاً». نعم، فوجوده أظهر الأشیاء وکنهه فی غایة الخفاء وما تاره العین قد یکون خطأ الباصرة - الذی ذکر له العلماء عدّة أنواع - ولکن العلم بوجود اللّه لأخطأ فیه. وإننا نشعر بحضوره فی کل زمان وکل مکان وکل حال، مع ذلک نحن حیاری فی إدراک حقیقة ذاته، وکلما تقدمنا خطوة فی هذه المرحلة رجعنا خطوات إلی الوراء، کما قال الشاعر:
کُلَّما قَدَّمَ فِکرِی فِی
کَ شِبْراً فَرَّ مِیلا
ص:74
ناکِصاً یَخْبِطُ فِی
عَمیاءَ لایَهْدِی سَبِیلا
کأنّ هذا الموضوع أشبه بذلک الإنسان الذی یبصر مصدراً شدیداً للنور یخطف الأبصار فیقترب منه ببطء فإذا النور یهزه فجأة ویدفع به خائفا إلی الخلف. حقّاً یبدو أننا سنقع لا محال فی الخطأ إن حاولنا تشبیه أیٍّ من صفات وکنه الذات المقدّسة، ذلک لأننا نشبهه بمخلوقاته فنصاب بنوع من الشرک.
ثم أشار الإمام علیه السلام إلی خلقه سبحانه وتعالی للخلق فقال:
«خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَی غَیْرِ تَمْثِیلٍ، وَلَا مَشُورَةِ مُشِیرٍ، وَلَا مَعُونَةِ مُعِینٍ، فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ، وَأَذْعَنَ(1) لِطَاعَتِهِ، فَأَجَابَ وَلَمْ یُدَافِعْ، وَانْقَادَ وَلَمْ یُنَازِعْ» جدیر ذکره أنّ کل ابداعات الإنسان إنّما تستند إلی برامج مسبقة وخطط معدة بشأن عالم الطبیعة. فأحیاناً یستفیدها بعینها وأخری یضیف لها بعض أفکاره، إلّاأنّ أیّة فکرة لیست جدیدة فی الواقع، علی العکس من ذلک فإنّ نظرنا إلی عالم الوجود سنری ملایین الأنواع من النباتات والحیوانات الصحراویة والبحریة والطیور وسائر الکائنات التی یتسم کل واحد منها ببعض الخصائص الممیزة له، کلها تدین لخالقها تبارک وتعالی.
وأخیراً فإنّ الإمام علیه السلام قد أشار فی هذا المقطع من الخطبة إلی ثلاثة مواضیع مهمّة؟ عجز الإنسان عن إدراک کنه الذات الإلهیّة، وظهور وجوده تعالی، وأخیراً إبداعه الفرید فی عالم الخلق.
ص:75
ص:76
«وَمِنْ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ، وَعَجَائِبِ خِلْقَتِهِ، مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِضِ الْحِکْمَةِ فِی هذِهِ الْخَفَافِیشِ الَّتِی یَقْبِضُهَا الضِّیَاءُ الْبَاسِطُ لِکُلِّ شَیْءٍ، وَیَبْسُطُهَا الظَّلَامُ الْقَابِضُ لِکُلِّ حَیٍّ؛ وَکَیْفَ عَشِیَتْ أَعْیُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِیئَةِ نُوراً تَهْتَدِی بِهِ فِی مَذَاهِبِهَا، وَتَتَّصِلُ بِعَلَانِیَةِ بُرْهَانِ الشَّمْسِ إِلَی مَعَارِفِهَا. وَرَدَعَهَا بِتَلَأْلُؤِ ضِیَائِهَا عَنِ الْمُضِیِّ فِی سُبُحَاتِ إِشْرَاقِهَا، وَأَکَنَّهَا فِی مَکَامِنِهَا عَنِ الذَّهَابِ فِی بُلَجِ ائْتِلَاقِهَا، فَهِیَ مُسْدَلَةُ الْجُفُونِ بِالنَّهَارِ عَلَی حِدَاقِهَا، وَجَاعِلَةُ اللَّیْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ فِی الْتِمَاسِ أَرْزَاقِهَا؛ فَلَا یَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ ظُلْمَتِهِ، وَلَا تَمْتَنِعُ مِنَ الْمُضِیِّ فِیهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ. فَإِذَا أَلْقَتِ الشَّمْسُ قِنَاعَهَا، وَبَدَتْ أَوْضَاحُ نَهَارِهَا، وَدَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَی الضِّبَابِ فِی وِجَارهَا، أَطْبَقَتِ الْأَجْفَانَ عَلَی مَآقِیهَا، وَتَبَلَّغَتْ بِمَا اکْتَسَبَتْهُ مِنَ الْمَعَاشِ فِی ظُلَمِ لَیَالِیهَا. فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اللَّیْلَ لَهَا نَهَاراً وَمَعَاشاً، وَالنَّهَارَ سَکَناً وَقَرَاراً!».
ما أن فرغ الإمام علیه السلام من بیانه العام والجامع بشأن خلق العالم حتی رکز هنا علی أعجب وأظرف مخلوقات اللّه، ألا وهو الخفاش الفرید فی خلقه من کل النواحی، وإن کانت جمیع المخلوقات عجیبة لو أجلنا التفکیر بصورة صحیحة. فقد أشار علیه السلام إلی جانبین فریدین فی خلقة هذا الحیوان؛ عینه وجناحیه، فقال:
«وَمِنْ لَطَائِفِ
ص:77
صَنْعَتِهِ، وَعَجَائِبِ خِلْقَتِهِ، مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِضِ الْحِکْمَةِ فِی هذِهِ الْخَفَافِیشِ الَّتِی یَقْبِضُهَا الضِّیَاءُ الْبَاسِطُ لِکُلِّ شَیْءٍ، وَیَبْسُطُهَا الظَّلَامُ الْقَابِضُ لِکُلِّ حَیٍّ».
ثم یردفها بالعبارة:
«وَکَیْفَ عَشِیَتْ(1) أَعْیُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِیئَةِ نُوراً تَهْتَدِی بِهِ فِی مَذَاهِبِهَا، وَتَتَّصِلُ بِعَلَانِیَةِ بُرْهَانِ الشَّمْسِ إِلَی مَعَارِفِهَا. وَرَدَعَهَا بِتَلَأْلُؤِ ضِیَائِهَا عَنِ الْمُضِیِّ فِی سُبُحَاتِ(2) إِشْرَاقِهَا، وَأَکَنَّهَا(3) فِی مَکَامِنِهَا(4) عَنِ الذَّهَابِ فِی بُلَجِ(5) ائْتِلَاقِهَا(6)». النقطة الجدیرة بالتأمل، إنّ الإمام علیه السلام أشار إلی ثلاث نقاط مختلفة بثلاث عبارات إلی التأثیر السلبی لضیاء الشمس علیها، فقال: إنّ ضیاء الشمس لم یدعها تتلمس طریقها وإنّ أشعة الشمس تمنعها من بلوغ مقاصدها فی هذه الطرق (کالطعمة والحجر) وأخیراً أنّها لو سلکت طریقاً وطلعت علیها الشمس فجأة لصدتها عن مواصلة السیر.
وبالنتیجة، لیس لها سوی الاختباء فی الحجور المظلمة لتأمن أشعة الشمس، وعلی هذا الأساس فإنّ ضیاء الشمس الذی ینیر کل شیء ویساعد جمیع الکائنات الحیة لأن تعرف طریقها وتواصل حرکتها نحو غایتها، لا یبدو کذلک بالنسبة لهذا الطائر «الخفاش» فآثاره سلبیة علیه، وعلی العکس من ذلک فهو یستفید من الظلمة التی تسوق کل ما سواه إلی السکون، لیبدأ بالنشاط والحرکة.
ومن هنا واصل کلامه فقال:
«فَهِیَ مُسْدَلَةُ(7) الْجُفُونِ(8) بِالنَّهَارِ عَلَی
ص:78
حِدَاقِهَا(1) ، وَجَاعِلَةُ اللَّیْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ فِی الْتِمَاسِ أَرْزَاقِهَا؛ فَلَا یَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ(2) ظُلْمَتِهِ، وَلَا تَمْتَنِعُ مِنَ الْمُضِیِّ فِیهِ لِغَسَقِ(3) دُجُنَّتِهِ(4)».
ثم تطرق إلی وضع الخفاش حین شروق الشمس وارسالها لأشعتها علی الجبال والصحاری فقال:
«فَإِذَا أَلْقَتِ الشَّمْسُ قِنَاعَهَا، وَبَدَتْ أَوْضَاحُ(5) نَهَارِهَا، وَدَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَی الضِّبَابِ(6) فِی وِجَارهَا(7) ، أَطْبَقَتِ الْأَجْفَانَ عَلَی مَآقِیهَا(8) ، وَتَبَلَّغَتْ(9) بِمَا اکْتَسَبَتْهُ مِنَ الْمَعَاشِ فِی ظُلَمِ لَیَالِیهَا».
یاله من تشبیه لطیف! فقد شبه الشمس منتصف اللیل بالمرأة التی تلفعت بخمارها وحین الشروق طرحته جانباً وقد أشرق ضیاء وجه هذه الأم الحنون علی مهد أولادها. العبارة الرائعة الأخری أنّه قال: إنّ إشراق ذلک النور والضیاء بلغ جحور الضباب المعروفة بشغفها بطلوع الشمس وقد أخرج آنذاک راسه من جحره لیستقبل ضیاء الشمس. وهی إشارة أیضاً إلی أنّ الخفافیش تحتفظ بما اصطادته فی اللیل لنهارها.
ص:79
ثم یخلص إلی نتیجة لیقول بعبارة قصیرة:
«فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اللَّیْلَ لَهَا نَهَاراً وَمَعَاشاً، وَالنَّهَارَ سَکَناً وَقَرَاراً!» فهذا الکائن الفرید، وخلافاً للکائنات الحیة کافة - ولاسیما الإنسان - التی تقتات فی النهار وتستریح وتسکن فی اللیل «وَجَعَلْنَا اللَّیْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً»(1) ، إنّما یستریح فی النهار ویکدّ من أجل المعاش فی اللیل لتعلم الخلیقة أنّ قدرة اللّه لامتناهیة وکل ما یریده سبحانه یکون.
وسنتکلم فی آخر الخطبة إن شاء اللّه عن عجائب خلقة الخفاش ولاسیما خلقة عینیه.
ص:80
«وَجَعَلَ لَهَا أَجْنِحَةً مِنْ لَحْمِهَا تَعْرُجُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَی الطَّیَرَانِ، کَأَنَّهَا شَظَایَا الْآذَانِ غَیْرَ ذَوَاتِ رِیشٍ وَلَا قَصَبٍ، إِلَّا أَنَّکَ تَرَی مَوَاضِعَ الْعُرُوقِ بَیِّنَةً أَعْلَاماً. لَهَا جَنَاحَانِ لَمَّا یَرِقَّا فَیَنْشَقَّا، وَلَمْ یَغْلُظَا فَیَثْقُلَا. تَطِیرُ وَوَلَدُهَا لَاصِقٌ بِهَا لَاجِیءٌ إِلَیْهَا، یَقَعُ إِذَا وَقَعَتْ، وَیَرْتَفِعُ إِذَا ارْتَفَعَتْ، لَایُفَارِقُهَا حَتَّی تَشْتَدَّ أَرْکَانُهُ، وَیَحْمِلَهُ لِلنُّهُوضِ جَنَاحُهُ، وَیَعْرِفَ مَذَاهِبَ عَیْشِهِ، وَمَصَالِحَ نَفْسِهِ.
فَسُبْحَانَ الْبَارِیءِ لِکُلِّ شَیْءٍ، عَلَی غَیْرِ مِثَالٍ خَلَا مِنْ غَیْرِهِ!».
أشار الإمام علیه السلام هنا إلی أمرین من عجائب خلقة الخفاش (جناحاه وتربیته لفرخه)، فقال:
«وَجَعَلَ لَهَا أَجْنِحَةً مِنْ لَحْمِهَا تَعْرُجُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَی الطَّیَرَانِ، کَأَنَّهَا شَظَایَا(1) الْآذَانِ غَیْرَ ذَوَاتِ رِیشٍ(2) وَلَا قَصَبٍ، إِلَّا أَنَّکَ تَرَی مَوَاضِعَ الْعُرُوقِ بَیِّنَةً أَعْلَاماً. لَهَا جَنَاحَانِ لَمَّا یَرِقَّا فَیَنْشَقَّا، وَلَمْ یَغْلُظَا فَیَثْقُلَا». حقّاً إنّ هذا لمن عجائب الخلقة، فاجنحة جمیع الطیور تتکون من الریش الذی یتوسطه شیء یشبه القصبة، ونظراً لخفته فإن الطیور تستطیع الطیران بواسطته بسهولة، أمّا الخفاش المعروف بطیرانه السریع فهو یختلف تماماً عن جمیع الطیور، فجناحه قطعة من اللحم یتوسطها عظام نحیفة أشبه بالغضاریف. وهذه القطعة رغم نحافتها إلّاأنّها شدیدة
ص:81
المقاومة، کما أنّها خفیفة وصامدة علی الدوام وهی تشبه صفحة إذن الإنسان.
والغریب أننا لو نظرنا إلیه إزاء ضوء الشمس أو المصباح لشاهدنا مجموعة من الأنابیب الظریفة والواسعة والمعقدة من العروق الدمویة التی تغذیه والتی یشتد نشاطها حین یطیر لتوصل المواد الغذائیة اللازمة إلی الأجنحة بهدف السرعة فی الحرکة.
ثم أشار إلی قضیة عجیبة أخری فی خلقة هذا الطائر والتی تتعلق بتربیته لولده فقال:
«تَطِیرُ وَوَلَدُهَا لَاصِقٌ بِهَا لَاجِیءٌ إِلَیْهَا، یَقَعُ إِذَا وَقَعَتْ، وَیَرْتَفِعُ إِذَا ارْتَفَعَتْ، لَا یُفَارِقُهَا حَتَّی تَشْتَدَّ أَرْکَانُهُ، وَیَحْمِلَهُ لِلنُّهُوضِ جَنَاحُهُ، وَیَعْرِفَ مَذَاهِبَ عَیْشِهِ، وَمَصَالِحَ نَفْسِهِ». معروف أن لهذا الحیوان دورة شهریة کسائر (الثدیّات) وهو یحمل ویضع الحمل، خلافاً لسائر الطیور البیوضة وتفقیس فراخها فی بیوضها. وینفرد الخفاش بحمله لفرخه معه حین الطیران والهبوط لیعلِّمه الطیران وکیفیة الحصول علی الغذاء وصید الحشرات والخروج والرجوع إلی العش والحجر، ولعل سرّ حمله لفرخه معه خلافاً لعادة جمیع الطیور أنّه یمارس الطیران لیلاً فیضطر لحمله معه.
علی أیّة حال فإنّ کل شیء عجیب فی هذا الطائر، وهذا بدوره أحد عجائب الخلیقة التی تعرف الإنسان علی تنوع المخلوقات وقدرة الخالق.
ثم اختتم الإمام علیه السلام خطبته الشریفة بالخشوع أمام عظمة اللّه وقال:
«فَسُبْحَانَ الْبَارِیءِ لِکُلِّ شَیْءٍ، عَلَی غَیْرِ مِثَالٍ خَلَا مِنْ غَیْرِهِ!» وکما استهل الإمام علیه السلام الخطبة بحمد اللّه والثناء علیه فقد اختتمها بتسبیحه وتنزیه ذاته المقدّسة.
تحدث الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة عن بدیع خلقة الخفاش الذی یختلف فی کل شیء تقریباً عن سائر الطیور، حتی صرّحت بعض المصادر العلمیة أنّ الخفاش
ص:82
لیس من فصیلة الطیور، بل جزء من الثدیات وذلک لما یلی:
1. للخفاش أسنان، بینما للطیور منقار.
2. بدن الخفاش مغطی بالشعر، بینما للطیور ریش.
3. تتکون أجنحة الخفاش من قطعة لحمیة رقیقة ولیست الطیور کذلک.
4. للخفاش یدان ورجلان ویمشی علی الأرض علی یدیه ورجلیه ولیست الطیور کذلک.
5. الخفافیش ولودة، بینما الطیور بیوضة.
6. ترضع الخفافیش صغارها، بینما توفر الطیور الغذاء المناسب لفراخها.
7. معاش الخفافیش لیلاً، والطیور نهاراً.
8. تنام الخفافیش نهاراً وتطیر عقب الغروب وتتعلق حین النوم بأرجلها علی الأشجار والسقوف، بینما لیست الطیور کذلک.
9. تتغذی الخفافیش علی الحشرات وتفتح أفواهها حین تطیر وتبتلع عشرات أو مئات الحشرات ولعل هذا سبب رائحتها الکریهة، ولعل هذا العمل من الخفافیش هو الذی یسهم فی تنقیة أجواء البیئة من الحشرات، ومن هنا فقد عمد الناس إلی بناء الأبراج لتربیة الخفافیش فی المناطق التی تکثر فیها الحشرات. جدیر بالذکر، وخلافاً لما یتصوره البعض من ضعف بصر الخفاش حتی راح یضرب به المثل أنّ الشخص الفلانی أعمی کالخفاش، فإنّ باصرة الخفاش حادة جدّاً، إلّاأنّ عینه حساسة للضوء ولا یطیق تحمله. والخفاش یطیر بسرعة ومهارة فی اللیل حتی حین شدّة الظلمة، ولا یستعین الخفاش فی طیرانه اللیلی بعینه فقط، بل یتمتع بجهاز صوتی یشبه الرادار. فالخفاش حین الطیران یُخرج صوتاً من أنفه ولیست لدینا القدرة علی سماعه، إلّاأنّ هذا الصوت یصطدم بکل شیء یعترض طریقه وینعکس إلیه، ویلتقط هذا الصوت المنعکس بأذنه الکبیرة فیقف علی الأشیاء التی تقف فی طریقه فیغیّر مساره، ومن هنا قیل: الخفاش یری بأذنه. عادة ما یتغذی الخفاش علی
ص:83
الحشرات، إلّاأنّ بعض الخفافیش تتناول الفاکهة، وبعضها الآخر وحشیة خطیرة، ویبدو أنّ عددها قلیل جدّاً. وهی تهجم علی الإنسان حین النوم فتغرس أسنانها بکل هدوء فی بعض المواضع التی تفتقر إلی الأعصاب والحساسیة من قبیل شحمة الأذن فتمتص الدم، کما تتأتی خطورتها من إمکانیة حملها لبعض المیکروبات القاتلة من قبیل الحمی الصفراء. والخفاش یقترب من الماء حین الطیران لیرتشف الماء کالقط بلسانه. ویضع الخفاش القلیل الوزن ما یقارب من أربعة فراخ یحملها معه حین الطیران، أمّا تلک الثقیلة الوزن والتی تشبه القطة أحیاناً، فلا تلد أکثر من فرخ، أضف إلی ذلک فهنالک بعض الخفافیش التی لاتزن أکثر من الدرهم(1).
وقد وردت فی کتاب التوحید للمفضل بعض العبارات القصیرة والعمیقة المعنی بشأن خلقة الخفاش حیث إنّ اللّه خلقه وسطاً بین الطیور والأنعام (الثدیّات) ذلک أنّ له أذنین طویلتین وأسناناً وهو یلد ویرضع ولیده ویمشی علی یدیه ورجلیه، وکل ذلک خلافاً للطیور، کما یطیر فی اللیل ویتغذی علی الحشرات الطائرة فی الهواء، ویعتقد البعض أنّه لا یتغذی سوی علی الهواء، وهذا باطل، وذلک أولاً: لخروج البول والغائط منه وهذا غیر ممکن دون غذاء، وثانیاً: إنّ له أسناناً ولیس لهذه الأسنان من معنی إن لم یتغذَّ ونعلم أنّ اللّه لم یخلق شیئاً عبثاً(2). علی کل حال فکلما أمعنا النظر فی الخفاش أدرکنا عمق الأسرار المرکبة فیه، وهنا نقف علی عظمة ما أورده الإمام علیه السلام فی أنّ اللّه کأنّه خلق هذا المخلوق للتعریف بعظمة قدرته بعرضه أحد بدائع خلقه الذی انطوی علی العدید من العجائب والغرائب.
ص:84
خَاطَبَ بِهِ أهْلَ البَصْرَةِ علی جِهَةِ اقْتِصَاصِ المَلَاحِمِ(1)
أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة إلی مسائل مختلفة مرتبطة مع بعضها البعض رغم استقلالیة کل منها، وتدور هذه الخطبة حول عدّة محاور هی:
الأول: أنّ الإمام علیه السلام حثّ الناس علی طاعته وقد کشف لهم النقاب عن سبیل الجنّة الملئ بالمتاعب والمشقات.
الثانی: إشار الإمام علیه السلام إلی دوافع عائشة فی إثارة فتنة الجمل حتی لا یظن الآخرین بأنّ خروجها للمعرکة یضفی شرعیة علی ممارسات طلحة والزبیر.
الثالث: یتحدث عن القیامة والمعاد ویعدّ الناس لذلک بالتزود من التقوی والعمل الصالح وکسب الفضائل ومکارم الأخلاق.
الرابع: أشار فیه إلی کیفیة بعث الموتی من القبور وحضورهم فی المحشر.
ص:85
الخامس: الحدیث عن ممارسة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر بما یخالف ظن البعض من المشاکل المترتبة علیها فی الحیاة الدنیا والآخرة.
السادس: إشارة إلی أهمیّة القرآن ودوره فی إصلاح الفرد والمجتمع.
السابع: الرد علی سؤال طرحه شخص بشأن الفتنة وهل سأل الإمام علیه السلام رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن ذلک، إلی جانب إخبارهم عن شهادته.
ص:86
فَمَنِ اسْتَطَاعَ عِنْدَ ذلِکَ أَنْ یَعْتَقِلَ نَفْسَهُ عَلَی اللّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَلْیَفْعَلْ. فَإِنْ أَطَعْتُمُونِی فَإِنِّی حَامِلُکُمْ إِنْ شَاءَ اللّهُ عَلَی سَبِیلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ کَانَ ذَا مَشَقَّةٍ شَدِیدَةٍ وَمَذَاقَةٍ مَرِیرَةٍ.
وَأَمَّا فُلَانَةُ فَأَدْرَکَهَا رَأْیُ النِّسَاءِ، وَضِغْنٌ غَلَا فِی صَدْرِهَا کَمِرْجَلِ الْقَیْنِ، وَلَوْ دُعِیَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَیْرِی مَا أَتَتْ إِلَیَّ، لَمْ تَفْعَلْ. وَلَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا الْأُولَی، وَالْحِسَابُ عَلَی اللّهِ تَعَالی.
ذکرنا سابقاً أنّ الإمام علیه السلام أورد هذه الخطبة بعد موقعة الجمل حیث تفید العبارات الواردة فی طلیعتها إشارة الإمام علیه السلام فبل ذلک إلی الفتن التی تنتظر الناس ویحذرهم أنّ فتنة الجمل لیست الأولی والأخیرة فقال:
«فَمَنِ اسْتَطَاعَ عِنْدَ ذلِکَ أَنْ یَعْتَقِلَ نَفْسَهُ عَلَی اللّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَلْیَفْعَلْ. فَإِنْ أَطَعْتُمُونِی فَإِنِّی حَامِلُکُمْ إِنْ شَاءَ اللّهُ عَلَی سَبِیلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ کَانَ ذَا مَشَقَّةٍ شَدِیدَةٍ وَمَذَاقَةٍ مَرِیرَةٍ(1)». مفهوم العبارة
«أَنْ یَعْتَقِلَ نَفْسَهُ» - بالنظر إلی أن یعتقل من مادة عقل بمعنی المنع - اقتصار النفس علی طاعة أوامر اللّه التی تمثل أرفع درجات الطاعة والعبودیة. والعبارة
«وَإِنْ کَانَ ذَا مَشَقَّةٍ» إشارة إلی أنّ الإنسان لا ینال الجنّة والسعادة بالهین، وعلی الفرد الذی یبغی الجنّة أن یعد لها عدتها؛ وذلک لأنّ جهاد النفس ولجم هواها شاق کمواجهة العدو.
ص:87
وقد عبر الإمام علیه السلام عن هذا المعنی فی الخطبة 176 بما رواه عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله
:«إِنَّ الجَنَّةَ حُفَّتْ بِالمَکارِهِ وَإِنَّ النّارَ حُفَّتْ بِالشَّهواتِ».
ثم أشار الإمام علیه السلام إلی الدافع الذی ساق عائشة إلی الجمل - الفتنة التی عمت العالم الإسلامی آنذاک - وقد تطرق إلی التفاصیل بخمس عبارات عمیقة المعانی فقال:
«وَأَمَّا فُلَانَةُ فَأَدْرَکَهَا رَأْیُ النِّسَاءِ، وَضِغْنٌ غَلَا فِی صَدْرِهَا کَمِرْجَلِ(1) الْقَیْنِ(2) ، وَلَوْ دُعِیَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَیْرِی مَا أَتَتْ إِلَیَّ، لَمْ تَفْعَلْ. وَلَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا الْأُولَی، وَالْحِسَابُ عَلَی اللّهِ تَعَالی». لا شک فی أنّ المراد من فلانة فی العبارة المذکورة عائشة، وحیث إنّ الإمام علیه السلام خطب هذه الخطبة بعد موقعة الجمل، یبدو أنّ الهدف هو الرد علی بعض الشبهات، واحدی الشبهات، لو لم تکن هذه المعرکة شرعیة کیف تشترک فیها عائشة لتلعب ذلک الدور الحساس؟ وقد أشار الإمام علیه السلام فی رده علی هذه الشبهة إلی دافعین یکمنان وراء مساندة عائشة لطلحة والزبیر:
الأول: آراؤها الضعیفة کامرأة والتی یستطیع طلحة والزبیر اختراقها وضمها إلی جانبهما، ویؤید ذلک، الأخبار التی صرحت بندم عائشة علی فعلتها وتوبتها.
والآخر، الحقد الدفین الذی کانت تکنه لعلی علیه السلام والذی فاق الحدود بحیث لم یدعها تفکر فی عواقب فعلتها وبوجه من تقف ولحساب من، وکیف ستکون نتیجة المعرکة؟ وقد أسهب شرّاح نهج البلاغة فی بیانهم للعوامل التی تقف وراء ذلک الحقد والبغض؛ إلّاأنّ الشرح الوافی ما ذکره ابن أبی الحدید عن استاذه أبی یعقوب، ونشیر إلی جانب من ذلک:
1. علی علیه السلام زوج الزهراء علیها السلام والزهراء بنت خدیجة وقد شحنت التواریخ المعروفة بالأخبار التی تتحدث عن حساسیة عائشة من خدیجة حتی بعد وفاتها.
2. منزلة فاطمة الزهراء علیها السلام لدی رسول اللّه صلی الله علیه و آله والتی تکشف عن شخصیتها علیها السلام
ص:88
وأنّه کان یولیها منتهی الحب والاحترام حتی صرحت بعض الروایات المعتبرة أنّه اطلق علیها «سیدة نساء العالمین» وقال:
«فَاطِمَةُ بِضعَةٌ مِنِّی مَنْ آذاها فَقَدْ آذانِی وَمَنْ أَغَضبَها فَقَدْ أَغْضَبَنِی»(1). وهذا ما أثار حفیظة عائشة حیث کانت تری أنّها تستحق هذه الألقاب لا غیرها، ولذلک حملت الحقد علی علی علیه السلام.
3. منزلة علی علیه السلام لدی النبی صلی الله علیه و آله ومدی حبّ النبی صلی الله علیه و آله له وحدیثه عن فضائله ومناقبه، وکانت تری أحقیة أبیها أبی بکر بتلک الفضائل.
4. کون نسل رسول اللّه صلی الله علیه و آله من فاطمة علیها السلام وعلی، وحبه للحسن والحسین علیهما السلام بینما لم تکن عائشة ولودة.
5. إغلاق النبی صلی الله علیه و آله کافّة أبواب الصحابة فی المسجد حتی باب بیت أبی بکر سوی باب دار علی علیه السلام. أضف إلی ذلک فهنالک عدّة عوامل أخری لا یسع المجال ذکرها(2).
جدیر بالذکر أنّ ابن أبی الحدید روی عن استاذه أبی یعقوب قال: «ثم بایع علی أباها - عائشة - فسّرت بذلک، وأظهرت من الاستبشار بتمام البَیعة واستقرار الخلافة وبطلان منازعة الخصم ما قد نقله الناقلون فأکثروا واستمرّت الأمور علی هذا مدّة خلاف أبیها وخلافة عمر وعثمان، والقلوب تغلی، والأحقاد تذیب الحجارة، وکلّما طال الزمان علی علیًّ تضاعفت همومه وغمومه، وباح بما فی نفسه إلی أن قتل عثمان، وقد کانت عائشة فیها أشدّ الناس علیه تألیباًُ وتحریضاً، فقالت:
أبعده اللّه! لمَّا سمعت قتله، وأمّلت أن تکون الخلافة فی طلحة، فتعود الإمْرة تیمیة، کما کانت أوّلاً، فعدل الناس عنه إلی علیّ بن أبی طالب، فلمّا سمعت ذلک صرخت:
واعثماناه! قتل عثمان ظلوماً، وثار ما فی الأنفس، حتی تولّد من ذلک یوم الجمل وما بعده»(3).
ص:89
والغریب فی الأمر أنّ بعض العلماء رغم اعترافهم بخطأ عائشة وارتکابها المعصیة فی معرکة الجمل، یزعمون أنّها تابت وقد عفا اللّه عنها. والسؤال الذی یطرح نفسه هنا: هل سفک دماء سبعة عشر ألفاً وفی روایة عشرین ألف مسلم فی الجمل بالإضافة إلی تلک المصائب التی طالت العالم الإسلامی بسبب تلک المعرکة وما زالت آثارها عالقة، یُغفر بمجرّد قول: «استغفر اللّه»؟ وهل یتجاوز اللّه عن هذا الحق بهذه السهولة؟ ذکر ابن عبد ربه فی عقده الفرید أنّ امرأة تدعی أم أوفی دخلت علی عائشة بعد الجمل وسألتها: یا أم المؤمنین ما تقولین فی من قتل ولده الصغیر؟ قالت عائشة: وجبت له نار جهنم؟ ثم سألتها: فما تقولین فیمن قتلت عشرین ألفاً من ولدها؟ أدرکت عائشة أنها المعنیة بهذا السؤال لما فعلته فی الجمل فردت: علیکم بعدوة اللّه هذه(1).
وأما عبارة الإمام علیه السلام: (ولو دعیت لتنال من غیری ما أتت إلیّ، لم تفعل) إشارة إلی أنّ هذه المرأة لم تکن لتطالب بدم عثمان، بل هدفها تألیب الناس علیّ. وأمّا عبارته (ولها بعد حرمتها الاولی) ذلک انها کانت زوج رسول اللّه صلی الله علیه و آله وقد غض النظر عن عقابها فی الدنیا حرمة لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ولذلک أردفها بالعبارة (والحساب علی اللّه تعالی) فی أنّ اللّه سوف لن یعفو عن هذه المعصیة. وقد أشار القرآن إلی هذا الأمر فی الآیة الکریمة 30 من سورة الأحزاب: «یَا نِسَاءَ النَّبِیِّ مَنْ یَأْتِ مِنْکُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَیِّنَةٍ یُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَیْنِ وَکَانَ ذَلِکَ عَلَی اللّهِ یَسِیراً».
ص:90
منها: سَبِیلٌ أَبْلَجُ الْمِنْهَاجِ، أَنْوَرُ السِّرَاجِ، فَبِالْإِیمَانِ یُسْتَدَلُّ عَلَی الصَّالِحَاتِ، وَبِالصَّالِحَاتِ یُسْتَدَلُّ عَلَی الْإِیمَانِ، وَبِالْإِیمَانِ یُعْمَرُ الْعِلْمُ، وَبِالْعِلْمِ یُرْهَبُ الْمَوْتُ، وَبِالْمَوْتِ تُخْتَمُ الدُّنْیَا، وَبِالدُّنْیَا تُحْرَزُ الْآخِرَةُ، وَبِالْقِیَامَةِ تُزْلَفُ الْجَنَّةُ، وَتُبَرَّزُ الْجَحِیمُ لِلْغَاوِینَ. وَإِنَّ الْخَلْقَ لَامَقْصَرَ لَهُمْ عَنِ الْقِیَامَةِ، مُرْقِلِینَ فِی مِضْمَارِهَا إِلَی الْغَایَةِ الْقُصْوَی.
تحدث الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة عن الإیمان ثم آثاره - العمل الصالح والعلم والمعرفة وخوف العقاب والاستعداد للسفر الشاق وبالتالی نیل الجنّة - فقال:
«سَبِیلٌ أَبْلَجُ(1) الْمِنْهَاجِ، أَنْوَرُ السِّرَاجِ». شبه الإمام علیه السلام الإیمان بالسبیل الواضح الخالی من العقبات نهاراً والملئ بالمصابیح لیلاً، کما یحتمل أن یکون المراد من السراج، العلامات والألواح التی تنصب علی جوانب الطرق بغیة إرشاد المسافر إلی الهدف، أی أنّ الإیمان طریقه واضح وعلاماته جلیة.
ثم قال علیه السلام:
«فَبِالْإِیمَانِ یُسْتَدَلُّ عَلَی الصَّالِحَاتِ، وَبِالصَّالِحَاتِ یُسْتَدَلُّ عَلَی الْإِیمَانِ، وَبِالْإِیمَانِ یُعْمَرُ الْعِلْمُ، وَبِالْعِلْمِ یُرْهَبُ الْمَوْتُ»(2). قطعاً أنّ معنی الإیمان فی
ص:91
العبارتین هو الاعتقاد الباطنی؛ و (یستدل) فی العبارة الأولی، یعطی معنی العِلّیة وفی العبارة الثانیة، الکاشفیة، أی أنّ الإیمان سبب العمل الصالح، والعمل الصالح کاشف عن الإیمان، مع ذلک ربّما تکون العلیة هی المرادة من (یستدل) فی المعنیین، أی کما أنّ الإیمان سبب العمل الصالح فإنّ العمل الصالح سبب قوة الإیمان. وقوله علیه السلام (وبالإیمان یعمر العلم) إشارة إلی أمرین:
الأول: إنّ الإنسان إن آمن بالخالق العالم والحکیم وانفتح علی الهدف الذی ینطوی علیه الخلق سیوقن بان لیس هنالک شیء خُلق عبثاً فی هذا العالم فیسعی أثر ذلک للوقوف علی علل الأشیاء وأسرار الظواهر. حیث صرح أحد علماء العلوم الطبیعیة بأنّ العنصر الذی دفع بکبار العلماء للسعی من أجل کشف أسرار الطبیعة ولسنین مدیدة إیمانهم بالهدفیة التی تحکم عالم الخلیقة وأن لیس هنالک من سبیل للعبث فی خلق أی شیء.
الثانی: إنّ أحد موانع العلم والمعرفة هو التعصب الأعمی والغرور، لکن إن حل الإیمان زالت کل هذه الموانع وتمهد السبیل أمام بلوغ منابع العلوم والمعارف. أضف إلی ذلک فإنّ العلم دون عمل هو علم هدام یستبطن الجهل، والعنصر الذی یقرن العلم بالعمل هو الإیمان، کما ورد ذلک فی الحدیث المروی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله، أنّه قال:
«إِنَّ العِلْمَ یَهْتِفُ بِالعَملِ فَإنْ أَجابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ عَنْهُ»(1). وقوله علیه السلام: إنّ الإنسان بسبب العلم یرهب الموت فی أنّه لا یری الموت نهایة الحیاة، بل یراه بدایة حیاة جدیدة یعیشها علی ضوء ما أسلف من أعمال.
ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بذکره للعلة والمعلول واللازم والملزوم فقال:
«وَبِالْمَوْتِ تُخْتَمُ الدُّنْیَا، وَبِالدُّنْیَا تُحْرَزُ الْآخِرَةُ، وَبِالْقِیَامَةِ تُزْلَفُ الْجَنَّةُ، وَتُبَرَّزُ
ص:92
الْجَحِیمُ لِلْغَاوِینَ. وَإِنَّ الْخَلْقَ لَامَقْصَرَ(1) لَهُمْ عَنِ الْقِیَامَةِ، مُرْقِلِینَ(2) فِی مِضْمَارِهَا إِلَی الْغَایَةِ الْقُصْوَی». نعم، الموت نهایة الحیاة الدنیویة وانطلاقة الحیاة الأبدیة، وصحیفة الأعمال تطوی بالموت؛ ذلک أنّ مزرعة الآخرة هی الدنیا، ولیس فی القیامة سوی الجنّة والسعادة الأبدیة أو النار والعذاب الأبدی، وکل إنسان دون استثناء آیل إلی أحدهما. لا یستبعد أن یکون ذکره لهذه العبارة بعید موقعة الجمل أنّ أولئک النفر الضال لو کان إیمانهم قوی لما انساقوا إلی تلک الفتنة والمعرکة القاتلة. فالإیمان یدعو العلم والمعرفة وترجیح الدار الباقیة علی تلک الفانیة: ولکن من المؤسف أنّ حجاب الهوی یحول دون إدراک العقل لهذه الحقائق رغم أنّ الطریق واضح والمعالم جلیة.
أمّا العبارة
«وَبِالْقِیَامَةِ تُزْلَفُ الْجَنَّةُ، وَتُبَرَّزُ الْجَحِیمُ لِلْغَاوِینَ» مقتبسة من سورة الشعراء، الآیة 91-90: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِینَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِیمُ لِلْغَاوِینَ».
ص:93
ص:94
منها: قَدْ شَخَصُوا مِنْ مُسْتَقَرِّ الْأَجْدَاثِ، وَصَارُوا إِلَی مَصَائِرِ الْغَایَاتِ.
لِکُلِّ دَارٍ أَهْلُهَا، لَایَسْتَبْدِلُونَ بِهَا وَلَا یُنْقَلُونَ عَنْهَا.
وَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْیَ عَنِ الْمُنْکَرِ، لَخُلُقَانِ مِنْ خُلُقِ اللّهِ سُبْحَانَهُ؛ وَإِنَّهُمَا لَایُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ، وَلَا یَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ. وَعَلَیْکُمْ بِکِتَابِ اللّهِ، «فَإِنَّهُ الْحَبْلُ الْمَتِینُ، وَالنُّورُ الْمُبِینُ»، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، وَالرِّیُّ النَّاقِعُ، وَالْعِصْمَةُ لِلْمُتَمَسِّکِ، وَالنَّجَاةُ لِلْمُتَعَلِّقِ. لَایَعْوَجُّ فَیُقَامَ، وَلَا یَزِیغُ فَیُسْتَعْتَبَ، «وَلَا تُخْلِقُهُ کَثْرَةُ الرَّدِّ»، وَوُلُوجُ السَّمْعِ. «مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ سَبَقَ».
خاض الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة عقب العبارات السابقة - التی تحدث فیها عن الموت والجنّة والنار - فی مسألة الحشر والنشر یوم القیامة ثم تطرق إلی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وأهمیّة القرآن الکریم، کونها تشکل العناصر المحوریة فی النجاة یوم القیامة فقال:
«قَدْ شَخَصُوا(1) مِنْ مُسْتَقَرِّ الْأَجْدَاثِ(2) ، وَصَارُوا إِلَی مَصَائِرِ الْغَایَاتِ. لِکُلِّ دَارٍ أَهْلُهَا، لَایَسْتَبْدِلُونَ بِهَا وَلَا یُنْقَلُونَ عَنْهَا».
فأشار بادیء الأمر إلی أنّ الجمیع ینهضون من القبر کما ورد ذلک کراراً فی القرآن
ص:95
الکریم: «یَومَ یَخرُجُونَ مِنَ الأجداثِ سراعاً»(1) ویستفاد من العبارة أنّ ذرات البدن التی تحولت إلی تراب تعود إلی القبر أینما کانت لتحیا ثانیة وتنفض عنها التراب.
وهنا یرد هذا السؤال: إنّ آیات القرآن صریحة فی أنّ الدنیا ستنتهی بزلزلة عظیمة تحطم کل شیء فکیف ستبقی القبور ویخرج الموتی منها إلی الحساب؟ أوردنا الاجابة عن هذا السؤال فی الجزء الثالث من الأنوار العلویة.
ثم أشار الإمام علیه السلام إلی عدم استبدال دور الجنّة والنار وسیقیم کل شخص علی ضوء أعماله فی الجنّة أو النار؛ والمراد أنّ الثواب والعقاب فی الآخرة للمؤمن والکافر أبدیان، لا یمکن استبداله ولا نقله. والحق أنّ تلک الدار علی قدر من النظام والدقة الذی ینسجم مع العقیدة والعمل وکان کل مکان یبحث عن شخص لا العکس. ثم أشار الإمام علیه السلام إلی قضیة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر علی أنّ معرکة الجمل کانت من النماذج البارزة لهذا المفهوم، فقال:
«وَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْیَ عَنِ الْمُنْکَرِ، لَخُلُقَانِ مِنْ خُلُقِ اللّهِ سُبْحَانَهُ؛ وَإِنَّهُمَا لَایُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ، وَلَا یَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ». علی غرار ما جاء فی القرآن الکریم: «إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِیتَاءِ ذِی الْقُرْبَی وَیَنْهَی عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنکَرِ وَالْبَغْیِ». ویری بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ التعبیر (بالخُلُق) عن اللّه هو تعبیر مجازی (مجاز فی الکلمة أو مجاز فی النسبة)، لأنّ الخُلُق ملکة نفسانیة تنبعث من الأعمال الصالحة والسیئة، واللّه منزّه عن هذه العوارض والحالات، إمّا أن اعتبرنا الخُلُق بمعنی الوصف فلیست هنالک من مشکلة سواء أُرید به الحالة النفسانیة أو الوصف عین الذات الذی یطلق علی اللّه. علی کل حال فإنّ الوظائف التی عینها الإسلام للناس تکون أحیاناً متعلقة بالإنسان مثل العبادات وأغلب المحرمات، لکن هنالک أمور واسعة جدّاً تصدق حتی علی اللّه، کالعدالة وترک الظلم وإرشاد الجاهل وتنبیه الغافل والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، بل إنّ أساس نزول الکتب السماویة وبعث الأنبیاء علی ضوء
ص:96
الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر أو إرشاد الجاهل، وبناءً علی هذا، کفی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر أهمیّة أنّه محور انطلاقة جمیع الأنشطة للأنبیاء والرسل. وما قاله الإمام علیه السلام من أنّهما لا یقربان من أجل ولا ینقصان من رزق، إشارة إلی أنّ أغلب الناس من ذوی النظرة الضیقة والآفاق المحدودة یعتقدون بأنّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر یؤدّی إلی الاشتباک مع أهل المعاصی، وهذا ما یؤدّی بدوره إلی القتل تارة وأخری انفراج الناس عن هذا الإنسان وبالتالی قلة رزقه.
ولکن إن جری الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وفق الأسلوب الصحیح والمعقول وجانب الافراط والتفریط فإنّ اللّه یحفظ الإنسان الذی یمارس هذه الوظیفة ولا یبخل علیه فی رزقه. وللأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، شرائط، منها: احتمال التأثیر وعدم الضرر، کما أنّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر نوعان؛ عام، وهو وظیفة کافّة الناس (عن طریق القلب واللسان، وخاص، وهو وظیفة الحکومة الاسسلامیة (من خلال الإجراءات العملیة). فلو راعی الإنسان هذه الأمور فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر إلی جانب الأدب والاحترام فسوف یحظی بحب الآخرین واحترامهم لا انفراجهم عنه ونفرتهم، فإن عرضت له بعض المکاره یفرجها اللّه تعالی. وزبدة الکلام إنّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر هو أساس ودعامة نظام المجتمع وقدسیته ونهضته وتطوره، والعکس بالعکس، فإنّ المجتمع الذی یموت فیه الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر یستفحل فیه التنصل عن المسؤولیه وترتکب فیه الذنوب والمعاصی ویجهر فیه بالفسوق حتی یغط المجتمع فی وحل الانحراف والفساد.
ولما کان سبیل نیل السعادة وحل المشاکل الفردیة والاجتماعیة یتمثل بالعودة إلی القرآن فإنّ الإمام علیه السلام یتطرق هنا إلی أهمیّة القرآن لیوضحها بعبارات حیة عمیقة المعانی وتشبیهات لطیفة ضمن احدی عشرة جملة - تشیر کل جملة منها إلی میزة من مزایا القرآن - قال
«وَعَلَیْکُمْ بِکِتَابِ اللّهِ، فَإِنَّهُ الْحَبْلُ الْمَتِینُ».
ص:97
کأنّ البشریة قبل التعلیم والتربیة مستغرقة فی وحل الطبیعة ولابدّ لها من التمسک بحبل بغیة النجاة. وینبغی أن یکون هذا الحبل متیناً کی لا یترکها منتصف الطریق.
ومن هنا یعبر عن القرآن بالحبل المتین، الوسیلة الفضلی فی النجاة، وبالنظر إلی أنّ سلوک الطریق فی الظلمات یؤدّی إلی الضلال والسقوط فی المستنقعات فقد شبه القرآن بالنور المبین الذی یحف الإنسان حتی یبلغ الهدف.
وقال فی صفته الثالثة والرابعة بالنسبة للقرآن:
وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، وَالرِّیُّ(1) النَّاقِعُ(2)»، فالصفات الذمیمة والرذائل الأخلاقیة سواء تلک التی یتسم بها الفرد أو الجماعة کالأمراض المعضلة وربّما القاتلة وقد ورد علاجها فی ظلال القرآن الکریم، وطالما کان أهم عوامل الحیاة ودیمومتها هو الماء فإنّ القرآن الکریم یلعب دور الماء فی حیاة الإنسان المعنویة، ومن هنا عدّه الإمام علیه السلام وسیلة ری عطاشی الحق.
ثم قال فی المیزة الخامسة والسادسة:
«وَالْعِصْمَةُ لِلْمُتَمَسِّکِ، وَالنَّجَاةُ لِلْمُتَعَلِّقِ» فالإنسان عادة ما یتعرض فی مسیرته نحو الصلاح والسعادة إلی بعض المطبات ولابدّ له من التمسک بما یعونه من الوقوع فی تلک المطلبات. وقال فی المیزة السابعة والثامنة
«لَا یَعْوَجُّ فَیُقَامَ، وَلَا یَزِیغُ فَیُسْتَعْتَبَ(3)». قطعاً أنّ کلام اللّه الذی یستند إلی علمه المطلق لیس من سبیل للخلاف والخطأ والانحراف إلیه، ذلک لأنّ الخطأ إنّما یقارفه من کان علمه محدوداً وقدرته بسیطة، لا تلک الذات المطلقة العلم والقدرة، ونعلم جمیعاً أنّ احدی ملامح اعجاز القرآن، عدم وجود التضاد والاختلاف فی آیاته:
«وَلَو کَانَ مِن عِنْدِ غَیْرِ اللّهِ لَوجَدُوا فِیهِ اختِلافاً کَثِیراً»(4) کما
ص:98
ورد فی سورة الکهف: «الحَمْدَ للّهِ الَّذِی أَنزَلَ عَلَیْ عَبْدِهِ الکِتابَ وَلَمْ یَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً»(1).
ثم قال فی الصفة التاسعة:
«وَلَا تُخْلِقُهُ کَثْرَةُ الرَّدِّ، وَوُلُوجُ السَّمْعِ». أجل فطراوة القرآن وحلاوته ودوره التربوی یسمو علی القراءة والتکرار، ذلک لأنّ القرآن کلام اللّه وکلامه کذاته غیر متناهٍ وکلما تدبر الإنسان فیه اکتشف حقیقة جدیدة وکلما تطور العلم البشری کلما تکشفت أبعاد جدیدة منه کما قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله
:«لا تُحصَی عَجائِبُهُ وَلا تُبلَی غَرائِبُهُ»(2) أو کما ورد عن الإمام الرضا علیه السلام حین سأله شخص عن تسامی القرآن علی التلاوة والتکرار فقال علیه السلام:
«لأنَّ اللّهَ تَبارَکَ وَتَعالی لَم یَجْعَلْهُ لِزمانٍ دُونَ زَمانَ وَلا لِناسِ دُونَ ناسٍ فَهُو فِی کُلِّ زَمانٍ جَدیدٍ وَعندَ کُلُّ قَوم غَضُّ إلی یَوم القَیامَةِ»(3).
وأخیراً قال فی المیزة العاشرة والحادیة عشرة:
«مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ سَبَقَ». إشارة إلی أنّ القرآن معیار الحق والباطل والنصر والهزیمة، ومن تحدث علی ضوء القرآن کان کلامه عین الحقیقة ومن التزم بالقرآن عملاً نال السعادة، ولاغرو فلیس من سبیل للخطأ إلی القرآن وهذا ما یجعل الملتزم به قریباً من الحق فی منطقه وسلوکه.
ص:99
ص:100
وقام إلیه رجل فقال: یا أمیرالمؤمنین، أخبرنا عن الفتنة، وهل سألت رسول اللّه صلی الله علیه و آله عنها؟ فقال علیه السلام:
إِنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ، قَوْلَهُ: «الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ یُتْرَکُوا أَنْ یَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَایُفْتَنُونَ» عَلِمْتُ أَنَّ الْفِتْنَةَ لَاتَنْزِلُ بِنَا وَرَسُولُ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - بَیْنَ أَظْهُرِنَا. فَقُلْتُ: یَا رَسُولَ اللّهِ، مَا هذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِی أَخْبَرَکَ اللّهُ تَعَالَی بِهَا؟ فَقَالَ: «یَا عَلِیُّ، إِنَّ أُمَّتِی سَیُفْتَنُونَ مِنْ بَعْدِی»، فَقُلْتُ:
یَا رَسُولَ اللّهِ، أَوَلَیْسَ قَدْ قُلْتَ لِی یَوْمَ أُحُدٍ حَیْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِینَ، وَحِیزَتْ عَنِّی الشَّهَادَةُ، فَشَقَّ ذلِکَ عَلَیَّ، فَقُلْتَ لِی: «أَبْشِرْ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِکَ؟» فَقَالَ لِی: «إِنَّ ذَلِکَ لَکَذلِکَ، فَکَیْفَ صَبْرُکَ إِذَنْ؟» فَقُلْتُ: یَا رَسُولَ اللّهِ، لَیسَ هَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ، وَلکِنْ مِنْ مَوَاطِنِ الْبُشْری وَالشُّکْرِ.
جاء فی متابعة الخطبة:
«وقام إلیه رجل فقال: یا أمیرالمؤمنین، أخبرنا عن الفتنة، وهل سألت رسول اللّه صلی الله علیه و آله عنها؟» فالعبارة تشیر إلی أنّ أذهان الناس کانت تساورها وقوع الفتنة، وأراد السائل أن یعرف هل ورد عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله شیء بشأن هذه الفتنة الخطیرة. فأجابه الإمام علیه السلام:
«إِنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ، قَوْلَهُ : «الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ یُتْرَکُوا أَنْ یَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَایُفْتَنُونَ» (1)
عَلِمْتُ أَنَّ الْفِتْنَةَ لَاتَنْزِلُ بِنَا
ص:101
وَرَسُولُ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - بَیْنَ أَظْهُرِنَا. فَقُلْتُ: یَا رَسُولَ اللّهِ، مَا هذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِی أَخْبَرَکَ اللّهُ تَعَالَی بِهَا؟ فَقَالَ: «یَا عَلِیُّ، إِنَّ أُمَّتِی سَیُفْتَنُونَ مِنْ بَعْدِی»، فَقُلْتُ: یَا رَسُولَ اللّهِ، أَوَلَیْسَ قَدْ قُلْتَ لِی یَوْمَ أُحُدٍ حَیْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِینَ، وَحِیزَتْ(1) عَنِّی الشَّهَادَةُ، فَشَقَّ ذلِکَ عَلَیَّ، فَقُلْتَ لِی: «أَبْشِرْ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِکَ؟(2)» فَقَالَ لِی: «إِنَّ ذَلِکَ لَکَذلِکَ، فَکَیْفَ صَبْرُکَ إِذَنْ؟» فَقُلْتُ: یَا رَسُولَ اللّهِ، لَیسَ هَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ، وَلکِنْ مِنْ مَوَاطِنِ الْبُشْری وَالشُّکْرِ».
تفید العبارة الواردة فی الخطبة أنّ الآیة: «الم * أَحَسِبَ النَّاسُ...» أنّها نزلت فی المدینة بعد موقعة أحد، فی حین یتفق المفسرون علی أنّ سورة العنکبوت مکیة، حیث لم یکن آنذاک شیء عن الجهاد.
قیل فی الجواب عن هذا السؤال: إنّ مکیة سورة معینة یعنی نزول السورة بجمیع آیاتها فی مکة، بل لا یمنع أن تکون أغلب آیاتها نزلت فی مکة کما نزلت آیة أو أکثر، منها فی المدینة، وقد أمر النبی صلی الله علیه و آله بوضع هذه الآیة فی السورة، علی غرار إجماع المفسرین علی مکیة سورة النحل مع العلم الیقین بنزول ثلاث آیات منها بعد موقعة أحد.
السؤال الثانی: من أین علم علی علیه السلام بعد نزول الآیة المذکورة أنّ الفتنة لا تقع علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله بینما لم تشر الآیة إلی هذا الأمر من قریب أو بعید؟
ص:102
والجواب واضح فی أنّ المراد من الفتنة خطر الانحراف عن أصول الدین وفروعه والذی یهدد کیان الأُمّة الإسلامیة ولیس لمثل هذا الانحراف أن یقع طالما کان النبی صلی الله علیه و آله بین ظهرانیهم، ولکن ما أن تغیب شمس النبی صلی الله علیه و آله حتی یستغل المنافقون الفرصة وتبرز الخلافات.
السؤال الثالث: ما تلک الفتنة التی أشار النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی هذه الخطبة إلی وقوعها بعده؟ فقد ورد فی روایة عن النبی صلی الله علیه و آله تعرض للتفاصیل أکثر من روایة نهج البلاغة، أنّه قال:
«إنّ أمتی ستفتن من بعدی فتتأول القرآن وتعمل بالرأی وتستحل الخمر بالنبیذ(1) والسحت بالهدیة والربا بالبیع وتحرف الکتاب عن مواضعه وتغلب کلمة الضلال فکن جلیس بیتک حتی تقلدها، فإذا قلدتها جاشت علیک الصدور وقلبت لک الأمور»(2). فهذا الحدیث الذی ذکره ابن أبی الحدید فی شرحه لهذه الخطبة یبیّن تلک الفتنة الکبری(3).
السؤال الرابع والأخیر:
لماذا سأل علی علیه السلام بشأن شهادته؟ فهل أشار النبی صلی الله علیه و آله إلی شهادته حین تحدث عن تلک الفتنة؟ والحال لم یرد فی الخطبة ما یشیر إلی هذا الأمر؟ والجواب کما أسلفنا أنّ المرحوم السید الرضی (ره) قد أوجز الخطبة. وقد ورد فی الروایات المفصلة أنّ علیاً علیه السلام لما سمع من النبی صلی الله علیه و آله وقوع هذه الفتنة قال: یارسول اللّه لقد وعدتنی بالشهادة فاسأل اللّه أن یعجل لی بین یدیک. قال صلی الله علیه و آله: فمن یقاتل الناکثین والقاسطین والمارقین؟ أمّا أنی وعدتک الشهادة وستستشهد تضرب علی هذه فتخضب هذه(4).
ص:103
القضیة الجدیرة بالذکر فی هذا المقطع من الخطبة ما ورد من حوار بین النبی صلی الله علیه و آله وعلی علیه السلام، حیث تطرق النبی الأکرم صلی الله علیه و آله إلی مفهوم الصبر الذی یکشف عن ذروة الإیمان وقمة الإیثار والتضحیة فی سبیل اللّه والقیم الإسلامیة التی لم تنقل عن شخص آخر علی غرار ما هی علیه بالنسبة لعلی علیه السلام، ولعلنا نلمس امتدادات ذلک فی صرخته التی اطلقها علیه السلام حین ضرب فی محراب عبادته وخضب بدمه،
«فُزْتُ وَرَبُّ الکَعْبَةِ».
ص:104
وَقَالَ: «یَا عَلِیُّ، إِنَّ الْقَوْمَ سَیُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهِمْ، وَیَمُنُّونَ بِدِینِهِمْ عَلَی رَبِّهِمْ، وَیَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ، وَیَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ، وَیَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْکَاذِبَةِ، وَالْأَهْوَاءِ السَّاهِیَةِ، فَیَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِالنَّبِیذِ، وَالسُّحْتَ بِالْهَدِیَّةِ، وَالرِّبَا بِالْبَیْعِ» قُلْتُ: یَا رَسُولَ اللّهِ، فَبِأَیِّ الْمَنَازِلِ أُنْزِلُهُمْ عِنْدَ ذلِکَ؟ أَبِمَنْزِلَةِ رِدَّةِ، أَمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةِ؟ فَقَالَ: «بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةِ».
قال الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة الذی یمثل آخرها ومواصلة لنقل کلام النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بخصوص الفتنة التی تقع من بعده:
«وَقَالَ: «یَا عَلِیُّ، إِنَّ الْقَوْمَ سَیُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهِمْ، وَیَمُنُّونَ بِدِینِهِمْ عَلَی رَبِّهِمْ، وَیَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ، وَیَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ، وَیَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْکَاذِبَةِ، وَالْأَهْوَاءِ السَّاهِیَةِ، فَیَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِالنَّبِیذِ، وَالسُّحْتَ(1) بِالْهَدِیَّةِ، وَالرِّبَا بِالْبَیْعِ».
فقد رکز رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی تفاصیل هذه الفتنة الکبری وأشار إلی خمس صفات من صفات الفئة التی تعیش ذلک الاختبار. فصرح قبل کل شیء بافتتانهم بأموالهم فی إشارة إلی أنّ المال من المحاور الرئیسیة فی الاختبار والامتحان، کما نری أنّ الأمر کذلک فی کل عصر ومصر، والآخر، أنّهم یعیشون حالة من الغرور
ص:105
الزائف، ذلک أنّهم یتطاولون علی الناس بإسلامهم وکأنّهم یمنّون علی اللّه، ویظنون رغم کل آثامهم بنیل رحمة اللّه والأمان من عذابه، وهذه هی الحالة التی تستحوذ عادة علی جمیع الاثمین المغرورین الراضین عن أنفسهم.
قال القرآن الکریم بشأن بعض الأعراب الذین اعتنقوا الإسلام حدیثاً واتسموا بتلک الصفات: «یَمُنُّونَ عَلَیْکَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَّ تَمُنُّوا عَلَیَّ إِسْلَامَکُمْ بَلِ اللّهُ یَمُنُّ عَلَیْکُمْ أَنْ هَدَاکُمْ لِلْإِیمَانِ إِنْ کُنتُمْ صَادِقِینَ»(1).
المیزة الأخری لهؤلاء أنّهم یحاولون التغطیة علی أعمالهم السیئة بغیة خداع الآخرین وربّما خداع أنفسهم. فهم علی سبیل المثال یتناولون الخمور وحین یشکل علیهم بأنّها من المحرمات، قالوا: بل هذا النبیذ الذی کان یشربه رسول اللّه صلی الله علیه و آله وأصحابه، فی حین لم یکن ذلک النبیذ مسکراً ولا حراماً، وقضیة ذلک النبیذ أنّ أصحابه بعد أن قدموا إلی المدینة وشکوا من طبیعة الماء، أشار علیهم بقذف عدّة تمیرات فی ظرف کبیر من الماء. ولم یکن ذلک الماء مضافاً، کما لم تکن التمیرات بالحد الذی یؤدّی إلی السکر، فکانوا یشربون من ذلک الماء ویتوضأون به، إلّاأنّ بعض المغرضین استغل هذه القضیة وقذف المزید من التمر وعرضها للحرارة حتی تخمرت وتحولت إلی مسکر، فکانوا یتعاطونه باسم النبیذ(2). علی غرار الکثیر من الأشخاص ضعاف الإیمان فی الماضی والحاضر الذین یصطلحون علی الرشوة بالهدیة، کما یمارسون الربا فی معاملاتهم باسم البیع. طبعاً یسعی الآثمون فی الأوساط الدینیة التی لا یخفی فیها الإثم ویؤدّی إلی بعض المشاکل بالنسبة لمن یقارفه إلی ممارسة الحرمات من خلال بعض المظاهر الزائفة، وهذا ما تناولته الأخبار الواردة بشأن الفتنة.
ثم اختتم الإمام علیه السلام خطبته فی حدیثه مع الرسول اللّه صلی الله علیه و آله:
«قُلْتُ: یَا رَسُولَ اللّهِ،
ص:106
فَبِأَیِّ الْمَنَازِلِ أُنْزِلُهُمْ عِنْدَ ذلِکَ؟ أَبِمَنْزِلَةِ رِدَّةِ(1) ، أَمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةِ؟ فَقَالَ: «بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةِ».
یبدو أنّ هؤلاء الأفراد یقرون بالتوحید والنبوّة وکان انحرافهم فی القضایا العملیة، ولم یکونوا منکرین حتی لضروریات الدین وکانوا یسعون لتمویه ما یقترفون من محرمات بغطاء الحلال، وعلیه لا یجری علیهم حکم الارتداد، ولم یعاملهم الإمام علیه السلام کمرتدین.
ما أورده النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بشأن الفتنة لا یقتصر علی عهد علی علیه السلام بل یمتد لیشمل کل العصور بما فیها عصرنا الراهن. فهنالک العدید من الأفراد الذی یظنون أنّهم فی رکب المؤمنین حین یجری الکلام عن الأموال والثروة غیر المشروعة وکأنّهم یمنون علی اللّه بإسلامهم ویطمعون بعفوه ورحمته. والأسوأ من ذلک ارتکاب الکبائر فی إطار بعض العناوین المباحة والمزیفة، بعبارة أخری یرتکبون هذه المخالفات من خلال التحایل علی القانون واستغلال بعض فقراته المرنة. ولعلنا نشاهد الیوم أغلب المرابین الذین یتشبثون بمختلف الحیل، تارة باسم تبدیل العملات النقدیة بأخری، وتارة أخری عن طریق «ضم الضمیمة» أی أنّهم یضمون إلی المعاملة شیئاً زهید القیمة فیبیعونه بقیمة فادحة، وأحیاناً باسم تقاضی الأجور وأخری ببیع الشروط الکاذبة أو حق العمل وذریعة التضخم وسائر العناوین الکاذبة والزائفة لإضفاء الحلیة علی الربا، حتی عدنا نلمس بوضوح ما قاله النبی صلی الله علیه و آله بهذا الخصوص
«یَأتِی عَلَی النَّاسَ زَمانٌ لایَبقَی أَحَدٌ إِلَّا أَکَلَ الرِّبا فَإنْ لَمْ یَأکُلْهُ أَصابَهُ مِنْ غُبارِهِ»(2). حقّاً أنّ هذا النوع من المخالفة للقوانین الشرعیة هو أسوأ وأخطر من
ص:107
المخالفة الصریحة؛ لأنّها قد تستشری سریعاً فی أوساط المجتمع دون أن تصطدم ببعض الموانع، والحال لیست المعاصی الصریحة بهذا الشکل والتی تصطدم بالکثیر من العقبات فی المجتمعات الدینیة. أضف إلی ذلک فإنّ هذا الهروب من القانون یعد جریمة مضاعفة؛ فهو ینطوی علی معصیة الربا إلی جانب الریاء والتلاعب بأحکام الدین. بعبارة أخری، لا یبقی من القانون والحکم الشرعی فی الهروب سوی صورته الظاهریة مع اسقاط مضمونه وفلسفته؛ فتحریم الربا مثلاً یستند إلی مفاسدة العدیدة علی النظام الاقتصادی للمجتمع وإثارة السلبیة فی خلق الطبقیة البغیضة وبروز الطبقة المعدمة إلی جانب تلک المرفهة، ومن هنا عدّته بعض الروایات أسوأ من الزنا بالمحارم وأنّه بمثابة محاربة اللّه، وذکرت سبعاً من مفاسده أوضحناها فی بحث الربا(1). ولنا أن نتساءل: هل تزول هذه المفاسد بممارسة بعض الأمور الظاهریة من قبیل إضافة علبة کبریت أو مقدار من النبات إلی تلک المعاملة الثقیلة؟ کلا. وهل یکمن جوهر المشکلة فی کلمة السحت والربا کما قال المرحوم وحید البهبهانی وأنّ جمیع مساویء الربا إنّما تعود إلی هذه الألفاظ، أم أنّ هنالک حکمة فی هذا الحکم لا ینبغی الغفلة عنها؟!
ص:108
یَحُثُّ النَّاسَ عَلَی التَّقْوی(1)
استهل الإمام علیه السلام هذه الخطبة کسائر خطب نهج البلاغة بحمد اللّه والثناء علیه، ثم خاض فی بعض الأمور الحساسة. تطرق فی القسم الأول إلی الاعتبار بالماضین - الذین نشترک معهم فی المصیر - لیأخذ بأیدینا إلی أعماق التاریخ لننظر بوضوح لمصیرنا فنظفر بالسعادة.
وأشار فی القسم الثانی إلی أهمیّة الورع والتقوی والتزود من الدنیا للآخرة، وحذر من أنّ نهایة الحیاة الدنیا لیست معلومة لأی فرد فلا ینبغی الغفلة. وتحدث فی القسم الثالث عن المراصد التی تتابع أعمال الإنسان بما فیها الملائکة والحفظة وحتی جوارح الإنسان وأعضائه.
ص:109
وخاض فی القسم الأخیر فی نهایة الحیاة وعالم القبر والوحشة هنالک وفناء الدنیا والقیامة من خلال عبارات قصیرة تهز الإنسان وتحثه علی اغتنام الفرصة.
ص:110
الْحَمْدُلِلّهِ الَّذِی جَعَلَ الْحَمْدَ مِفْتَاحاً لِذِکْرِهِ، وَسَبَباً لِلْمَزِیدِ مِنْ فَضْلِهِ، وَدَلِیلاً عَلَی آلَائِهِ وَعَظَمَتِهِ.
عِبَادَ اللّهِ، إِنَّ الدَّهْرَ یَجْرِی بِالْبَاقِینَ کَجَرْیِهِ بِالْمَاضِینَ؛ لَایَعُودُ مَا قَدْ وَلَّی مِنْهُ، وَلَا یَبْقَی سَرْمَداً مَا فِیهِ.
آخِرُ فَعَالِهِ، کَأَوَّلِهِ. مُتَشَابِهَةٌ أُمُورُهُ، مُتَظَاهِرَةٌ أَعْلَامُهُ. فَکَأَنَّکُمْ بِالسَّاعَةِ تَحْدُوکُمْ حَدْوَالزَّاجِرِ بِشَوْلِهِ: فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَیْرِ نَفْسِهِ تَحَیَّرَ فِی الظُّلُمَاتِ، وَارْتَبَکَ فِی الْهَلَکَاتِ، وَمَدَّتْ بِهِ شَیَاطِینُهُ فِی طُغْیَانِهِ، وَزَیَّنَتْ لَهُ سَیِّیءَ أَعْمَالِهِ. فَالْجَنَّةُ غَایَةُ السَّابِقِینَ، وَالنَّارُ غَایَةُ الْمُفَرِّطِینَ.
استهل الإمام علیه السلام الخطبة بحمد اللّه بعبارات جدیدة فقال:
«الْحَمْدُ(1) لِلّهِ الَّذِی جَعَلَ الْحَمْدَ مِفْتَاحاً لِذِکْرِهِ، وَسَبَباً لِلْمَزِیدِ مِنْ فَضْلِهِ، وَدَلِیلاً عَلَی آلَائِهِ وَعَظَمَتِهِ». أمّا بشأن الذکر الوارد فی العبارة، فقد قیل: المراد به القرآن الکریم حسب بعض الآیات التی عبرت عنه بالذکر، وذلک لأن سورة الحمد بدایة القرآن (بناءً علی أنّ سورة الحمد أول سورة نزلت علی النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وأنّ القرآن جمع بهذا الشکل علی عهد
ص:111
النبی صلی الله علیه و آله بأمره وقد صدر بسورة الحمد(1). أو أنّها إشارة إلی بعض السور القرآنیة التی تصدرت بالحمد کسورة الحمد والأنعام والکهف وسبأ وفاطر. أو أنّ الذکر مطلق ذکر اللّه کما ورد فی الأحادیث عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال:
«کل کلام لا یبدأ فیه بحمد اللّه فهو أجذم»(2). ومن هنا نشاهد أغلب خطب النبی الأکرم صلی الله علیه و آله والمعصومین علیهم السلام تستهل بحمد اللّه والثناء علیه. والعبارة (سبباً للمزید من فضله) إشارة للآیة الکریمة:
«لَئن شَکَرتُم لأزِیدَنَّکُم»(3) وهنا لابدّ من الإلتفات إلی أنّ الحمد ورد فی أغلب الآیات القرآنیة بمعنی الشکر. والعبارة (دلیلاً علی عظمته وآلائه) إشارة إلی أننا حین نحمد اللّه ونشکره فإننا نکون قد توجهنا إلی نعمه وآلائه إلی جانب التفاتنا لمقام عظمته.
ثم خاطب الإمام علیه السلام عباد اللّه لیحذّرهم من تقلب الدنیا ویوصیهم بالاعتبار بمن سبقهم من الماضین فقال:
«عِبَادَ اللّهِ، إِنَّ الدَّهْرَ(4) یَجْرِی بِالْبَاقِینَ کَجَرْیِهِ بِالْمَاضِینَ».
والعبارة تشیر إلی موضوع معروف فی أنّ التاریخ یعید نفسه وأنّ حوادث الیوم هی حوادث الأمس بتغییر طفیف. ویقول موضحاً ذلک
«لَا یَعُودُ مَا قَدْ وَلَّی مِنْهُ، وَلَا یَبْقَی سَرْمَداً مَا فِیهِ، آخِرُ فَعَالِهِ، کَأَوَّلِهِ. مُتَشَابِهَةٌ أُمُورُهُ، مُتَظَاهِرَةٌ أَعْلَامُهُ». أجل، لو تمعنا قلیلاً لعرفنا أنّ سلسلة من الأصول تحکم تاریخ البشریة وأنّها تبرز کل یوم بصیغة جدیدة، ومن هنا یستطیع کل فرد الوقوف علی مستقبله من خلال دراسة تاریخ الماضین، ذلک أنّ تاریخ الأمس مرآة عاکسة لأحداث الیوم. فهنالک علی الدوام فئة تمسک بزمام الأمور وتسیطر علی کل شیء ولا تمضی علیها مدّة حتی
ص:112
یدب فیها الضعف والعجز وتتخلی عن تلک السلطة مختارة أو مرغمة إلی الآخرین «فَإذا جَاءَ أَجَلُهُم لایَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا یَسْتَقْدِمُونَ»، کما جرت العادة علی أنّ یولد الفرد طفلاً ثم یصبح شاباً یافعاً وبالتالی یسیر إلی الشیخوخة والهرم لینتظر أجله فیلتحق بقافلة الموتی ویتوسد التراب.
وما أن یفرغ الإمام علیه السلام من هذا الأمر حتی یسدی نصائحه ومواعظه
«فَکَأَنَّکُمْ بِالسَّاعَةِ تَحْدُوکُمْ(1) حَدْوَالزَّاجِرِ بِشَوْلِهِ». وبالنظر إلی أنّ الزاجر تطلق علی من یسوق الجمال بسرعة، والشوال جمع شائلة التی تطلق علی الجمال الخفیفة، أی التی مضت مدّة علی وضعها لحملها وقد جفّ ثدیاها وبالطبع لا یلتفت إلیها الراعی، نستنتج أنّ الدهر یسوق الناس سراعاً إلی الفناء. فما أسرع اللیالی والأیّام والسنوات والأشهر، إلی جانب الحوادث المفاجئة والأمراض وسائر الأمور التی تستهدف حیاة الإنسان.
ثم یلفت علیه السلام الانتباه بعد ذلک التحذیر إلی هذه الحقیقة:
«فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَیْرِ نَفْسِهِ تَحَیَّرَ فِی الظُّلُمَاتِ، وَارْتَبَکَ(2) فِی الْهَلَکَاتِ، وَمَدَّتْ بِهِ شَیَاطِینُهُ فِی طُغْیَانِهِ، وَزَیَّنَتْ لَهُ سَیِّیءَ أَعْمَالِهِ». فکل إنسان ینطوی علی بعض المناقص والمثالب ونقاط الضعف ولیس له من سبیل سوی إصلاحها لیتدرج فی المسیرة نحو الإنسان الکامل فیستحق قرب اللّه وخلافته، أمّا من صوب نظره خارج ذاته وانهمک بسائر قضایا الناس کالمال والثروة والجاه فلا مناص أنّه سیعیش الحیرة والارباک، والأسوأ من ذلک أنّ الشیاطین تتخطف هذا الإنسان الغافل فتسوقه إلی الطغیان وتزین له سوء أعماله حتی یراها من مواطن قوته فیفخر بها، ومن الطبیعی أنّ مثل هذا الإنسان لا سبیل لدیه إلی النجاة. صرح القرآن بشأن مثل هذا الفرد: «کَمَنْ مَثَلُهُ فِی الظُّلُمَاتِ لَیْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا کَذَلِکَ زُیِّنَ لِلْکَافِرِینَ مَا کَانُوا یَعْمَلُونَ»(3).
ص:113
وأشار علیه السلام فی ختام هذا القسم من الخطبة إلی مصیر هذا العمل فقال:
«فَالْجَنَّةُ غَایَةُ السَّابِقِینَ، وَالنَّارُ غَایَةُ الْمُفَرِّطِینَ» والمراد طبعاً من السابقین، السابقین فی میدان طاعة اللّه وهدفهم الجنّة، علی غرار ماورد فی القرآن الکریم: «سَابِقُوا إِلَی مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا کَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِینَ آمَنُوا»(1) العبارة (والنار غایة المفرطین) إشارة إلی الأفراد الذین تؤول أمورهم إلی النار بفعل تقصیرهم وعدم استغلالهم الفرص؛ حیث یقول القرآن الکریم بشأن مثل هؤلاء الأفراد: «قَالُوا یَا حَسْرَتَنَا عَلَی مَا فَرَّطْنَا فِیهَا»(2).
تاریخ البشریة سلسلة من الأحداث الجمة المتنوعة والمختلفة، ولکن ما أن نتأملها بدقة حتی نستطیع التوصل إلی خصائص تلک الأحداث المختلفة وتقولبها فی فئات معینة وعناوین خاصة، وبعض تلک الخصائص کما یلی:
1. الزوال السریع للنعم والسلطات: نعم، فالنعمة والسلطة تأتی بسرعة وتزول کذلک وتنتقل من طرف لآخر.
2. التقلب: التقلب هو احد ممیزات حوادث هذا العالم فما أن یتعلق الإنسان بشیء حتی یفقده، وما أن یذوب فی شخص حتی یفجع به.
3. غدر الدنیا: وقد ضرب المثل بهذا الشأن حتی قیل (لمن صفت الدنیا لتصفو لنا).
4. النصر والهزیمة: ما زالت ذاکرة التاریخ حافلة بالکثیر من الأفراد والطوائف
ص:114
الذین عاشوا الانتصار وغروره ولکنهم ما لبثوا أن تجرعوا غصص الذل والهوان ومرغت انوفهم بوحل الهزیمة.
5. استبدال الود بالعداء والعکس: فأقرب مقربی الإنسان الیوم قد یصبح عدوه فی الغد کما أنّ أعداء الأمس قد یصبحون أصدقاء الیوم، الأمر الذی نلاحظه بجلاء فی حیاة الساسة والحکام.
6. الترحم واللعن: الذی یبقی فعلا ویدعو إلی الذکر الحسن لدی الناس هو أعمال الخیر والبر والمروءة والاخلاص، والعکس صحیح، فلیس للظلم والطغیان سوی اللعن.
ص:115
ص:116
اعْلَمُوا، عِبَادَ اللّهِ، أَنَّ التَّقْوَی دَارُ حِصْنٍ عَزِیزٍ، وَالْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِیلٍ، لَا یَمْنَعُ أَهْلَهُ، وَلَا یُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَیْهِ. أَلَا وَبِالتَّقْوَی تُقْطَعُ حُمَةُ الْخَطَایَا، وَبِالْیَقِینِ تُدْرَکُ الْغَایَةُ الْقُصْوَی.
عِبَادَ اللّهِ، اللّهَ اللّهَ فِی أَعَزِّ الْأَنْفُسِ عَلَیْکُم، وَأَحَبِّهَا إِلَیْکُمْ: فَإِنَّ اللّهَ قَدْ أَوْضَحَ لَکُمْ سَبِیلَ الْحَقِّ وَأَنَارَ طُرُقَهُ. فَشِقْوَةٌ لَازِمَةٌ، أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ! فَتَزَوَّدُوا فِی أَیَّامِ الْفَنَاءِ لِأَیَّامِ الْبَقَاءِ. قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَی الزَّادِ، وَأُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ، وَحُثِثْتُمْ عَلَی الْمَسِیرِ؛ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ کَرَکْبٍ وُقُوفٍ، لَایَدْرُونَ مَتَی یُؤْمَرُونَ بِالسَّیْرِ. أَلَا فَمَا یَصْنَعُ بِالدُّنْیَا مَنْ خُلِقَ لِلآخِرَةِ! وَمَا یَصْنَعُ بِالْمَالِ مَنْ عَمَّا قَلِیلٍ یُسْلَبُهُ، وَتَبْقَی عَلَیْهِ تَبِعَتُهُ وَحِسَابُهُ!
عِبَادَاللّهِ، إِنَّهُ لَیْسَ لِمَا وَعَدَ اللّهُ مِنَ الْخَیْرِ مَتْرَکٌ، وَلَا فِیمَا نَهَی عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ.
عِبَادَاللّهِ، احْذَرُوا یَوْماً تُفْحَصُ فِیهِ الْأَعْمَالُ، وَیَکْثُرُ فِیهِ الزِّلْزَالُ وَتَشِیبُ فِیهِ الْأَطْفَالُ.
قال الإمام علیه السلام هنا - بعد أن خاض فی تقلب أحوال الدنیا واعد المخاطبین لاستماع المواعظ والإرشادات:
«اعْلَمُوا، عِبَادَ اللّهِ، أَنَّ التَّقْوَی دَارُ حِصْنٍ عَزِیزٍ، وَالْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِیلٍ، لَایَمْنَعُ أَهْلَهُ، وَلَا یُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَیْهِ». إشارة إلی أنّ
ص:117
التقوی ملکة باطنیة قویة تحول دون مقارفة الإنسان للذنب وهذا ما یؤدّی بدوره إلی الاحتراز من انعکاسات الذنب الخطیرة فی الدنیا والآخرة، بعکس الأفراد المجانبین للورع والتقوی والذین یصبحون عرضة لنفوذ الشیاطین وأهواء النفس وبالتالی السقوط فی مستنقع الذنب والفضیحة فی الدنیا وسوء العذاب فی الآخرة.
ثم تطرق علیه السلام إلی آثار التقوی فقال:
«أَلَا وَبِالتَّقْوَی تُقْطَعُ حُمَةُ(1) الْخَطَایَا، وَبِالْیَقِینِ تُدْرَکُ الْغَایَةُ الْقُصْوَی» فالإمام علیه السلام یشبه سطوة الذنوب بالحشرات السامة کالحیة والعقرب. نعم، فالتقوی هی التی تمنح الإنسان الحیاة، ولما کانت التقوی والیقین لازماً وملزوماً لبعضهما البعض فقد صرح الإمام علیه السلام بأنّ من ینطق بالیقین یبلغ الهدف، والتقوی تزیل عقبات الطریق ولا یفرز عدم التقوی سوی ضعف الیقین.
فهل یسع من یوقن بهذه الآیة:
«إنَّ الَّذِینَ یَأکُلُونَ أمَوالَ الیَتامی ُظلماً إِنَّما یَأَکُلُونَ فِی بُطُونِهِم ناراً»(2) أن یأکل مال الیتیم؟ وهل یسعک أن تجد شخصاً یتناول قطعة من النار ویضعها فی فمه؟! ثم قال فی اطار حثّ الآخرین علی التزود من الدنیا للآخرة:
«عِبَادَ اللّهِ، اللّهَ اللّهَ فِی أَعَزِّ الْأَنْفُسِ عَلَیْکُم، وَأَحَبِّهَا إِلَیْکُمْ». قطعاً المراد من (أعز الأنفس) فی هذه العبارة نفس الإنسان، ذلک لأنّ حب الذات مسألة طبیعیة لدی الإنسان وإن تعلق بشخص أو شیء ففی ظل غریزة حب الذات (بغض النظر عن أولئک الذین تجاوزوا ذواتهم ولم یعودوا یروا سوی اللّه وذاته المطلقة ولا یرومون سواه. علی کل حال، فالمراد: إن لم ترحموا أحدا فعلی الأقل ارحموا أنفسکم وإن غفلتم عن مصالح الآخرین فلا تغفلوا عن مصالحکم، فهذا الأمر مودع فی فطرتکم.
ثم حذر قائلاً:
«فَإِنَّ اللّهَ قَدْ أَوْضَحَ لَکُمْ سَبِیلَ الْحَقِّ وَأَنَارَ طُرُقَهُ. فَشِقْوَةٌ لَازِمَةٌ، أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ!». وخاض أخیراً فی بیان أسباب نیل السعادة الدائمة واجتناب
ص:118
الشقوة الدائمة فقال:
«فَتَزَوَّدُوا فِی أَیَّامِ الْفَنَاءِ لِأَیَّامِ الْبَقَاءِ. قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَی الزَّادِ، وَأُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ(1) ، وَحُثِثْتُمْ(2) عَلَی الْمَسِیرِ». جدیر ذکره أنّ المراد من الزاد: التقوی والعمل الصالح الذی أشار إلیه القرآن: «وتَزودَوا فإنَّ خَیرَ الزَّادِ التَّقوی»(3). والعبارة (أمرتم بالظعن...) یمکن أن تکون إشارة إلی أمر تشریعی ورد فی الآیات المرتبطة بفناء الدنیا وأنّ کل شخص سیذوق فی خاتمة المطاف طعم الموت علی ضوء الدلالة الالتزامیة، کما یمکن أن یکون إشارة إلی أمر تکوینی؛ لأنّ اللّه خلق أسباب الحرکة بحیث یسرع الطفل نحو الشباب والشباب إلی الکهولة وحث الخطی نحو دار البقاء، وقد أصدر أمره بحث الحرکة نحو أسباب العفو والمغفرة: «وَسارِعوا إِلی مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ»(4). کما ورد فی الخطبة 31 من نهج البلاغة فی وصیة الإمام علیه السلام لابنه الحسن علیه السلام
:«یابنی من کانت مطیته اللیل والنهار، فإنّه یسار به وإن کان واقفاً، ویقطع المسافة وإن کان مقیماً وادعاً».
ثم واصل کلامه بتشبیه بلیغ فقال:
«فَإِنَّمَا أَنْتُمْ کَرَکْبٍ(5) وُقُوفٍ، لَایَدْرُونَ مَتَی یُؤْمَرُونَ بِالسَّیْرِ». لعل هنالک من یتساءل کیف التوفیق بین عبارة الإمام علیه السلام وقوله (أمرتم بالظعن) التی اردفها بالعبارة (لا یدرون متی یؤمرون بالسیر)؟ وإنّ أدنی تأمل یفید أنّ العبارة الأولی إشارة إلی الحرکة فی الدنیا نحو الکمال والمسارعة فی أعداد عناصر العفو والمغفرة، أمّا العبارة الثانیة فهی تشیرالحرکة من الدنیا إلی الآخرة.
علی کل حال فقد ورد هذا التشبیه فی سائر مواضع نهج البلاغة ومنها الکلمات القصار حیث قال علیه السلام:
«أَهلُ الدُّنیا کَرَکْبٍ یُسارُ بِهِم وَهُم نِیامُ»(6) وهذا النوم هو الغفلة
ص:119
التی یعیشها أغلب الناس. ثم قال فی توضیح هذه الحقیقة:
«أَلَا فَمَا یَصْنَعُ بِالدُّنْیَا مَنْ خُلِقَ لِلآخِرَةِ! وَمَا یَصْنَعُ بِالْمَالِ مَنْ عَمَّا قَلِیلٍ یُسْلَبُهُ، وَتَبْقَی عَلَیْهِ تَبِعَتُهُ(1) وَحِسَابُهُ!». إن کانت دارنا الأصلیة هی دار الآخرة والدار الدنیا لیست سوی ممر فما معنی تعلقنا بهذه الدنیا؟ وما معنی کل هذا السعی والجهد من أجل جنی الأموال ولو عن طریق مزج الحلال بالحرام وهی لیست سوی ودیعة لدینا وإنّ یوماً سنفارقها ونحاسب علیها؟
ثم استعان الإمام علیه السلام فی اطار حثه الآخرین علی الخیر والإحسان واجتناب الشر والسوء بمنطقین مؤثرین؛ الأول الذی قال فیه:
«عِبَادَ اللّهِ، إِنَّهُ لَیْسَ لِمَا وَعَدَ اللّهُ مِنَ الْخَیْرِ مَتْرَکٌ، وَلَا فِیمَا نَهَی عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ». إشارة إلی أنّ من أمر ونهی ووعد بالثواب وتوعد بالعقاب لیس فرداً عادیاً یمکن الریبة فی کلامه.
والثانی الذی قال فیه:
«عِبَادَ اللّهِ، احْذَرُوا یَوْماً تُفْحَصُ فِیهِ الْأَعْمَالُ، وَیَکْثُرُ فِیهِ الزِّلْزَالُ وَتَشِیبُ(2) فِیهِ الْأَطْفَالُ». ففی ذلک الیوم ستخضع جمیع الأعمال مهما کانت صغیرة لدراسة دقیقة، کما قال القرآن الکریم: «یَا بُنَیَّ إِنَّهَا إِنْ تَکُنْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَکُنْ فِی صَخْرَةٍ أَوْ فِی السَّمَوَاتِ أَوْ فِی الْأَرْضِ یَأْتِ بِهَا اللّهُ إِنَّ اللّهَ لَطِیفٌ خَبِیرٌ»(3) ، والمراد من کثرة الزلازل فی ذلک الیوم زلزلة الافکار وارتعاد القلوب من هول المحشر وخوف نتیجة الأعمال. صحیح أنّ نهایة العالم ستشهد زلزلة بمعناها الحقیقی والتی تقلب کل شیء رأساً علی عقب، وما ورد فی العبارة إشارة إلی الزلزلة الفکریة والاضطراب الذی یعانیه الإنسان فی ساحة الحشر. والعبارة
ص:120
«تشیب فیه الأطفال» کنایة عن عمق وشدة ذلک المشهد وهو التعبیر السائد لدینا فی المکالمات الیومیة حین نقول: إنّ تلک الحادثة مثلاً تشیب الإنسان، کما ورد فی القرآن الکریم: «فَکَیْفَ تَتَّقُونَ إِنْ کَفَرْتُمْ یَوْماً یَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِیباً»(1) نعم، ذهب البعض إلی أنّ شیب الأطفال هنالک بالمعنی الحقیقی لا الکنائی، إلّاأنّ هذا الاحتمال بعید، فلیس هنالک مایشیر إلی أنّ الطفل الذی یتلقی العذاب یشیب بفعل هول العذاب.
ص:121
ص:122
اعْلَمُوا، عِبَادَ اللّهِ، أَنَّ عَلَیْکُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِکُمْ، وَعُیُوناً مِنْ جَوَارِحِکُمْ، وَحُفَّاظَ صِدْقٍ یَحْفَظُونَ أَعْمَالَکُمْ، وَعَدَدَ أَنْفَاسِکُمْ، لَاتَسْتُرُکُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَیْلٍ دَاجٍ، وَلَا یُکِنُّکُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُورِتَاجٍ وَإِنَّ غَداً مِنَ الْیَوْمِ قَرِیبٌ.
یَذْهَبُ الْیَوْمُ بِمَا فِیهِ، وَیَجِیءُ الْغَدُ لَاحِقاً بِهِ، فَکَأَنَّ کُلَّ امْرِیءٍ مِنْکُمْ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْأَرْضِ مَنْزِلَ وَحْدَتِهِ، وَمَخَطَّ حُفْرَتِهِ. فَیَا لَهُ مِنْ بَیْتِ وَحْدَةٍ، وَمَنْزِلِ وَحْشَةٍ، وَمُفْرَدِ غُرْبَةٍ! وَکَأَنَّ الصَّیْحَةَ قَدْ أَتَتْکُمْ، وَالسَّاعَةَ قَدْ غَشِیَتْکُمْ، وَبَرَزْتُمْ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، قَدْ زَاحَتْ عَنْکُمُ الْأَبَاطِیلُ، وَاضْمَحَلَّتْ عَنْکُمُ الْعِلَلُ، وَاسْتَحَقَّتْ بِکُمُ الْحَقَایِقُ، وَصَدَرَتْ بِکُمُ الْأُمُورُ مَصَادِرَهَا، فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ، وَاعْتَبِرُوا بِالْغِیَرِ، وَانْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ.
أشار الإمام علیه السلام اتماماً لمواعظه السابقة إلی ثلاثة أمور مهمة؛ الأول، بشأن حفظة الأعمال، والثانی، الموت والقبر، والثالث، الحساب یوم القیامة والتی من شأنها تنبیه الغافل ویقظته من سبات الغفلة، فقال فی الأمر الأول:
«اعْلَمُوا، عِبَادَ اللّهِ، أَنَّ عَلَیْکُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِکُمْ، وَعُیُوناً مِنْ جَوَارِحِکُمْ، وَحُفَّاظَ صِدْقٍ یَحْفَظُونَ أَعْمَالَکُمْ، وَعَدَدَ أَنْفَاسِکُمْ».
ثم وضح طبیعة هؤلاء المراقبین فقال:
«لَا تَسْتُرُکُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَیْلٍ دَاجٍ(1) ، وَلَا
ص:123
یُکِنُّکُمْ(1) مِنْهُمْ بَابٌ ذُورِتَاجٍ(2)». العبارة
«أَنَّ عَلَیْکُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِکُم» إشارة إلی شهادة أعضاء بدن الإنسان وجوارحه وجلده یوم القیامة، کما عبّر عن ذلک القرآن الکریم: «یَوْمَ تَشْهَدُ عَلَیْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَیْدِیهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا کَانُوا یَعْمَلُونَ»(3) ثم قال:
«شَهِدَ عَلَیْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا کَانُوا یَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُّمْ عَلَیْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللّهُ الَّذِی أَنطَقَ کُلَّ شَیْءٍ»(4). بالنظر أنّ معنی «الرصد» الرقیب، و «عیون» بمعنی الاطلاع فإنّ المفردتین من قبیل الإجمال والتفصیل؛ أی أنّ مراقبی أعمال الإنسان فی الدرجة الأولی أعضاؤه وجوارحه التی تنطق یوم القیامة وتشهد علی جمیع أعماله. أمّا ما ذهب إلیه بعض شرّاح نهج البلاغة من أنّ «الرصد» یعنی وجدان الإنسان الذی یلومه علی الأعمال السیئة، فلیس بصحیح؛ لأنّ الوجدان قاضی الباطن لا المراقب والشاهد الکامن فی مفهوم الرصد. وهل هذه الشهادة بلسان القال والنطق المتعارف أم بلسان الحال وشهادة الآثار؟ الاحتمالان واردان؛ لأنّ أی عمل یقوم به الإنسان تنعکس آثاره علی جمیع أعضائه وستظهر هذه الآثار یوم القیامة لتفصح عن جمیع أعماله التی أتی بها طیلة عمره، کما یمکن تبدیلها إلی أمواج صوتیة یسمعها الجمیع. والعبارة
«وَحُفَّاظَ صِدْقٍ» إشارة إلی الملائکة الموکلة بضبط أعمال الإنسان، کما ورد فی القرآن الکریم: «وَإِنَّ عَلَیْکُمْ لَحَافِظِینَ * کِرَاماً کَاتِبِینَ * یَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ»(5) وهنا یرد هذا السؤال المعروف: ما حاجة اللّه إلی هؤلاء الملائکة رغم علمه الذی أحاط بکل شیء وأنّه أقرب إلینا من حبل الورید؟ وتتضح الاجابة عن هذا السؤال من خلال الالتفات إلی هذه النقطة
ص:124
وهی أنّ الإنسان کائن مادی ولیس له من معرفة عمیقة بعالم ماوراء المادة ولا یشعر بقرب اللّه منه؛ إلّاأنّه یدرک هذا المطلب تماماً حین یقال له إنّ أعضاء بدنک ستشهد علیک یوم القیامة، کما یعیر هذا الموضوع أهمیّة کبری إن قیل له: علیک ملکان یکتبان کل أعمالک، وهذا بدوره یمثل عنصراً مهمّاً فی ردعه عن ارتکاب الذنوب والمعاصی. فاللّه سبحانه وتعالی أراد بکل وسیلة أن یصد عباده عن الذنوب، وشهادة الأعضاء والملائکة واحدة من هذه الوسائل.
الغریب فی الأمر أنّ هؤلاء الحفظة یحصون علی الإنسان حتی عدد أنفاسه ولا یحتاجون فی کتابتهم لأعمالنا لأدنی سراج ومصباح، فهم یکتبون حتی فی عتمة الظلمة المطلقة، ولکن ما کیفیة هذه الکتابة؟ قطعاً لیس ذلک من قبیل کتابتنا وإن لم نحط علما بتفاصیل ذلک.
ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه عن الموت والقبر الذی یهزّ الغافل بعنف فقال:
«وَإِنَّ غَداً مِنَ الْیَوْمِ قَرِیبٌ. یَذْهَبُ الْیَوْمُ بِمَا فِیهِ، وَیَجِیءُ الْغَدُ لَاحِقاً بِهِ». المراد من
«الغد» قرب نهایة العمر والموت الذی إن غفل عنه الإنسان یهوی فی مستنقع الغفلة فإن رآه قریباً راقب أعماله وقام بوظیفته وتاب من ذنوبه. حقاً أنّ نهایة العمر لیست بعیدة مهما عمّر الإنسان، ذلک أنّ الأشهر والسنین تمرّ بسرعة إلی جانب الحوادث غیر المتوقعة والأمراض التی تهجم علی الإنسان فجأة وتقضی علیه. وذهب بعض الشرّاح لنهج البلاغة إلی أنّ المراد ب
«الغد» فی العبارة المذکورة غد القیامة، وهذا المعنی وإن کان قریباً إلّاأنّ المعنی الأول وبالاستناد إلی العبارات القادمة التی تحدثت عن القبر أنسب.
ثم ذکّر الجمیع بوحشة القبر فقال:
«فَکَأَنَّ کُلَّ امْرِیءٍ مِنْکُمْ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْأَرْضِ مَنْزِلَ وَحْدَتِهِ، وَمَخَطَّ(1) حُفْرَتِهِ. فَیَا لَهُ مِنْ بَیْتِ وَحْدَةٍ، وَمَنْزِلِ وَحْشَةٍ، وَمُفْرَدِ غُرْبَةٍ!».
ص:125
أجل، فالإنسان الذی لا یتحمل الوحدة لساعة ویعیش دائماً بین صحبه وقرابته وأهله، لا یکاد یغمض عینیه عن هذه الدنیا حتی یفارق الجمیع وإلی الأبد فینزل حفرة مظلمة ومرعبة فی وحدة وغربة مطلقة، فیالها من غربة ألیمة صعبة، اللّهم إلّا أن یظفر بأصحاب جدد من أعماله الصالحة فتجعل الملائکة قبره روضة من ریاض الجنّة، لا حفرة من حفر النار.
قال الإمام الصادق علیه السلام
«إنَّ لِلقَبْرِ کَلاماً فِی کُلِّ یَومٍ یَقُولُ: أَنا بَیْتُ الغُربَةِ، أَنْا بَیْتُ الوَحشَةِ، أَنا بَیْتُ الدُّودَ، أَنا القَبْرِ، أَنا رَوضَةٌ مِنْ رِیاضِ الجَنَّةِ أَو حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ»(1).
وأخیراً ما أن یفرغ الإمام علیه السلام من بیان الموت والقبر حتی یتجه صوب القیامة ومحکمة العدل الإلهی لیحذر الجمیع قائلاً:
«وَکَأَنَّ الصَّیْحَةَ قَدْ أَتَتْکُمْ، وَالسَّاعَةَ قَدْ غَشِیَتْکُمْ، وَبَرَزْتُمْ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، قَدْ زَاحَتْ عَنْکُمُ الْأَبَاطِیلُ، وَاضْمَحَلَّتْ عَنْکُمُ الْعِلَلُ، وَاسْتَحَقَّتْ بِکُمُ الْحَقَایِقُ، وَصَدَرَتْ بِکُمُ الْأُمُورُ مَصَادِرَهَا».
«وَکَأَنَّ الصَّیْحَةَ»، فی العبارة، إشارة إلی صیحة القیامة التی توقظ جمیع الموتی وتنشرهم من قبورهم وتدفعهم إلی الحساب. یستفاد من الآیات والروایات أنّ العالم ینتهی بصیحة عظیمة یقال لها نفخة الصور الأُولی، ثم تتبعها صیحة عظیمة أخری تدعی نفخة الصور الثانیة، وما ورد فی الخطبة بقرینة ما بعدها من عبارات، إشارة إلی النفخة الثانیة. والتعبیر بالساعة، إشارة إلی القیامة، لأنّ الساعة تعنی فی الأصل، برهة من الزمان أو لحظة عابرة، ولما کان قیام الساعة سریعاً والحساب أیضاً سریعاً لاستناده للّه سریع الحساب فقد عبّر عن القیامة بالساعة.
«لِفَصْلِ الْقَضَاءِ»، القضاء الذی یفصل الحق من الباطل وزوال الأباطیل واضمحلال العلل، إشارة إلی خلو القیامة من الکذب والاعذار الواهیة والحجج الجوفاء وکل ما هنالک هو الحق والحقیقة. والعبارة
«وَصَدَرَتْ بِکُمُ الْأُمُورُ
ص:126
مَصَادِرَهَا»، إشارة إلی أنّ کل شخص یری نتیجة عمله وکل یحل فی مکانه الأصلی هنالک. والإمام علیه السلام یری القیامة قریبة إلی الحد الذی جعله یقول بأنّ کل شیء کأنّه قد وقع ونفخ فی الصور وقامت القیامة وخرج الموتی للحشر من قبورهم ونصبت موازین العدل وحصلت نتیجة الأعمال، وکل ذلک یشیر إلی مدی قصر عمر الدنیا بالنسبة للآخرة.
وقد عبّر القرآن الکریم عن القیامة فقال:
«یَوْمَ یَسْمَعُونَ الصَّیْحَةَ بِالحَقِّ ذَلِکَ یَوْمُ الخُرُوجِ»(1) کما عبّر عنها بیوم الفصل الذی یفصل الحق عن الباطل وعبّر عنها بسرعة الحساب، وقال فی موضع أخر:
«وَلا یُؤذَنُ لَهُمْ فَیَعْتَذِرُونَ»(2) و
«یَوْمَ هُمْ بارِزُونَ»(3) و
«یَوْمُ تُبلَی السَّرائِرُ»(4).
واختتمها بالقول:
«فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ، وَاعْتَبِرُوا بِالْغِیَرِ، وَانْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ». و
«عبر» جمع عبرة، إشارة إلی الحوادث الجدیرة بالاعتبار والتی عادة ما یحفل بها تاریخ الإنسان وسیشهدها فی حیاته، و
«غِیَر» جمع غیرة بمعنی التغییر، إشارة تغییر النعم ونزول البلاء وتقلب الدهر، و
«نذر» جمع نذیر، والتی تشمل الأنبیاء والأوصیاء والآیات والروایات وحوادث الدهر.
رغم أنّ اللّه شاهد وناظر لأعمالنا فی کل حال وزمان ومکان وعلمه الذی أحاط بکل شیء الکافی فی عدم شرود أدنی صغیرة وکبیرة، إلّاأنّه وللمبالغة فی الحجة ولفت أنظار المحسنین والمسیئین إلی مراقبة أعمالهم، فقد وکل بنا إضافة لذلک،
ص:127
العدید من الشهود ومنها:
1. أعضاء البدن وجوارحه حتی الجلود علی ضوء ما ورد فی الآیات. والغریب فی الأمر اتضاح هذه الحقیقة بعد طرح قضیة الإنسان الشبه من أنّ کل ذرة من ذرات بدن الإنسان استبطنت إنساناً کاملاً، والأغرب، الاستفادة من جلد الإنسان فی هذا الموضوع.
2.
«الحَفظة» و
«الکتّاب» أی الملائکة الموکلة بثبت الأعمال.
3. الأرض التی نعیش علیها هی الشاهد الآخر، جاء فی القرآن: «یَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّکَ أَوْحَی لَهَا»(1).
4. الزمان الذی نعیش فیه من الشهود علینا یوم القیامة کما قال أمیر المؤمنین علیه السلام:
«مَا مِنْ یَوْمٍ یَمُرُّ عَلی ابْنِ آدَمَ إِلَّا قَالَ لَهُ ذَلِکَ الیَوْمُ: یابْنَ آدَمَ أَنا یَوْمٌ جَدِیدٌ وَأَنا عَلَیکَ شَهِیدٌ فَقُلْ فِیَّ خَیرَاً وَاعْمَلْ فِیَّ خَیْرَاً أَشْهَدُ لَکَ بِهِ یَوْمَ القِیامَةِ»(2).
5. شهادة الأنبیاء أعظم من کل ذلک، لنص القرآن الکریم فی شهادة کل نبیٍّ علی أعمال أمّته یوم القیامة وشهادة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله علی الجمیع: «فَکَیْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ کُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِیدٍ وَجِئْنَا بِکَ عَلَی هَؤُلَاءِ شَهِیداً»(3) هکذا یخضع الإنسان طیلة عمره لهؤلاء الشهود ومن الجهات الست، وحق لمن آمن بحقیقة هؤلاء الشهود أن یراقب أعماله ویتحفظ عن الأخطاء.
العبارة
«فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ، وَاعْتَبِرُوا بِالْغِیَرِ، وَانْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ»، تنطوی علی ثلاثة مفاهیم تکفی لایقاظ الإنسان من نوم الغفلة حیث تشیر کل واحدة إلی حقیقة
ص:128
مستقلة. فالعبارة الأُولی تری کفایة العبر فی الموعظة، وتشمل هذه المفردة کافة الحوادث الخطیرة فی الماضی والحاضر، بل حتی الحوادث الطبیعیة. من قبیل الذهاب والإیاب واللیل والنهار یمکنها أن تکون عبرة لمن اعتبر: «یُقَلِّبُ اللّهُ اللَّیْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِی ذَلِکَ لَعِبْرَةً لاُِّوْلِی الْأَبْصَارِ»(1). والعبارة الثانیة تشیر إلی الوعظ فی التغییرات التی تطال حیاة الإنسان والعالم. فأعزّة الأمس أذلّة الیوم، وأذلّة الأمس أعزّة الیوم، ما أسرع ما یحکم الحاکم ویعتلی المحکوم سدة الحکم، والشباب آیل الکهولة والعجز، والطفل الضعیف سرعان ما یشب ویهرم، ما کان غضاً بالأمس أصبح الیوم تحت التراب فی المقابر المهجورة، وهذا الضجیج المرتفع الیوم سیخمد بعد سنوات، یالها من دروس وعبر؟! العبارة الثالثة أنّ السن الأنبیاء والأوصیاء والأولیاء والعلماء والآیات کلها مشرعة بالتحذیر وهی تنادی الحذر الحذر والعمل العمل.
ص:129
ص:130
یُنَبِّهُ فِیها علی فَضْلِ الرَّسُولِ الأعْظَمِ صلی الله علیه و آله وَفَضْلِ القُرْآنِ، ثُمّ حَالِ دَوْلَةِ بَنی أُمَیَّةَ(1)
تتکون هذه الخطبة من قسمین: یؤکد الإمام علیه السلام فی القسم الأول علی رسم صورة عن عصر البعثة وأهمیّة القرآن وعظمته وأنّه الدواء لکل داء والعلم المتعلق بالماضی والحاضر والمستقبل. أمّا فی القسم الثانی فیشیر إلی فتنة بنی أمیّة ومدی ظلمهم وطغیانهم وسعة حجمه، إلّاأنّه یواصل کلامه بأنّ هذه الحکومة لن تدوم طویلاً وستولّی إلی غیر رجعة.
ص:131
ص:132
أَرْسَلَهُ عَلَی حِینِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ، وَانْتِقَاضٍ مِنَ الْمُبْرَمِ؛ فَجَاءَهُمْ بِتَصْدِیقِ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ، وَالنُّورِ الْمُقْتَدَی بِهِ. ذلِکَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ یَنْطِقَ، وَلَکِنْ أُخْبِرُکُمْ عَنْهُ: أَلَا إِنَّ فِیهِ عِلْمَ مَا یَأْتِی، وَالْحَدِیثَ عَنِ الْمَاضِی، وَدَوَاءَ دَائِکُمْ، وَنَظْمَ مَا بَیْنَکُمْ.
أشار الإمام علیه السلام فی مطلع الخطبة إلی الوضع علی عهد الجاهلیة والذی تزامن مع بعثة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فقال:
«أَرْسَلَهُ عَلَی حِینِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَطُولِ هَجْعَةٍ(1) مِنَ الْأُمَمِ، وَانْتِقَاضٍ مِنَ الْمُبْرَمِ(2)». ومضمون هذه العبارات من قبیل العلة والمعلول.
فالفترة التی توسطت عصر ظهور الأنبیاء السابقین وخاتمهم کان سبب نوم الغفلة الذی غطت فیه الأُمم وهذه الغفلة أدّت إلی ذلک الانتقاض المبرم، بمعنی تقطع وشائج الحقائق ونظام الحیاة البشریة التی وقعت فی وحل المعصیة والظلمة. ثم تطرق علیه السلام إلی بعثة النبی الخاتم والکتاب الذی جاء به مصدقاً لما بین یدیه من الکتب السماویة:
«فَجَاءَهُمْ بِتَصْدِیقِ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ، وَالنُّورِ الْمُقْتَدَی بِهِ». فقد قام النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بمهمتین؛ إنّه بیّن للناس المعارف والأحکام التی تنسجم مع الأصول الکلیة لمعارف وأحکام من مضی من الأنبیاء، والأخری حمله لمشعل الهدایة الذی
ص:133
أضاء ظلمات الجهل والضلال. ثم خاض علیه السلام فی بیان هذا النور المتمثل بالقرآن:
«ذلِکَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ یَنْطِقَ، وَلَکِنْ أُخْبِرُکُمْ عَنْهُ». لقد شبهت أغلب الآیات القرآن بالنور، ومنها ما ورد فی سورة المائدة: «قَدْ جَاءَکُمْ مِنْ اللّهِ نُورٌ وَکِتَابٌ مُبِینٌ»(1) ، وسورة الاعراف: «فَالَّذِینَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِی أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِکَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ»(2) ، وکما یضیئ النور أجواء الحیاة ویحول دون تعثر الإنسان فی الظلمة والضلال وینمی النباتات ویرعی جمیع الکائنات الحیة، فللقرآن مثل هذه المهام فی حیاة الإنسان المادیة والمعنویة.
المراد من
«بِتَصْدِیقِ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ» وبالنظر إلی أن بین یدیه تعنی هنا ما قبل لیس تصدیق التوراة والانجیل الذین طالهما التحریف، بل هی إشارة إلی تلک الکتب السماویة التی نزلت علی موسی وعیسی علیهما السلام کما لا یعنی هذا التصدیق أنّ الإسلام یتفق مع هاتین الدیانتین فی جمیع التفاصیل، بل المراد الأصول الکلیة التی تشکل المحور المشترک لکافة الأدیان السماویة، وإن طبقها الإسلام علی مستوی أرفع وأوسع.
والعبارة
«وَلَنْ یَنْطِقَ» لا تعنی أنّ القرآن لا ینفتح علی أی شخص (سوی الأئمّة المعصومین علیهم السلام)، وذلک لأنّ القرآن نزل بلسان عربی مبین ومنطق واضح جلی وقد أمر الجمیع بالتدبر فیه والاصغاء إلی مواعظه لیعیشوا الرجاء من خلال آیات البشارة والخوف من خلال آیات الوعید والانذار. وعلیه فالمراد من
«وَلَنْ یَنْطِقَ» فیما یتعلق ببطون القرآن والأسرار الکامنة فیها، فهذه البطون من اختصاص النبی الأکرم صلی الله علیه و آله والائمّة المعصومین علیهم السلام.
ومن هنا قال:
«أَلَا إِنَّ فِیهِ عِلْمَ مَا یَأْتِی، وَالْحَدِیثَ عَنِ الْمَاضِی، وَدَوَاءَ دَائِکُمْ، وَنَظْمَ مَا بَیْنَکُمْ». فالعبارة
«عِلْمَ مَا یَأْتِی» کما أوردها بعض شرّاح نهج البلاغة
ص:134
إشارة إلی المسائل المرتبطة بالآخرة من قبیل الحساب والکتاب والصراط والجنّة والنار، ولکن یبدو أنّها إشارة إلی الحوادث المستقبلیة لهذا العالم والکامنة فی بطون هذا القرآن والتی یعلم بها المعصومین علیهم السلام بقرینة العبارة القادمة
«وَالْحَدِیثَ عَنِ الْمَاضِی»، التی تشیر إلی الأمم السابقة وشرح سیرتها، کما قیل: هی إشارة إلی بدایة الخلیقة والعصور الأولی لخلق هذا العالم. والعبارة
«وَدَوَاءَ دَائِکُمْ» إشارة إلی التعالیم والمفاهیم التی تعالج کافة أنواع الأمراض الأخلاقیة والاجتماعیة «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِینَ»(1).
والعبارة الأخیرة:
«وَنَظْمَ مَا بَیْنَکُمْ»، إشارة إلی جمیع القوانین التی تنظم شؤون المجتمع البشری وتزیل العوائق وتنشر الأمن والاستقرار وبسط العدل والقسط فی ربوع البلاد.
ص:135
ص:136
ومنها: فَعِنْدَ ذلِکَ لَایَبْقَی بَیْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا وَأَدْخَلَهُ الظَّلَمَةُ تَرْحَةً، وَأَوْلَجُوا فِیهِ نِقْمَةً. فَیَوْمَئِذٍ لَایَبْقَی لَهُمْ فِی السَّمَاءِ عَاذِرٌ، وَلَا فِی الْأَرْضِ نَاصِرٌ. أَصْفَیْتُمْ بِالْأَمْرِ غَیْرَ أَهْلِهِ، وَأَوْرَدْتُمُوهُ غَیْرَ مَوْرِدِهِ، وَسَیَنْتَقِمُ اللّهُ مِمَّنْ ظَلَمَ، مَأْکَلاً بِمَأْکَلٍ، وَمَشْرَباً بِمَشْرَبٍ، مِنْ مَطَاعِمِ الْعَلْقَمِ، وَمَشَارِبِ الصَّبِرِ وَالْمَقِرِ، وَلِبَاسِ شِعَارِ الْخَوْف، وَدِثَارِ السَّیْفِ. وَإِنَّمَا هُمْ مَطَایَا الْخَطِیئَاتِ وَزَوَامِلُ الْآثَامِ. فَأُقْسِمُ، ثُمَّ أُقْسِمُ، لَتَنْخَمَنَّهَا أُمَیَّةُ مِنْ بَعْدِی کَمَا تُلْفَظُ النُّخَامَةُ، ثُمَّ لَاتَذُوقُهَا وَلَا تَطْعَمُ بِطَعْمِهَا أَبَداً مَا کَرَّ الْجَدِیدَانِ!
أشار الإمام علیه السلام هنا إلی فتنة بنی أمیة الشاملة والتی تلقی بظلامها علی جمیع المسلمین دون أن تغادر مسلماً إلّاوجرعته غصص ظلمها وطغیانها، إلی جانب تعذر الفرار من تلک الفتنة، وهی لیست سوی نتیجة طبیعیة لأعمال الناس، فقال:
«فَعِنْدَ ذلِکَ لَایَبْقَی بَیْتُ مَدَرٍ(1) وَلَا وَبَرٍ(2) إِلَّا وَأَدْخَلَهُ الظَّلَمَةُ تَرْحَةً(3) ، وَأَوْلَجُوا فِیهِ نِقْمَةً» یمکن أن یرد الهم والغم بیتاً دون أن یرده الظلم، أمّا ظلم بنی أمیة فقد بلغ درجة بحیث عمّ الهم والغم کل مکان، إلی جانب البلاء والمصائب، وذلک لأنّ ولاة
ص:137
بنی أمیة کانوا جمیعاً من بطانتهم الذین سادتهم روح الظلم والانتقام بغیة الاحتفاظ بسلطتهم لأقصی مدّة ممکنة.
ثم قال علیه السلام:
«فَیَوْمَئِذٍ لَایَبْقَی لَهُمْ فِی السَّمَاءِ عَاذِرٌ، وَلَا فِی الْأَرْضِ نَاصِرٌ.
أَصْفَیْتُمْ بِالْأَمْرِ غَیْرَ أَهْلِهِ، وَأَوْرَدْتُمُوهُ غَیْرَ مَوْرِدِهِ» ونفهم من هذه العبارة أنّها تخاطب أولئک الذین صمتوا إزاء الظلم والطغیان بعد أن قصروا فی أداء مسؤولیاتهم، والدلیل علی ذلک العبارة
«أَصْفَیْتُمْ بِالْأَمْرِ غَیْرَ أَهْلِهِ، وَأَوْرَدْتُمُوهُ غَیْرَ مَوْرِدِهِ»؟ وجاء مثل هذا المعنی فی الخطبة 192 التی قال فیها:
«وَإِنَّکُم إنْ لَجَأتُمْ إِلی غَیرِهِ حارَبَکُم أَهْلُ الکُفْرِ ثُمَّ لَاجِبرَائِیلُ وَلَا مِیکَائِیلُ وَلَا مُهاجِرُونَ وَلَا أَنصارٌ یَنْصُرُونَکُم» ولیس من الصواب ما ذهب إلیه بعض شرّاح نهج البلاغة من أنّ المخاطب بالعبارة المذکورة هم الحکام الظلمة والذی یتابع فیه کل صغیرة وکبیرة من أعمالهم السیئة:
«وَسَیَنْتَقِمُ اللّهُ مِمَّنْ ظَلَمَ، مَأْکَلاً بِمَأْکَلٍ، وَمَشْرَباً بِمَشْرَبٍ، مِنْ مَطَاعِمِ الْعَلْقَمِ(1) ، وَمَشَارِبِ الصَّبِرِ(2) وَالْمَقِرِ(3) ، وَلِبَاسِ شِعَارِ الْخَوْف، وَدِثَارِ السَّیْفِ.
وَإِنَّمَا هُمْ مَطَایَا(4) الْخَطِیئَاتِ وَزَوَامِلُ(5) الْآثَامِ». إشارة إلی أنّ اللّه سیجرعهم کل بلاء یصبوه علی الناس وسیذیقهم مرارة الذلة إزاء کل لذة حصلوا علیها من مناصبهم، وقد شهروا سیوفهم علی رقاب الناس، وسیسلط اللّه علیهم من یضع السیف فی أعناقهم. وقد ثبت وقوع کل هذه الأحداث کما أخبر عنها الإمام علیه السلام وقد انتقم اللّه من بنی أمیة شر انتقام بحیث دبّ الرعب والهلع فی صفوف من تبقی منهم حتی فروا إلی المناطق النائیة ولم یخلفوا لأنفسهم سوی الفضیحة والعار واللعنة الأبدیة.
والعبارة:
وَإِنَّمَا هُمْ مَطَایَا الْخَطِیئَاتِ» تشبیه لطیف ورائع. فقد شبههم بالحیوانات
ص:138
حیث باءوا بخطایا الناس إثر جهلهم وافتقارهم للعقل والشعور، علی غرار ما وصف به القرآن الکریم تلک الطائفة من الکفار: «وَلَیَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَیُسْأَلُنَّ یَوْمَ الْقِیَامَةِ عَمَّا کَانُوا یَفْتَرُونَ»(1).
ثم اختتم الخطبة بنبوءة حاسمة أخری بشأن مصیر بنی أمیة فقال:
«فَأُقْسِمُ، ثُمَّ أُقْسِمُ، لَتَنْخَمَنَّهَا(2) أُمَیَّةُ مِنْ بَعْدِی کَمَا تُلْفَظُ النُّخَامَةُ، ثُمَّ لَاتَذُوقُهَا وَلَا تَطْعَمُ بِطَعْمِهَا أَبَداً مَا کَرَّ الْجَدِیدَانِ!». فقد أورد الإمام علیه السلام عبارة عجیبة بشأن دولة بنی أمیة علی أنّهم شابوا الحکومة الإسلامیة بالارجاس والأدناس والقذارة والظلم والفساد فأصبحت کالمواد المخاطیة التی یدفعها الصدر والرأس، بحیث سینتهی الأمر إلی ما لا یطیقونه أنفسهم علی غرار ذلک الذی یهم بطرح تلک المواد، فسیفقدون تلک السلطة ولا یظفرون سوی بلعنات الناس.
أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی مسألتین مهمتین تتعلقان بحوادث التاریخ المریرة؛ الأُولی، وظیفة ومسؤولیة الحاکم، والأخری، مسؤولیة الرعیة.
فالإمام علیه السلام لا یقتصر بإلقاء المسؤولیة علی الحاکم فی ممارساته الظالمة، بل یحمل الأُمّة المستسلمة والراضیة بهذا الظلم جزءاً من تلک المسؤولیة. فالحکّام ومرتزقتهم إنّما یمثلون فئة معینة، ولو مارست الأُمّة وظیفتها فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وعدم الرضا والسکوت إزاء الظلم لما سهل علی مثل هؤلاء الأفراد الأخذ بزمام الأمور لیعیشوا فی الأرض الفساد ویهلکوا البلاد والعباد.
فالإمام علیه السلام یحمل الأُمّة وأعمالها ماصب علیها من البلاء علی أیدی حکومة بنی
ص:139
أمیة الظالمة، فأنتم الذین أسهمتم فی توطید دعائم هذه الحکومة، وأنتم الذین سلمتم مقالید الدولة لغیر أصحابها، وأنتم الذین تصمتون الیوم إزاء هذه الجرائم، ولعل هذا من الألطاف الإلهیة بغیة العودة إلی أنفسکم وسلوک طریق الحق «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِی الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا کَسَبَتْ أَیْدِی النَّاسِ لِیُذِیقَهُمْ بَعْضَ الَّذِی عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ»(1). طبعاً تحمیل الأُمّة مسؤولیة تجاوز الحکّام الظلمة لا یعنی سلب تلک المسؤولیة عن أولئک الحکّام، ومن هنا تطرق الإمام علیه السلام العذاب الشدید الذی ینتظرهم، فبیّن بعبارات قصیرة عمیقة المعنی مصیرهم الأسود ونهایتهم الألیمة.
نعلم أنّ دولة بنی أمیة استغرقت أکثر من ثمانین سنة لتحکم من قبل 14 حاکماً من حکّام بنی أمیة وقد حکم البعض منهم لأقل من شهرین، إلّاأنّ التاریخ لم یشهد مثیلاً لظلمهم الذی طال الناس عامة ولا سیّما أهل بیت النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وبنی هاشم. وبالطبع فإنّ بنی أمیة لم یشهدوا الأمان والراحة طیلة مدّة حکمهم حیث کانت تتوالی علیهم الثورات والنهضات، فکانوا یقمعونها بقوّة الحدید والنار وسفک المزید من الدماء، حتی قامت علیهم الأُمّة بأسرها دفاعاً عن آل محمد إثر الشعار الذی رفع آنذاک
«الرضا لآل محمد»(2) والذی لم تکن نتیجته سوی مجی بنی العباس. أصدر الخلیفة العباسی أوامره بقتل جمیع بنی أمیة فوقع فیهم القتل بما لا یحصی، حتی نبشوا القبور وأحرقوا من کان فیها منهم (من أراد المزید فلیراجع آخر الخطبة 106 الجزء الرابع والخطبة 93 الجزء الأول والجزء الثالث). وذکر المرحوم العلّامة التستری فی الجزء السادس من شرحه لنهج البلاغة أنّه حین قتل مروان
ص:140
آخر خلفاء بنی أمیة مروان، هجم عامر بن إسماعیل علی داره وکان فیها ونسائه.
فغلقوا الأبواب وتعالت الصرخات. فأمسک عامر برجلً وسأله عن عائلة مروان.
قال أمرنی مروان إن قتلت فاقتل جمیع بناتی (حتی لا یقعن فی أیدی الآخرین) لکنی لم أفعل. وهنا احضروا له اثنتین من بناته، فأمر بوضع رأس مروان فی حجر بنته البکر وقال لها: معذرة، هذا ما فعلتموه برأس یحیی بن زید حین وضعتم رأسه فی حجر أمّه، وکنتم أول من فعل ذلک والبادیء أظلم، ثم أمر بقتلهم جمیعاً(1).
ص:141
ص:142
یُبَیِّنُ فِیها حُسْنَ مُعَامَلَتِه لِرَعِیَّتِه(1)
أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة إلی قضیة لطیفة فی أنّه عاملهم قدر المستطاع بالرفق والاحسان علی ما بدر منهم من حسن التصرف والسلوک رغم قلته وکثرة إساءة التصرف فعفی عن کثیر ظلمهم وما یکنون من العداء والبغضاء.
ص:143
ص:144
وَلَقَدْ أَحْسَنْتُ جِوَارَکُمْ، وَأَحَطْتُ بِجُهْدِی مِنْ وَرَائِکُمْ. وَأَعْتَقْتُکُمْ مِنْ رِبَقِ الذُّلِّ، وَحَلَقِ الضَّیْمِ، شُکْراً مِنِّی لِلْبِرِّ الْقَلِیلِ وَإِطْرَاقاً عَمَّا أَدْرَکَهُ الْبَصَرُ، وَشَهِدَهُ الْبَدَنُ، مِنَ الْمُنْکَرِ الْکَثِیرِ.
أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة القصیرة إلی أیادیه الکریمة وخدماته للمسلمین والتابعین لحکومته وأوجزها فی أربع عبارات فقال:
«وَلَقَدْ أَحْسَنْتُ جِوَارَکُمْ» المراد من حسن الجوار أن یعتمد الإنسان حالة التعایش السلمی المقرون بالأدب والاحترام وحسن التصرف تجاه الوسط الآخر من الأصدقاء وتحمل مساوئهم بحیث بشعرون بالارتیاح لتواجده بینهم. وسیرة الإمام علیه السلام لاسیّما إبان عهد حکومته تفید أنّه کان یعامل الآخرین بالعطف والمحبة، حتی کان یتفقد الیتامی والأرامل لیلاً ویحمل لهم الطعام ویلبی حاجاتهم، کما کان یداعب الأطفال ویسهر علی راحتهم، ویواسی المهمومین ویداری المخالفین ویسعی جهده للترویح عن الموالین والمحبین. علی العکس تماماً من عهد حکومة عثمان الذی بالغ وولاته فی ایذاء الناس، ولم یسلم منهم حتی کبار الصحابة کأبی ذر وعمار بن یاسر وعبد اللّه بن مسعود، فکان أن نفی الصحابی الجلیل أبا ذر إلی تلک الأرض القاحلة الجرداء حتی مات فیها، کما اندفعت بطانته لتنال من عمار بذلک الأسلوب الهمجی البشع لمجرّد اعتراضه علی بعض الممارسات، فکسرت أسنانه وأشبعوه رکلاً ورفساً، کما شددوا علی عبد اللّه بن مسعود حتی قیل إنّه فارق الحیاة إثر التعذیب. وإن ساوی علی علیه السلام
ص:145
بین عقیل وسائر المسلمین فی العطاء من بیت المال، فإنّ قرابة عثمان تهافتت علی بیت المال حتی عدت العراق بستان قریش وبنی أمیة(1).
ثم قال:
«وَأَحَطْتُ بِجُهْدِی مِنْ وَرَائِکُمْ». أی أنّی حفظتکم من وساوس شیاطین الجن والانس فی مسیرة طاعة اللّه وعبودیته، ودفعت عنکم شر الأعداء. وأشار إلی دوره فی عتقهم من قیود الذل والظلم والأسر فقال:
«وَأَعْتَقْتُکُمْ مِنْ رِبَقِ(2) الذُّلِّ، وَحَلَقِ(3) الضَّیْمِ(4)». وذلک لأنّ عهد عثمان وحکومة بنی أمیة وبنی مروان وسیطرتهم علی مقدرات المسلمین شهدت اتساع رقعة الظلم والجور الذی وصل إلی کل مکان، ولم یکن هنالک من اعتبار سوی لأولئک الأفراد المتعاونین مع السلطة والمستبدین؛ وقد أنقذهم أمیر المؤمنین علی علیه السلام من هذه الحکومة القبلیة وحررهم من أیدی شرار بنی أمیة وبنی مروان.
ثم اختتم خطبته بالإشارة إلی دوافعه من تلک الأعمال الحسنة تجاههم والتی لا تنبعث من اقرارهم بحقه وفضله بل:
«شُکْراً مِنِّی لِلْبِرِّ الْقَلِیلِ وَإِطْرَاقاً(5) عَمَّا أَدْرَکَهُ الْبَصَرُ، وَشَهِدَهُ الْبَدَنُ، مِنَ الْمُنْکَرِ الْکَثِیرِ». فالواقع مراد الإمام علیه السلام أنّکم لم تسدوا إلیَّ معروفا لأکافئکم علیه، بل ما أکثر الخطوب والمحن التی خلفتموها علیَّ، فإن أسدیت لکم معروفاً ففی سبیل اللّه وأداء الوظیفة الشرعیة. وعلی ضوء هذا التفسیر فإنّ
«الْمُنْکَرِ الْکَثِیرِ» فی هذه العبارة إشارة إلی تمرد الناس وغدرهم بالإمام علیه السلام، بینما فسّرها البعض من الشرّاح بالمنکرات بهذا الحجم علی عهد الإمام علیه السلام ولم ینهاهم ویردعهم عنها؟ فأجابوا: لم یکن بوسع الإمام علیه السلام الحیلولة دون بعض
ص:146
المنکرات المتجذرة، أو لو أراد منعها لآل الأمر إلی مفسدة أعظم. لکن کما ذکرنا فإنّ المراد من المنکر لیس ما ذهب إلیه أولئک الشرّاح لیرد ذلک الإشکال وضرورة دفعة. والمراد المساویء التی مارسوها بحق الإمام علیه السلام والدلیل علی ذلک العبارة السابقة:
«لِلْبِرِّ الْقَلِیلِ».
هذا، وقد ورد مثل هذا المعنی فی سائر خطب نهج البلاغة کالخطبة 97 التی قال فیها:
«وَلَقَدْ أَصْبَحَتْ الأُمَمُ تَخافُ ظُلْمَ رَعاتِها وَأَصْبَحْتُ أَخافُ ظُلْمَ رَعِیَّتِی».
ص:147
ص:148
أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة إلی مطالب متعددة تشکل بعض التعالیم القیمة بشأن تهذیب النفس ومعرفة اللّه حیث یمکن خصرها فی خمسة أقسام:
القسم الأول: تحدث فیه عن عظمة اللّه وحمده والثناء علیه بذکر أسمائه وصفاته.
القسم الثانی: جری الکلام فیه عن حقیقة الرجاء بصفته أحد أرکان السعادة الإنسانیة.
القسم الثالث: تطرق فیه الإمام علیه السلام إلی جانب من صفات النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وأفعاله وأقواله التی ینبغی التأسی بها من قبل الجمیع إلی جانب سائر صفات الأنبیاء کموسی وداود وعیس علیه السلام.
القسم الرابع: عودة إلی صفات النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وهی الصفات التی ینبغی أن یتحلی بها الجمیع.
ص:149
القسم الخامس: أشار فیه الإمام علیه السلام إلی تواضعه واختتمه بالمثل الرائع
«فَعِنْدَ الصَّباحِ یُحْمَدُ القَومُ السُّری».
ص:150
أَمْرُهُ قَضَاءٌ وَحِکْمَةٌ، وَرِضَاهُ أَمَانٌ وَرَحْمَةٌ، یَقْضِی بِعِلْمٍ، وَیَعْفُو بِحِلْمٍ.
اللّهُمَّ لَکَ الْحَمْدُ عَلَی ما تَأْخُذُ وَتُعْطِی، وَعَلَی مَا تُعَافِی وَتَبْتَلِی؛ حَمْداً یَکُونُ أَرْضَی الْحَمْدِ لَکَ، وَأَحَبَّ الْحَمْدِ إِلَیْکَ، وَأَفْضَلَ الْحَمْدِ عِنْدَکَ. حَمْداً یَمْلَأُ مَا خَلَقْتَ، وَیَبْلُغُ مَا أَرَدْتَ. حَمْداً لَایُحْجَبُ عَنْکَ، وَلَا یُقْصَرُ دُونَکَ.
حَمْداً لَایَنْقَطِعُ عَدَدُهُ، وَلَا یَفْنَی مَدَدُهُ، فَلَسْنَا نَعْلَمُ کُنْهَ عَظَمَتِکَ إِلَّا أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّکَ «حَیٌّ قَیُّومٌ، لَاتَأْخُذُکَ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ». لَمْ یَنْتَهِ إِلَیْکَ نَظَرٌ، وَلَمْ یُدْرِکْکَ بَصَرٌ.
أَدْرَکْتَ الْأَبْصَارَ، وَأَحْصَیْتَ الْأَعْمَالَ، وَأَخَذْتَ «بِالنَّوَاصِی وَالْأَقْدَامِ». وَمَا الَّذِی نَرَی مِنْ خَلْقِکَ، وَنَعْجَبُ لَهُ مِنْ قُدْرَتِکَ، وَنَصِفُهُ مِنْ عَظِیمِ سُلْطَانِکَ، وَمَا تَغَیَّبَ عَنَّا مِنْهُ، وَقَصُرَتْ أَبْصَارُنَا عَنْهُ، وَانْتَهَتْ عُقُولُنَا دُونَهُ، وَحَالَتْ سُتُورُ الْغُیُوبِ بَیْنَنَا وَبَیْنَهُ أَعْظَمُ. فَمَنْ فَرَّغَ قَلْبَهُ، وَأَعْمَلَ فِکْرَهُ، لِیَعْلَمَ کَیْفَ أَقَمْتَ عَرْشَکَ، وَکَیْفَ ذَرَأْتَ خَلْقَکَ، وَکَیْفَ عَلَّقْتَ فِی الْهَوَاءِ سَمَاوَاتِکَ، وَکَیْفَ مَدَدْتَ عَلَی مَوْرِ الْمَاءِ أَرْضَکَ، رَجَعَ طَرْفُهُ حَسِیراً، وَعَقْلُهُ مَبْهُوراً، وَسَمْعُهُ وَالِهَاً، وَفِکْرُهُ حَائِراً.
أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی أربعة مواضیع فقال:
«أَمْرُهُ قَضَاءٌ وَحِکْمَةٌ» أی یستند أمره إلی الحکمة رغم قاطعیته علی العکس من المستبدین والمقتدرین الذین یصدرون الأوامر الصارمة دون أدنی حکمه. ولمفردة (أمره) فی
ص:151
العبارة معنی واسع یشمل الأوامر التکوینیة: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ»(1) والأوامر التشریعیة: «إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِیتَاءِ ذِی الْقُرْبَی»(2).
والحکمة واضحة فی کلا الأمرین تتضمن مصالح العباد والبلاد.
ثم قال:
«وَرِضَاهُ أَمَانٌ وَرَحْمَةٌ» یمکن أن یرضی الناس عن فرد ویأمنوه، إلّاأنّ أمانهم مشوب بالخوف والرهبة، بینما لا ینطوی أمان اللّه سوی علی الرحمة، کما تحدث فی العبارة التالیة عن قضاء اللّه، فقال:
«یَقْضِی بِعِلْمٍ» خلافاً لقضاء الإنسان الذی یمتزج عادة الجهل وعدم العلم.
ثم قال فی المقطع الرابع:
«وَیَعْفُو بِحِلْمٍ». نعم، عفوه بحلم ومن یعفو عنه لا یؤاخذه ولا یعاقبه، بخلاف البعض الذین یسعون لعقاب الآخرین حین یعفون عنهم لإطفاء غضبهم، کما هنالک من یعفو عن الآخرین لطفاً ورحمة. ثم اتّجه الإمام علیه السلام صوب حمد اللّه والثناء علیه وقد تکرر هذا الحمد ثمان مرات فی هذا الجانب من الخطبة حیث أورد صفة خاصة لکل مرحلة، ثم خاض فی هذا الحمد والثناء بأسلوب بلیغ وفصیح فقال:
«اللّهُمَّ لَکَ الْحَمْدُ عَلَی ما تَأْخُذُ وَتُعْطِی، وَعَلَی مَا تُعَافِی وَتَبْتَلِی» أی أحمدک وأُثنی علیک فی کل الاحوال، ذلک لأنّ الخیر والسعادة منک، فإن أفضت نعمة فتلک کرامة وإن سلبتها کان ذلک عن عنایة. وإن منحت الصحة والعافیة فتلک سعادة وإن أمرضت وابتلیت فعن مصلحة، فلا تفعل إلّاالحکمة وکل ما یأتی منک رحمة.
ثم خاض الإمام علیه السلام فی صفات هذا الحمد لیوجزها فی ستة أوصاف لیجعله حمداً جامعاً شاملاً من جمیع النواحی فقال:
«حَمْداً یَکُونُ أَرْضَی الْحَمْدِ لَکَ، وَأَحَبَّ الْحَمْدِ إِلَیْکَ، وَأَفْضَلَ الْحَمْدِ عِنْدَکَ. حَمْداً یَمْلَأُ مَا خَلَقْتَ، وَیَبْلُغُ مَا أَرَدْتَ.
حَمْداً لَایُحْجَبُ عَنْکَ، وَلَا یُقْصَرُ دُونَکَ. حَمْداً لَایَنْقَطِعُ عَدَدُهُ، وَلَا یَفْنَی مَدَدُهُ».
ص:152
فهذا الحمد جامع شامل یتجاوز الزمان والمکان والعدد والقصور والحجاب.
أضف إلی ذلک فهو حمد علی العافیة والبلاء والأخذ والعطاء فهو حمد علی کل شیء وفی کل زمان ومکان وعلی کل حال. ثم خاض علیه السلام فی صفات الجلال والجمال لیورد أوصافاً بلیغة أعرب فیها عن العجز عن إدراک عظمة اللّه، فقال:
«فَلَسْنَا نَعْلَمُ کُنْهَ عَظَمَتِکَ» ذلک لأنّ اللّه وجود مطلق ولا متناهٍ من جمیع الجهات، وهل من نصیب للإنسان المحدود مهما کان هذا الإنسان سوی العجز عن إدراک غیر المحدود. إلّاأنّ الإمام علیه السلام وبغیة دفع التصور الخاطئ من أنّ هذا الکلام ربّما یعنی عدم إمکان معرفة اللّه وتعطیل صفاته تطرق مباشرة إلی المعرفة الإجمالیة من خلال بیان ثمان صفات من صفاته الثیوتیة والسلبیة علی أننا وإن عجزنا عن إدراک کنه ذاتک المقدّسة
«إِلَّا أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّکَ «حَیٌّ قَیُّومٌ، لَاتَأْخُذُکَ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ»».
ثم واصل علیه السلام کلامه قائلا:
«لَمْ یَنْتَهِ إِلَیْکَ نَظَرٌ، وَلَمْ یُدْرِکْکَ بَصَرٌ. أَدْرَکْتَ الْأَبْصَارَ، وَأَحْصَیْتَ الْأَعْمَالَ، وَأَخَذْتَ «بِالنَّوَاصِی وَالْأَقْدَامِ»». طبعاً وصف اللّه بالحیاة لیس المراد منه الحیاة الواقعیة بمعنی العلم المطلق والقدرة التامة علی جمیع الوجود. والقیوم القائم بذاته والذی یقوم به غیره، لأنّه واجب الوجود، وواجب الوجود غنی عن الغیر ولکل محتاج إلیه. والعبارة
«لَا تَأْخُذُکَ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ» إشارة إلی أنّ علمه ولطفه دائم علی العباد، لا أنّه یلتفت أحیاناً ویحف عباده بالعنایة وأخری ینام فینساهم. والعبارة
«لَمْ یَنْتَهِ إِلَیْکَ نَظَرٌ...» إشارة إلی أنّ علم الإنسان لا یسعه الاحاطة بذاته المقدّسة - لأنّ ذاته مطلقة - کما لا یسع البصر الظاهر رؤیته، لأنّه لیس بجسم ولیس له جهة ولا لون، بینما یدرک سبحانه حرکات العیون ویحاسب علی أدنی الأعمال. والمراد من
«بِالنَّوَاصِی وَالْأَقْدَامِ» - بالنظر إلی أنّ النواصی جمع ناصیة بمعنی شعر مقدمة الرأس والأقدام جمع قدم - قدرة اللّه وغلبته لکل شیء، ذلک أنّ الإنسان متی أخذ منه ناصیته أو قیدت رجلاه سلب القدرة تماماً.
ص:153
ثم خاض الإمام علیه السلام فی عالم الخلقة وعظمته لإثبات تلک الصفات الجمالیة والجلالیة من خلال عبارات عمیقة ورصینة تفید أنّ العالم الذی نراه وندرکه رغم عظمته لا یشکل بالنسبة لما لا نراه وندرکه سوی قطرة إلی بحر فقال:
«وَمَا الَّذِی نَرَی مِنْ خَلْقِکَ، وَنَعْجَبُ لَهُ مِنْ قُدْرَتِکَ، وَنَصِفُهُ مِنْ عَظِیمِ سُلْطَانِکَ، وَمَا تَغَیَّبَ عَنَّا مِنْهُ، وَقَصُرَتْ أَبْصَارُنَا عَنْهُ، وَانْتَهَتْ عُقُولُنَا دُونَهُ، وَحَالَتْ سُتُورُ الْغُیُوبِ بَیْنَنَا وَبَیْنَهُ أَعْظَمُ». نعم، ما نراه الیوم رغم اتساع العلوم والمعارف بشکل مذهل بشأن عالم الخلقة - لغیض من فیض ما لا نراه وندرکه. والعلماء المعاصرون یتحدثون الیوم عن عوالم لا تکون کرتنا الأرضیة بالنسبة لها سوی نقطة فی کتاب ضخم!! کما یتکلّمون عن کرات عظیمة فی هذا الکون تفوق کرتنا الأرضیة بثلاثین ملیاراً! وأجرام سماویة عملاقة تفوق الشمس بثلاثة ملیارات مرّة (وهی الأجرام التی تجذب کل شیء من حولها حتی النور الذی ینعکس حین اصطدامه ببعض الأجسام)، ومن هنا لا نراها سوی قطع سوداء متناثرة هنا وهنالک فی السماء، وتضم کرتنا الأرضیة رغم صغرها ملایین النباتات والحیوانات التی تغوص فی أعماق البحار والغابات والتی لم یتعرف علیها العلماء لحد الآن ولا یمکن رؤیتها بالعیون المجردة. أجل، فعالم الملک والملکوت علی قدر من السعة بما تعجز العقول عن إدراکه وتحیر الأفکار فی عظمته فضلاً عن عظمة اللّه فی خلقه، وهذا بدوره أعظم درسٍ فی التوحید ومعرفة اللّه.
ورد فی الروایة عن الإمام السجاد علی بن الحسین علیه السلام أنّه قال:
«لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ السَّماءِ والأَرْضَ أَنْ یَصِفُوا اللّهَ بِعَظَمَتِهِ لَمْ یَقْدِرُوا»(1).
ثم قال علیه السلام مواصلاً خطبته:
«فَمَنْ فَرَّغَ قَلْبَهُ، وَأَعْمَلَ فِکْرَهُ، لِیَعْلَمَ کَیْفَ أَقَمْتَ عَرْشَکَ، وَکَیْفَ ذَرَأْتَ(2) خَلْقَکَ، وَکَیْفَ عَلَّقْتَ فِی الْهَوَاءِ سَمَاوَاتِکَ، وَکَیْفَ مَدَدْتَ
ص:154
عَلَی مَوْرِ(1) الْمَاءِ أَرْضَکَ، رَجَعَ طَرْفُهُ(2) حَسِیراً(3) ، وَعَقْلُهُ مَبْهُوراً(4) ، وَسَمْعُهُ وَالِهَاً، وَفِکْرُهُ حَائِراً». فقد رکز الإمام علیه السلام بهذه العبارات اللطیفة العمیقة المعنی علی أربعة أمور بشأن عظمة الخلق؛ إقامة العرش، وبدایة الخلق، وتعلیق الکرات فی السماء، وظهور الأرض من تحت الماء، وکل واحدة أعجب من الاخری، ثم أشار عقبها إلی أثار هذه الحیرة من قبیل تعب العین وعجزها، وبهت العقول، ووله السمع، وحیرة الفکر. أمّا بشأن تفسیر العرش فهنالک کلام کثیر، والمستفاد من آیة الکرسی أنّ العرش عالم فوق السماء والأرض، حیث ورد فی القرآن بشأنه: «وَسِعَ کُرْسِیُّهُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضَ». جدیر ذکره أنّ الملوک القدماء کان لهم عرشان؛ عرش صغیر یطلق علیه الکرسی یستعملونه فی الأیّام الاعتیادیة، وآخر مرتفع یسمی العرش یعتلونه فی الأعیاد والمناسبات الرسمیة، ثم أصبح هذان التعبیر أنّ کنایة عن مختلف درجات العظمة، والقرآن یعد السماوات والأرض التی نراها کرسی اللّه، وعلیه فعرشه أرفع من ذلک. ومن هنا ربّما یکون العرش إشارة إلی عالم ماوراء الطبیعة، أی عالم الملائکة والکروبیین(5) أوعالم المادة الذی لیس لدینا من سبیل إلیه.
والعبارة
«وَکَیْفَ مَدَدْتَ عَلَی مَوْرِ الْمَاءِ أَرْضَکَ» یمکن أن یکون إشارة إلی دحو الأرض وظهور الیابسة من المیاه؛ لأنّ المیاه عمت بادیء الأمر الکرة الأرضیة برمتها، ثم تخللت فجوات الأرض وشقوقها بالتدریج حتی ظهرت الیابسة. أجل لا یمتلک الإنسان سوی الحیرة والذهول أن فکر بشأن عالم الخلیقة وما ینطوی علیه
ص:155
من عجائب وغرائب وأسرار، وهی الحیرة التی تلفت نظرنا إلی عظمة الخالق وضرورة معرفته وتنزیهه عمن سواه.
ص:156
منها: یَدَّعِی بِزَعْمِهِ أَنَّهُ یَرْجُو اللّهَ، کَذَبَ وَالْعَظِیمِ! مَا بَالُهُ لَایَتَبَیَّنُ رَجَاؤُهُ فِی عَمَلِهِ؟ فَکُلُّ مَنْ رَجَا عُرِفَ رَجَاؤُهُ فِی عَمَلِهِ. وَکُلُّ رَجَاءٍ - إِلَّا رَجَاءَ اللّهِ تَعَالَی - فَإِنَّهُ مَدْخُولٌ وَکُلُّ خَوْفٍ مُحَقَّقٌ، إِلَّا خَوْفَ اللّهِ فَإِنَّهُ مَعْلُولٌ یَرْجُو اللّهَ فِی الْکَبِیرِ، وَیَرْجُو الْعِبَادَ فِی الصَّغِیرِ، فَیُعْطِی الْعَبْدَ مَا لَایُعْطِی الرَّبَّ! فَمَا بَالُ اللّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ یُقَصَّرُ بِهِ عَمَّا یُصْنَعُ بِهِ لِعِبَادِهِ؟ أَتَخَافُ أَنْ تَکُونَ فِی رَجَائِکَ لَهُ کَاذِباً؟ أَوْ تَکُونَ لَاتَرَاهُ لِلرَّجَاءِ مَوْضِعاً؟ وَکَذلِکَ إِنْ هُوَ خَافَ عَبْداً مِنْ عَبِیدِهِ، أَعْطَاهُ مِنْ خَوْفِهِ مَا لَایُعْطِی رَبَّهُ، فَجَعَلَ خَوْفَهُ مِنَ الْعِبَادِ نَقْداً، وَخَوْفَهُ مِنْ خَالِقِهِ ضِماراً وَوَعْداً. وَکَذلِکَ مَنْ عَظُمَتِ الدُّنْیَا فِی عَیْنِهِ، وَکَبُرَ مَوْقِعُهَا مِنْ قَلْبِهِ، آثَرَهَا عَلَی اللّهِ تَعَالَی، فَانْقَطَعَ إِلَیْهَا، وَصَارَ عَبْداً لَهَا.
بعد أن أشار الإمام علیه السلام إلی عظمة اللّه وحمده وأثنی علیه وتطرق إلی علامات ذاته المقدّسة فی عالم الوجود، خاض فی وعظ الغافلین وإرشادهم ورکز علی مسألة من أهم المسائل وهی الخوف حیث کشف حقیقته وشرح تفاصیله وفضح الکاذبین فی دعواهم إیّاه فقال:
«یَدَّعِی بِزَعْمِهِ أَنَّهُ یَرْجُو اللّهَ، کَذَبَ وَالْعَظِیمِ!(1)». ثم خاض فی ذکر الدلیل فقال:
«مَا بَالُهُ لَایَتَبَیَّنُ رَجَاؤُهُ فِی عَمَلِهِ؟ فَکُلُّ مَنْ رَجَا عُرِفَ
ص:157
رَجَاؤُهُ فِی عَمَلِهِ». فهذا دلیل واضح فالفلاح الذی یرجو جنی ثمار مزرعته ینهمک فی سقیها ودفع الآفات عنها وتوفر کافّة مقدمات الانبات والأثمار، فإن ادّعی مزارع الرجاء لکنه جلس فی بیته ولم یقدم علی أی عمل فسوف یتفق الجمیع علی أنّ رجاءه کاذب فهو یتخیل الرجاء دون واقعیة لذلک الخیال، فالرجاء الصادق المقرون بطاعة اللّه والسیر علی سبیله والفوز برضاه. قیل للإمام الصادق علیه السلام أنّ جماعة یرتکبون الذنوب ویرجون عفو اللّه ورحمته فقال:
«کَذَّبُوا لَیْسُوا بِرَاجِینَ أَنَّ مَنْ رَجا شَیئاً طَلَبَهُ وَمَنْ خافَ شَیئاً هَرَبَ مِنْهُ»(1).
ثم خاض علیه السلام فی تفاصیل ذلک الخوف والرجاء فقال:
«وَکُلُّ رَجَاءٍ - إِلَّا رَجَاءَ اللّهِ تَعَالَی - فَإِنَّهُ مَدْخُولٌ(2) وَکُلُّ خَوْفٍ مُحَقَّقٌ(3) إِلَّا خَوْفَ اللّهِ».
یبدو دلیل ذلک واضحاً فلیس هنالک من مبدأ للخیر سوی اللّه وکل من قدر علی الإتیان بالخیر فبمعونته (لا مؤثر فی الوجود إلّااللّه). وعلیه فلا ینبغی التعلق سوی باللّه والرجاء لما عنده، فالذی ینفع ویضر ویثیب ویعاقب هو اللّه وحده ولیس للآخرین من ذلک شیء کما ورد فی القرآن الکریم: «وَمَا هُمْ بِضَارِّینَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللّهِ»(4). صحیح أنّ اللّه ترک للعبد قدرة الإتیان بالأعمال، إلّاأنّ ذلک لا یعنی سلب القدرة عن ذاته المقدّسة. ولذلک لابدّ من حصر الرجاء فی تلک الذات والخوف من مخالفتها.
ص:158
ثم إشار علیه السلام إلی قضیة مهمّة تکمن فی تضاد أعمال الناس بخصوص موضوع الخوف والرجاء. فلو أمل شخص شخصاً آخر فی مسألة لابدّ له من الخضوع والخشوع، وإن خاف شیئاً أیضاً حسب له ألف حساب، بینما لا یبدی مثل هذه الحساسیة تجاه اللّه تبارک وتعالی سواء علی مستوی الرجاء والأمل أو الخوف وحتی فی القضایا المهمّة، فهنالک تواضع یبدیه لسائر العباد یفوق نظیره للّه تعالی:
«فَإِنَّهُ مَعْلُولٌ یَرْجُو اللّهَ فِی الْکَبِیرِ، وَیَرْجُو الْعِبَادَ فِی الصَّغِیرِ، فَیُعْطِی الْعَبْدَ مَا لَا یُعْطِی الرَّبَّ!».
ثم واصل کلامه علیه السلام بالإشارة إلی سبب ذلک فقال:
«فَمَا بَالُ اللّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ یُقَصَّرُ بِهِ عَمَّا یُصْنَعُ بِهِ لِعِبَادِهِ؟ أَتَخَافُ أَنْ تَکُونَ فِی رَجَائِکَ لَهُ کَاذِباً؟ أَوْ تَکُونَ لَاتَرَاهُ لِلرَّجَاءِ مَوْضِعاً؟» حقاً أنّ الإنسان الذی یؤمن باللّه وأنّه قادر علی کل شیء ویؤمن برحمانیته ورحیمیته وفضله وکرمه، لا یمکن أن یکون أمله باللّه کاذباً، أو أن لا یراه أهلاً للأمل. لو تأملنا قلیلاً هذه الأفکار لأدرکنا بما لا یقبل الشک أصل الانحراف عن التوحید ومعرفة اللّه. فالحقیقة أنّ عصارة کلام الإمام علیه السلام هی أننا نری أنّ بعض الأفراد یتجهون البعض الآخر لحاجة صغیرة فیبدون لهم صنوف الاحترام والاجلال، بینما لا تشاهد منهم هذه الأمور حین یقصدون اللّه لحاجاتهم الکبری، ولیس هنالک من تفسیر لهذه القضیة سوی ضعف مثل هؤلاء الأفراد وعجزهم عن معرفة اللّه والوقوف علی صفاته الجلالیة والجمالیة.
ثم انتقل الإمام علیه السلام من الرجاء إلیالخوف وقارن بین خوف اللّه وخوف العبد، فقال:
«وَکَذلِکَ إِنْ هُوَ خَافَ عَبْداً مِنْ عَبِیدِهِ، أَعْطَاهُ مِنْ خَوْفِهِ مَا لَایُعْطِی رَبَّهُ، فَجَعَلَ خَوْفَهُ مِنَ الْعِبَادِ نَقْداً، وَخَوْفَهُ مِنْ خَالِقِهِ ضِماراً(1) وَوَعْداً».
قطعاً أنّ سبب هذا الازدواج یعزی إلی ضعف الإیمان، ذلک لأنّ قدرة العباد هشة مقارنة بقدرة اللّه، فلو فرضنا جمیع قدراتهم، ومضة، لکانت قدرة اللّه بحاراً من
ص:159
النیران بالنسبة لتلک الومضة، فکیف یتعرف الإنسان علی هذین المیدانین للخوف فیخاف الومضة ولا یخاف بحار النار؟! طبعاً یمکن أن یکون منشأ هذا التفاوت، الأمل المفرط بلطف اللّه وکرمه والذی تفرزه بالطبع الغفلة، لأنّه أرحم الراحمین فی موضع العفو والرحمة وأشد المعاقبین فی موضع النکال والنقمة. ولما کان هذا التعامل الازدواجی تجاه اللّه والعباد ناشیء من ضعف المعرفة وضیق الافق، فقد خاض الإمام علیه السلام فی اختتامه لهذا الکلام فی هذا التعامل الازدواجی للإنسان حیال الدنیا والآخرة، فقال:
«وَکَذلِکَ مَنْ عَظُمَتِ الدُّنْیَا فِی عَیْنِهِ، وَکَبُرَ مَوْقِعُهَا مِنْ قَلْبِهِ، آثَرَهَا عَلَی اللّهِ تَعَالَی، فَانْقَطَعَ إِلَیْهَا، وَصَارَ عَبْداً لَهَا».
أجل، أنّ عبید الدنیا عدیمو المعرفة لا یرون سوی متاع الدنیا الزائل وحطامها الفانی ویغفلون عن نعیم الآخرة الدائم، وهذا ما یدعوهم لایثار الدنیا علی الآخرة وتقدیم رضا المخلوق علی الخالق. علی العکس من عباد اللّه من أهل الورع والتقوی الذین وصفهم الإمام علیه السلام فی خطبة المتقین:
«عَظُمَ الخالِقُ فِی أَنْفُسِهِم فَصَغُرَ ما دُونَهِ فِی أَعْیُنِهِم».
العبارة
«فَانْقَطَعَ إِلَیْهَا، وَصَارَ عَبْداً لَهَا» إشارة إلی حقیقة هی أنّ طلاب الدنیا عادة ما ینتهی بهم الأمر إلی الخروج عن عبودیة اللّه والاشتغال بعبودیة الدنیا وطاعة النفس والهوی والشیطان، وبالتالی الخروج من معسکر التوحید وعبودیة اللّه إلی معسکر الشرک وعبودیة الدنیا. أجل عاقبة أمرهم ماآل إلیه أمر عمر بن سعد حیث لم یر شیئاً سوی الدنیا متمثلة بملک الری وغفل عن عذاب جهنم ونعیم الجنّة فاختار ذلک الموقف:
ألا إنَّما الدُّنْیَا لِخَیْرٌ مِعَجَّلٌ
فَمَا عَاقِلٌ باعَ الوُجُودَ بِدَیْنِ(1)
إنّ أقوی دافع نحو الحرکة باتجاه الورع والتقوی یتمثل بالخوف من عقاب اللّه والرجاء لرحمته وعفوه. ولیس لأحد أن یحلق فی سماء الحق ویقترب من ساحة القدس الربانی دون العنصرین المذکورین. فعلی غرار التلمیذ الذی یأمل تذوق طعم النجاح من خلال رجائه الموفقیة والحصول علی الدرجات العالیة إلی جانب الخوف من الرسوب فی الامتحان، فیجد ویجتهد ویجند طاقاته من أجل العلوم والمعارف، یبدو لابدّ من هذا الرجاء والخوف فی الجانب المعنوی أیضاً.
ورد فی الحدیث الشریف أنّ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله قال:
«أَعْلَی النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللّهِ أَخْوَفُهُم مِنْهُ»1.
وقال الصادق علیه السلام:
«لا یَکُونَ المُؤمِنُ مُؤمِناً حَتّی یَکُونَ خائِفاً رَاجِیاً، وَلا یَکُونَ خائِفاً رَاجِیاً حَتّی یَکُونَ عامِلاً لِمَا یَخافُ وَیَرجُو»(2). والإنسان لا یمکنه الاستفادة من هذین المفهومین، الخوف والرجاء أنّ زعمهما کذباً، والتأکید من عدم الکذب بهذا الشأن یکمن فی الموازنة والعمل علی أساسهما، إلّاأنّ المؤسف له هو أنّ أغلب الناس صادقون فی رجائهم وخوفهم بالنسبة لأمور الدنیا، لکنهم لیسوا کذلک بالنسبة للاخرة. لقد ظهر الآن مرض شدید هو مرض ذات الرئه: «والذی یطلق علیه الالتهاب الرئوی اللانمطی» القاتل حیث بلغ عدد الوفیات سته بالمئة بالنسبة للمصابین بهذا المرض، ویبد وأنّ طرق الوقایة التی اتخذت بهذا الشأن تفوق التصور، فقد عمدوا إلی رش السموم فی المناطق الملوثة، والجمیع یرتدی الأقنعة الواقیة، وإن عثروا علی من یظن أنّه مصاب یعزلونه عن الآخرین، کما هنالک تفتیش دقیق لکافة المسافرین حین یهبطون فی المطارات. حقّاً هذا هوالخوف الصادق.
ص:160
ص:161
والسؤال الذی یرد هنا: هل یبدی المؤمنون مثل هذا الخوف من عذاب اللّه یوم القیامة الذی یفوق هذا الأمر بما لا یحصی؟! یتعجب الإمام علیه السلام فی الخطبة المذکورة من کیفیة شعور الإنسان بذلک الخوف من بعض الحوادث الطفیفة بینما لا یعیش مثله من اللّه! والأمر کذلک بالنسبة للرجاء؛ نعم، أولیاء اللّه کانوا یرتعشون خوفاً من اللّه فی محراب عبادتهم، وکان یسمع من بعضهم أنین وتأوه. الکلام بهذا الشأن کثیر والهدف هنا إشارة سریعة لاتمام المباحث، ونختتم البحث بهذا الحدیث. قال الإمام الصادق علیه السلام: کان أبی یقول:
«إنَّهُ لَیْسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤمِنٍ إِلّا وَفِی قَلْبِهِ نُورَانِ، نُورُ خِیفَةٍ، وَنُورُ رَجاءٍ لَو وُزِنَ هَذا لَمْ یَزِدْ عَلَی هَذا وَلَو وَزِنَ هَذا لَمْ یَزِدْ عَلَی هَذا»(1).
ص:162
وَلَقَدْ کَانَ فِی رَسُولِ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - کَافٍ لَکَ فِی الْأُسْوَةِ، وَدَلِیلٌ لَکَ عَلَی ذَمِّ الدُّنْیَا وَعَیْبِهَا، وَکَثْرَةِ مَخَازِیهَا وَمَسَاوِیهَا، إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا، وَوُطِّئَتْ لِغَیْرِهِ أَکْنَافُهَا، وَفُطِمَ عَنْ رَضَاعِهَا، وَزُوِیَ عَنْ زَخَارِفِهَا.
تحدث الإمام علیه السلام فی العبارات الأخیرة من المقطع السابق عن أولئک الأفراد الذین ذاعوا فی الدنیا فأصبحوا عبیدها الأذلّاء بعد أن ولّوا ظهورهم لکل شیء وأخلدوا إلی الدنیا. وقد سعی الإمام علیه السلام لإیقاظ هذه الفئة المتهافتة علی الدنیا من خلال الاقتداء بجوانب من سیرة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله ومن سبقه من الأنبیاء، وقد رکز بادیء الأمر علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال:
«وَلَقَدْ کَانَ فِی رَسُولِ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - کَافٍ لَکَ فِی الْأُسْوَةِ، وَدَلِیلٌ لَکَ عَلَی ذَمِّ الدُّنْیَا وَعَیْبِهَا، وَکَثْرَةِ مَخَازِیهَا(1) وَمَسَاوِیهَا» جدیر ذکره أنّ الإمام علیه السلام یری النبی الأکرم صلی الله علیه و آله هنا اسوة ودلیل. والواقع هو أنّ العبارتین تنتهیان إلی نتیجة واحدة وهی اقتناء آثار ذلک النبی الأعظم وتکییف الحیاة علی ضوء حیاته، لکن هنالک تفاوتاً لطیفاً فی المعنی؛ فالأُسوة إشارة إلی أننا نکیف حیاتنا طبق حیاة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أمّا الدلیل، فإشارة إلی أنّه یدعونا إلی الآخرة.
ثم ذکر علیه السلام توجیه ذلک التأسی فقال:
«إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا، وَوُطِّئَتْ لِغَیْرِهِ
ص:163
أَکْنَافُهَا، وَفُطِمَ(1) عَنْ رَضَاعِهَا، وَزُوِیَ(2) عَنْ زَخَارِفِهَا(3)».
فقد عاش رسول اللّه صلی الله علیه و آله حین کان القیاصرة والأکاسرة یرتعون فی الجزیرة العربیة، وقد واصل تلک الحیاة البسیطة المتواضعة حتی حین تزعم الدولة الإسلامیة وحاز علی الغنائم العظیمة، وکان یفخر صلی الله علیه و آله بتلک المعیشة فیقول:
«الفَقْرُ فَخْرِی»(4)فالعبارة لا تعنی أنّه لم یکن بوسع النبی الأکرم صلی الله علیه و آله الحصول علی تلک الحیاة وأسلوب العیش، بل لم یکن شخصیاً یرغب فی مثل تلک المعیشة، ومن هنا ورد فی الروایة أنّه هبط علیه أحد الملائکة وبیده مفتاح خزائن الدنیا فقال:
«یا مُحَمَّدُ هَذِهِ مَفاتِیحُ خَزَائِنُ الأرَضِ یَقُولُ لَکَ رَبُّکَ إِفْتَحْ وَخُذْ مِنها ما شِئْتَ مِنْ غَیْرِ أَنْ تَنْقُصُ شَیئاً عِنْدِی»، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله
:الدُّنیا دَارُ مَنْ لادَارَ لَهُ وَلَها یَجْمَعُ مَنْ لاعَقْلَ لَهُ. فقال الملک:
أُقْسِمِ بِاللّهِ الَّذِی بَعَثَکَ نَبِیَّاً بِالحَقِّ، إِنِّی سَمِعْتُ هَذا الکَلامَ مِنْ مَلَکٍ فِی السَّماءِ الرَّابِعةِ حِینَ تَسَلَّمْتُ هَذِهِ المَفاتِیحُ»(5).
والعبارة
«إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا» إشارة أنّ حکومة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وسلطته لم تکن کحکومة القیاصرة والأکاسرة، والعبارة
«وَفُطِمَ عَنْ رَضَاعِهَا» إشارة إلی عدم تناوله الأطعمة اللذیذة المتنوعة، والعبارة
«وَزُوِیَ عَنْ زَخَارِفِهَا» أنّه لم یستفد من القصور الفارهة والمراکب الهنیئة والثیاب الفاخرة. علی کل حال فقد استعان الإمام علیه السلام بأعظم أُسوة ورکز علی حیاة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله إزاء أولئک الذین إنقادوا للدنیا وقصروا همتهم علیها. النبی الذی کان یجلس علی التراب ویعیش کأضعف الأفراد ولم یکن لدیه أحیاناً سوی ثوب واحد وقد اعترض علی ابنته فاطمة
ص:164
الزهراء علیها السلام حین وضعت ستاراً جدیداً علی باب دارها وقد لبست بعض الحلی من الفضة لا الذهب، وسنخوض فی المزید بهذا الشأن فی ختام هذه الخطبة.
ص:165
ص:166
وَإِنْ شِئْتَ ثَنَّیْتُ بِمُوسَی کَلِیمِ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَسَلَّمَ - حَیْثُ یَقُولُ:
«رَبِّ إِنِّی لِمَا أَنزَلْتَ إِلَیَّ مِنْ خَیْرٍ فَقِیرٌ». وَاللّهِ، مَا سَأَلَهُ إِلَّا خُبْزاً یَأْکُلُهُ، لِأَنَّهُ کَانَ یَأْکُلُ بَقْلَةَ الْأَرْضِ، وَلَقَدْ کَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَی مِنْ شَفِیفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ، لِهُزَالِهِ وَتَشَذُّبِ لَحْمِهِ.
وَإِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوُودَ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَسَلَّمَ - صَاحِبِ الْمَزَامِیرِ، وَقَارِیءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَقَدْ کَانَ یَعْمَلُ سَفَائِفَ الْخُوصِ بِیَدِهِ، وَیَقُولُ لِجُلَسَائِهِ: أَیُّکُمْ یَکْفِینِی بَیْعَهَا! وَیَأْکُلُ قُرْصَ الشَّعِیرِ مِنْ ثَمَنِهَا.
وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِی عِیسَی بْنِ مَرْیَمَ عَلَیْهِ السَّلَامُ، فَلَقَدْ کَانَ یَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ، وَیَلْبَسُ الْخَشِنَ، وَیَأْکُلُ الْجَشِبَ، وَکَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ، وَسِرَاجُهُ بِاللَّیْلِ الْقَمَرَ، وَظِلَالُهُ فِی الشِّتَاءِ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَفَاکِهَتُهُ وَرَیْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ؛ وَلَمْ تَکُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ، وَلَا وَلَدٌ یَحْزُنُهُ، وَلَا مَالٌ یَلْفِتُهُ، وَلَا طَمَعٌ یُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلَاهُ، وَخَادِمُهُ یَدَاهُ!
أشار الإمام علیه السلام فی البحث السابق إلی جانب من حیاة النبی صلی الله علیه و آله کأسوة بالمؤمنین فی الزهد، ثم تطرق هنا إلی هذا الجانب فی حیاة ثلاثة من سائر الأنبیاء لیتضح من خلال ذلک أنّ هذا الأمر کان محوراً فی حیاة الأنبیاء فکانوا أُسوة لأُممهم، فقال:
«وَإِنْ شِئْتَ ثَنَّیْتُ بِمُوسَی کَلِیمِ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَسَلَّمَ - حَیْثُ
ص:167
یَقُولُ : «رَبِّ إِنِّی لِمَا أَنزَلْتَ إِلَیَّ مِنْ خَیْرٍ فَقِیرٌ»». ثم خاض علیه السلام فی تفسیر العبارة المذکورة وهی آیة من آیات سورة القصص علی لسان موسی علیه السلام حین وروده إلی مدین فقال:
«وَاللّهِ، مَا سَأَلَهُ إِلَّا خُبْزاً یَأْکُلُهُ، لِأَنَّهُ کَانَ یَأْکُلُ بَقْلَةَ الْأَرْضِ، وَلَقَدْ کَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَی مِنْ شَفِیفِ(1) صِفَاقِ(2) بَطْنِهِ، لِهُزَالِهِ(3) وَتَشَذُّبِ(4) لَحْمِهِ». فرَّ موسی علیه السلام إلی الشام ثم مدین إثر دفاعه عن أحد أفراد بنی اسرائیل وقتله لأحد اتباع فرعون ومطاردته من قبل الأجهزة الفرعونیة والبحث عنه فی مصر، ولم یکن یحمل فی سفره متاعه وحیث لم یکن یستجدی أحداً من الناس فقد اضطر لأکل نبات الأرض فهزل بدن موسی علیه السلام وضعف خلال هذه المدّة بفعل المسافة الطویلة التی قطعها ماشیاً من بلد إلی بلد آخر وقد بلغ الضعف مداه بحیث کانت تبدو خضرة البقول من بطنه. وقد سأل اللّه سبحانه طعاماً یسد رمقه ویزیل جوعه، بینما کان باستطاعته سؤال اللّه عیشة هانئة وسفراً مریحاً. صحیح أنّ موسی علیه السلام کان یمر بظروف عصیبة اضطرته إلی تلک الأزمة العنیفة، إلّاأنّ المهم أنّه لم یسأل اللّه سوی مقدار الضرورة، وهذا دلیل واضح علی الزهد الذی کان محور حیاته.
ثم عرج علی زهد داود علیه السلام فقال:
«وَإِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوُودَ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَسَلَّمَ - صَاحِبِ الْمَزَامِیرِ، وَقَارِیءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَقَدْ کَانَ یَعْمَلُ سَفَائِفَ(5) الْخُوصِ(6) بِیَدِهِ، وَیَقُولُ لِجُلَسَائِهِ: أَیُّکُمْ یَکْفِینِی بَیْعَهَا! وَیَأْکُلُ قُرْصَ الشَّعِیرِ مِنْ ثَمَنِهَا». نعلم أنّ داود علیه السلام وإلی جانب النبوّة کان من ملوک بنی اسرائیل وکانت حکومته قویة شاملة علی ضوء الآیة الشریفة: «َشَدَدْنَا مُلْکَهُ وَآتَیْنَاهُ الْحِکْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ»(7). فهل ما
ص:168
قیل یتعلق بعهد حکومته أم بعدها؟ کیف ما کان الأمر فهنالک دلیل دامغ علی زهده ولاسیّما ما ورد فی بعض الروایات أنّه لم یکن یقتات من بیت المال، بل کان یعمل الدروع ویأکل من عرق جبینه. العبارة
«صَاحِبِ الْمَزَامِیرِ، وَقَارِیءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» إشارة إلی مقاماته المعنویة الرفیعة فی الدنیا والآخرة. وقد أفاض اللّه علیه من العلوم المعنویة بحیث کان ینشئ المزامیر (المزامیر کما سیأتی بمبحث التأملات مجموعة من الأدعیة والمناجاة والمواعظ والإرشادات التی کان یتلوها داود علیه السلام ویترنم بها بصوت عذب فکان یشد إلیه الناس، بل حتی الطیور والحیوانات حسب الروایة).
وقاریء (أهل الجنّة) إشارة إلی مقامه الاُخروی حیث یتذوق أولیاء اللّه هناک لذّة القرب الإلهی وعشق ذاته المقدّسة من ترانیمه المعنویة لذلک الصوت العذب ومناجاته الروحیة.
والعبارة
«أَیُّکُمْ یَکْفِینِی بَیْعَهَا» ربّما تکون إشارة إلی هذه النقطة وهی أنّه أراد شخصاً یبیعها ویستفید مقداراً من ثمنها، وإن کان هذا الأمر علی عهد قضائه فهو إشارة إلی أنّ القضاء لا یتعامل فی مثل هذه الأمور مباشرة مع الآخرین حذراً من معرفته واعطائه الکثیر بغیة استمالته فی إصدار الأحکام.
ثم تطرق علیه السلام إلی زهد عیسی علیه السلام حیث أوجز حیاته المتواضعة فی ثلاث عشرة عبارة قصیرة، یصعب علینا حقّاً تصور تلک الحیاة العجیبة لهذا النبی الزاهد فضلاً عن العمل بها فقال:
«وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِی عِیسَی بْنِ مَرْیَمَ عَلَیْهِ السَّلَامُ، فَلَقَدْ کَانَ یَتَوَسَّدُ(1) الْحَجَرَ، وَیَلْبَسُ الْخَشِنَ، وَیَأْکُلُ الْجَشِبَ، وَکَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ، وَسِرَاجُهُ بِاللَّیْلِ الْقَمَرَ، وَظِلَالُهُ فِی الشِّتَاءِ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَفَاکِهَتُهُ وَرَیْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ؛ وَلَمْ تَکُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ، وَلَا وَلَدٌ یَحْزُنُهُ، وَلَا مَالٌ یَلْفِتُهُ، وَلَا طَمَعٌ یُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلَاهُ، وَخَادِمُهُ یَدَاهُ!». المراد من العبارة
«وَکَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ» أنّه
ص:169
کان یکتفی من الطعام بالخبز. وتشیر العبارة
«وَظِلَالُهُ فِی الشِّتَاءِ...» أنّه کان یستعین بدفء حرارة الشمس علی برودة الشتاء. جدیر بالذکر أنّ المسیح علیه السلام ظهر فی فترة کان یتنعم بها عبید الدنیا من بنی اسرائیل فی القصور الفخمة والمراکب الهانئة والثیاب الفاخرة وتنقل إلیهم مختلف الأطعمة ممّا لذّ وطاب. وقد اختار علیه السلام هذا النوع من الحیاة لتحذیرهم من مغبة التکالب علی الدنیا المحفوفة بالقیود والاغلال والتی تذل فی خاتمة المطاف کل من رکن إلیها، وقد قاطع بعض المحاور المهمّة التی من شأنها فتنة الإنسان من قبیل الدور الفارهة والزوجات الجمیلة الفاتنة والمال والولد والمرکب، فقد ولّی علیه السلام ظهره لکل هذه الأمور بهدف ایقاظ المجتمع من غفلته والسعی إلی دار الآخرة.
مزامیر جمع مزمور بمعنی الترانیم التی تنشد بنغمة معینة، ومزامیر داود علیه السلام اشعار روحیة مناجاة ومواعظ وعبر، کان یتلوها داود علیه السلام بصوته العذب لتؤثر فی القلوب(1) وتتکون هذه المزامیر التی تعد الآن من کتب أهل العتیق من خمسة کتب تکرر لفظ آمین آخر کل قسم منها، ویعتقد الأغلب من المفکرین أنّ هذا اللفظ من إضافات جامعی الکتب (لابدّ من الالتفات إلی أنّ المزامیر الفعلیة الموجودة فی الکتب المقدّسة تخلو من هذا اللفظ.
علی کل حال یضم الکتاب الأول 41 والثانی 31 والثالث والرابع 71 والخامس 44 مزمورة. ویمکن ایجاز مفاهیم المزامیر بصورة عامة فی العناوین الآتیة:
1. مزامیر الحمد والتسبیح التی تشمل عدّة مزامیر.
2. مزامیر الشکر التی یطلقها الأشخاص إزاء ألطاف اللّه.
3. المزامیر المتعلقة بالتوبة.
ص:170
4. المزامیر السیاحیة (بشأن قصة الأفراد الذین خصتهم عنایة اللّه أوغضبه).
5. المزامیر التاریخیة بشأن رحمة اللّه وفضله علی بنی اسرائیل.
6. مزامیر النبوّة علی أساس وعد اللّه لداود علیه السلام وأبنائه.
المزامیر التعلیمیة التی کان یوصی داود علیه السلام فیها ببعض الأمور.
أ) خصائص العادلین وممیزات الشریرین.
ب) قدسیة وطهارة؟ الشریفة الإلهیّة.
ج) هوان قیمة الحیاة الدنیا.
د) الوظائف الواجبة علی الحکام.
7. مزامیر دعاء للمذنبین (یجدر الإشارة إلی أنّ أغلب هذه المزامیر لا جمیعها تنسب إلی داود علیه السلام)(1).
یستفاد من الآیات والروایات أنّ لداود علیه السلام صوتاً شجیاً، إلی درجة أنّه لا یقتصر علی جذب الناس فحسب، بل کانت تجتمع إلیه الطیور وتحط إلی جانبه أو علی بدنه حین یناجی الحق فی محراب عبادته. ولما کانت الجنّة الموضع الأفضل فقد ورد فی الخطبة أنّ داود علیه السلام قاریء أهل الجنّة، کما أشار ابن أبی الحدید إلی روایة تحمل هذا المعنی فقال: ورد فی الخبر، داود قاریء أهل الجنّة.
سنتعرض فی نهایة الخطبة عقب الحدیث عن زهد النبی الأکرم صلی الله علیه و آله إلی علیة تشدد أنبیاء اللّه علی أنفسهم فی الحیاة، بما نعجز عن تحمله.
ص:171
ص:172
فَتَأَسَّ بِنَبِیِّکَ الْأَطْیَبِ الْأَطْهَرِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - فَإِنَّ فِیهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّی، وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّی. وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَی اللّهِ الْمُتَأَسِّی بِنَبِیِّهِ، وَالْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ. قَضَمَ الدُّنْیَا قَضْماً، وَلَمْ یُعِرْهَا طَرْفاً. أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْیَا کَشْحاً، وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْیَا بَطْناً، عُرِضَتْ عَلَیْهِ الدُّنْیَا فَأَبَی أَنْ یَقْبَلَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَیْئاً فَأَبْغَضَهُ، وَحَقَّرَ شَیْئاً فَحَقَّرَهُ، وَصَغَّرَ شَیْئاً فَصَغَّرَهُ. وَلَوْ لَمْ یَکُنْ فِینَا إِلَّا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللّهُ وَرَسُولُهُ، وَتَعْظِیمُنَا مَا صَغَّرَ اللّهُ وَرَسُولُهُ، لَکَفَی بِهِ شِقَاقاً لِلّهِ، وَمُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللّهِ.
إنّ اللّه جعل أنبیاءَه من البشر لیکونوا أُسوة للآخرین من جمیع النواحی؛ ولو کانوا من جنس الملائکة لتعذر التأسی بهم ولأصاب الشلل أهم مفاصل حرکتهم الرسالیة المتمثلة بالتعالیم العملیة. والواقع مهما کان الخطیب متمکناً وبلیغاً والکاتب فصیحاً ومتعمقاً فإن تأثیر مواعظه ونصائحه لا یرقی إلی الأسوة العملیة، ولا یمکن مقارنة ما یستفیده الآخرون من السیرة العملیة لأولیاء اللّه مع تلک التی تحصل عند سماع الوعاظ؛ ومن هنا رکز الإمام علیه السلام بعد ذکره لبعض الأنبیاء علی سیرة الرسول اللّه صلی الله علیه و آله فی اطار مواجهته لأصحاب الدنیا الذین تکالبوا علیها فی ذلک الزمان وفی کل زمان، فأشار قبل الخوض فی الجوانب العملیة لسیرة النبی صلی الله علیه و آله إلی رؤیته للدنیا فقال:
«فَتَأَسَّ بِنَبِیِّکَ الْأَطْیَبِ الْأَطْهَرِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - فَإِنَّ فِیهِ أُسْوَةً لِمَنْ
ص:173
تَأَسَّی، وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّی. وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَی اللّهِ الْمُتَأَسِّی بِنَبِیِّهِ، وَالْمُقْتَصُّ(1) لِأَثَرِهِ».
وتطرق إلی نظرته صلی الله علیه و آله إلی الدنیا، فقال:
«قَضَمَ الدُّنْیَا قَضْماً(2) ، وَلَمْ یُعِرْهَا طَرْفاً.
أَهْضَمُ(3) أَهْلِ الدُّنْیَا کَشْحاً(4) ، وَأَخْمَصُهُمْ(5) مِنَ الدُّنْیَا بَطْناً، عُرِضَتْ عَلَیْهِ الدُّنْیَا فَأَبَی أَنْ یَقْبَلَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَیْئاً فَأَبْغَضَهُ، وَحَقَّرَ شَیْئاً فَحَقَّرَهُ، وَصَغَّرَ شَیْئاً فَصَغَّرَهُ(6)». إشارة إلی أنّه کان مسلم للّه بکل کیانه، یحب ما أحب اللّه ویعادی من یعادیه اللّه، وکل هذه العبارات إشارة إلی زخرف الدنیا الزائفة فی أنّ الدنیا مبغوضة وحقیرة وصغیرة وتافهة. القضیة المهمّة أنّ حبّ الدینا أساس الظلم والحروب وسفک الدماء، والذی ینظر إلی زخارفها نظرة حقیرة لن یحبها ویفتتن بها وقلّما یتلوث بآثامها.
ثم یخلص إلی نتیجة واضحة فیقول:
«وَلَوْ لَمْ یَکُنْ فِینَا إِلَّا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللّهُ وَرَسُولُهُ، وَتَعْظِیمُنَا مَا صَغَّرَ اللّهُ وَرَسُولُهُ، لَکَفَی بِهِ شِقَاقاً لِلّهِ، وَمُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللّهِ». نعم فسعادتنا فی الدارین وصدقنا فی ادّعاء الإیمان بالله ورسوله فی أن نعظم ما عظّماه ونستصغر ما صغّراه. فقد وقف النبی الأکرم صلی الله علیه و آله موقفاً مخالفاً لزخارف الدنیا ومظاهرها الزائفة، فکیف نزعم الإیمان به ونحن نعظّم هذه التوافه الدنیویة ونضحی من أجلها بالغالی والنفیس؟! یمکن أن یرد هنا هذا السؤال: إذا کان
ص:174
النبی الأکرم صلی الله علیه و آله یجانب الطعام إلی هذه الدرجة وکان أخلی بطناً من عامة الناس، فکیف کان یصمد أمام العدو فی المعرکة حتی وصفه علی علیه السلام بقوله:
«کُنَّا إِذا احْمَرَّ البأسُ اتَّقَیْنَا بِرَسُولُ اللّهُ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - فَلَمْ یَکُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبُ إِلَی العَدُو مِنْهُ»(1). فقد ورد مثل هذا السؤال بشأن علی علیه السلام کیف وقف تلک المواقف الصعبة علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی معرکة بدر واحد والأحزاب وخیبر وحنین وإبان حکومته فی الجمل وصفین والنهروان ولم یکن طعامه سوی الشعیر. وقد أجاب الإمام علیه السلام عن السؤال فی کتابه إلی عثمان بن حنیف(2) فقال:
«ألَا إِنَّ الشَّجَرَةَ البَریِّةِ أَصْلَبُ عُودَاً وَالرَّواتِعُ الخَضِرَةِ أَرَقُّ جُلُودَاً وَالنَّابِتَاتِ الغِذیَةَ أَقوی وُقُوداً وَأَبطَأُ خُمُودَاً» وعلیه، فالنهم فی الطعام لیس بدلیل علی القوّة والقدرة. ولعل أولئک الأعراب الذین کانوا یقتاتون علی الأطعمة العادیة قد ابلوا بلاءاً حسناً فی الحرب التی نشبت بین ایران والروم علی العکس من أولئک الجنود الذین کانوا یطعمون مختلف الأطعمة، فقاوموا وصمدوا بالشکل الذی أذهل الجمیع. القضیة الأخری هی أنّ معنویات المقاتل هی التی ترسم صورة واضحة عن مصیره فی جبهة القتال لا الطعام وانواعه، وکانت معنویات النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وعلی علیه السلام فی القمة بما أهلهما لتلک الشجاعة الفائقة. جدیر ذکره أنّ ما ورد بشأن طعام النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وعلی علیه السلام لا یعنی أنّهما کانا یتناولان مثل ذلک الطعام طیلة حیاتهما، بل المراد أنّهما لم یتعلقوا بطعام معین قط.
ص:175
ص:176
وَلَقَدْ کَانَ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - یَأْکُلُ عَلَی الْأَرْضِ، وَیَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، وَیَخْصِفُ بِیَدِهِ نَعْلَهُ، وَیَرْقَعُ بِیَدِهِ ثَوْبَهُ، وَیَرْکَبُ الْحِمَارَ الْعَارِیَ، وَیُرْدِفُ خَلْفَهُ، وَیَکُونُ السِّتْرُ عَلَی بَابِ بَیْتِهِ فَتَکُونَ فِیهِ التَّصَاوِیرُ فَیَقُولُ: «یَا فُلَانَةُ - لِإِحْدَی أَزْوَاجِهِ - غَیِّبِیهِ عَنِّی، فَإِنِّی إِذَا نَظَرْتُ إِلَیْهِ ذَکَرْتُ الدُّنْیَا وَزَخَارِفَهَا». فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْیَا بِقَلْبِهِ، وَأَمَاتَ ذِکْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِیبَ زِینَتُهَا عَنْ عَیْنِهِ، لِکَیْلَا یَتَّخِذَ مِنْهَا رِیَاشاً، وَلَا یَعْتَقِدَهَا قَرَاراً، وَلَا یَرْجُو فِیهَا مُقَاماً، فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ، وَأَشْخَصَهَا عَنِ الْقَلْبِ، وَغَیَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ.
وَکَذَلِکَ مَنْ أَبْغَضَ شَیْئاً أَبْغَضَ أَنْ یَنْظُرَ إِلَیْهِ، وَأَنْ یُذْکَرَ عِنْدَهُ.
تطرق الإمام علیه السلام فی المقطع السابق من الخطبة بصورة عامة إلی زهد النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وضرورة الاقتداء والتأسی به، إلّاأنّه بیّن هنا مصادیق ذلک الزهد والتواضع فی حیاته الیومیة فأشار إلی سبعة مواضیع تکشف بجلاء عن مدی زهده وتواضعه(1) ، فقال:
«وَلَقَدْ کَانَ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - یَأْکُلُ عَلَی الْأَرْضِ،
ص:177
وَیَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، وَیَخْصِفُ(1) بِیَدِهِ نَعْلَهُ، وَیَرْقَعُ(2) بِیَدِهِ ثَوْبَهُ، وَیَرْکَبُ الْحِمَارَ الْعَارِیَ، وَیُرْدِفُ(3) خَلْفَهُ، وَیَکُونُ السِّتْرُ عَلَی بَابِ بَیْتِهِ فَتَکُونَ فِیهِ التَّصَاوِیرُ فَیَقُولُ:
«یَا فُلَانَةُ - لِإِحْدَی أَزْوَاجِهِ - غَیِّبِیهِ عَنِّی، فَإِنِّی إِذَا نَظَرْتُ إِلَیْهِ ذَکَرْتُ الدُّنْیَا وَزَخَارِفَهَا»».
العبارة
«یَأْکُلُ عَلَی الْأَرْضِ» إشارة إلی عدم امتلاک المحتاجین للمفروشات آنذاک لیجلسوا علیها فکانوا یضطرون للجلوس علی الأرض فکان النبی صلی الله علیه و آله یواسیهم فی الجلوس علی الأرض. والعبارة
«وَیَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ» تشیر إلی مدی تواضعه فی جلوسه، لا علی غرار المتکبرین الذین یضعون رجلاً علی أخری بکل غرور. والمعروف عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه کان یجثو علی رکبتیه علی غرار العبید؛ فهی جلسة متواضعة إلی جانب کونها سهلة فی النهوض. ورد فی الحدیث أنّ امرأة سیئة اللسان مرّت بالنبی صلی الله علیه و آله وهو جالس فقالت له: یا محمّد إنّک لتجلس کالعبید؟ فقال صلی الله علیه و آله:
«وأیُّ عَبْدٍ أَعْبَدُ مِنِّی»(4).
والعبارة
«وَیَکُونُ السِّتْرُ...» إشارة إلی عائشة حین وضعت ستراً مزیناً فیه صور لذی أرواح، فامتعظ رسول اللّه صلی الله علیه و آله من رؤیته لأنّه مزین فقال:
«غَیبِیهِ عَنِّی فإنّی إذا نَظَرتُ إلیهِ ذَکَرتُ الدُّنیا وَزَخَارَفَها، وَأمرَ بَرفَعهِ فَوراً»(5).
ثم قال علیه السلام مواصلاً کلامه:
«فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْیَا بِقَلْبِهِ، وَأَمَاتَ ذِکْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ،
ص:178
وَأَحَبَّ أَنْ تَغِیبَ زِینَتُهَا عَنْ عَیْنِهِ، لِکَیْلَا یَتَّخِذَ مِنْهَا رِیَاشاً(1) ، وَلَا یَعْتَقِدَهَا قَرَاراً، وَلَا یَرْجُو فِیهَا مُقَاماً». إشارة إلی أنّ حبین لا یجتمعان فی قلب إنسان. فإن افتتن بالدنیا وأحبّها رحل عن قلبه حبّ اللّه ونعیم الآخرة، فما لم یطرد من قلبه حبّ الدنیا لن یحبّ اللّه. ویصدق هذا المعنی علی جمیع الأفراد، وأبرز نموذج لذلک تمثل فی حیاة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله الذی قال:
«ما لِی وَللدُّنیا إنَّما مَثلِی وَمَثَلَها کَمَثلَ الرَّاکبِ رُفِعَتْ لَهُ الشَّجرةُ فِی یَومٍ صائِفٍ فَقَالَ تَحتَها ثُمَّ رَاحَ وَتَرکَها»(2).
ثم خلص الإمام علیه السلام إلی نتیجة واضحة أنّه طالما کانت الدنیا بهذا الشکل فما کان من النبی صلی الله علیه و آله إلّاأنّ قاطعها:
«فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ، وَأَشْخَصَهَا(3) عَنِ الْقَلْبِ، وَغَیَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ.
وَکَذَلِکَ مَنْ أَبْغَضَ شَیْئاً أَبْغَضَ أَنْ یَنْظُرَ إِلَیْهِ، وَأَنْ یُذْکَرَ عِنْدَهُ». وهنا یطرح هذا السؤال نفسه: لماذا کل هذا الذم والتحقیر للدنیا من قبل الإمام علیه السلام؟ سنرد علی هذا السؤال بالتفصیل فی آخر الخطبة إن شاء اللّه.
ص:179
ص:180
وَلَقَدْ کَانَ فِی رَسُولِ اللّهِ - صَلَّی اللّهِ عَلَیْهِ وَآلِهِ - مَا یَدُلُّکَ عَلَی مَسَاوِیءِ الدُّنْیَا وَعُیُوبِهَا: إِذْ جَاعَ فِیهَا مَعَ خَاصَّتِهِ، وَزُوِیَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِیمِ زُلْفَتِهِ.
فَلْیَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ: أَکْرَمَ اللّهُ مُحَمَّداً بِذَلِکَ أَمْ أَهَانَهُ! فَإِنْ قَالَ: أَهَانَهُ، فَقَدْ کَذَبَ - وَاللّهِ الْعَظِیمِ - بِالْإِفْکِ الْعَظِیمِ، وَإِنْ قَالَ: أَکْرَمَهُ، فَلْیَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ قَدْ أَهَانَ غَیْرَهُ حَیْثُ بَسَطَ الدُّنْیَا لَهُ، وَزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ. فَتَأَسَّی مُتَأَسٍّ بِنَبِیِّهِ، وَاقْتَصَّ أَثَرَهُ، وَوَلَجَ مَوْلِجَهُ، وَإِلَّا فَلَا یَأْمَنِ الْهَلَکَةَ، فَإِنَّ اللّهَ جَعَلَ مُحَمَّداً - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - عَلَماً لِلسَّاعَةِ، وَمُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ. خَرَجَ مِنَ الدُّنْیَا خَمِیصاً، وَوَرَدَ الْآخِرَةَ سَلِیماً. لَمْ یَضَعْ حَجَراً عَلَی حَجَرٍ، حَتَّی مَضَی لِسَبِیلِهِ، وَأَجَابَ دَاعِیَ رَبِّهِ. فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللّهِ عِنْدَنَا حِینَ أَنْعَمَ عَلَیْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ، وَقَائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ! وَاللّهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِی هذِهِ حَتَّی اسْتَحْیَیْتُ مِنْ رَاقِعِهَا. وَلَقَدْ قَالَ لِی قَائِلٌ: أَلَا تَنْبِذُهَا عَنْکَ؟ فَقُلْتُ:
اغْرُبْ عَنِّی، فَعِنْدَ الصَّبَاحِ یَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَی!
عاود الإمام علیه السلام تأکیده لما أورده فی المقطع السابق من الخطبة فی ذم الدنیا والمتعلقین بها فقال بادیء الأمر علی نحو الاستدلال المنطقی:
«وَلَقَدْ کَانَ فِی رَسُولِ اللّهِ - صَلَّی اللّهِ عَلَیْهِ وَآلِهِ - مَا یَدُلُّکَ عَلَی مَسَاوِیءِ الدُّنْیَا وَعُیُوبِهَا: إِذْ جَاعَ
ص:181
فِیهَا مَعَ خَاصَّتِهِ(1) ، وَزُوِیَتْ(2) عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِیمِ زُلْفَتِهِ(3)». وعلی ضوء هذه المقدمة خاض فی برهانه المنطقی فقال:
«فَلْیَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ: أَکْرَمَ اللّهُ مُحَمَّداً بِذَلِکَ أَمْ أَهَانَهُ! فَإِنْ قَالَ: أَهَانَهُ، فَقَدْ کَذَبَ - وَاللّهِ الْعَظِیمِ - بِالْإِفْکِ الْعَظِیمِ، وَإِنْ قَالَ: أَکْرَمَهُ، فَلْیَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ قَدْ أَهَانَ غَیْرَهُ حَیْثُ بَسَطَ الدُّنْیَا لَهُ، وَزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ». لا ینبغی أن ننسی هنا أنّ فئة من الأثریاء آنذاک کانت تری ثروتها دلیلاً علی عنایة اللّه بها، وبالتالی فإنّ الفقراء والضعفاء مبعدون عن عنایة اللّه، وهذا التفکیر دفع بهم لحث الآخرین علی جمع الثروة عن أی طریق وبایة وسیلة. ومن هنا «وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَی رَجُلٍ مِنْ الْقَرْیَتَیْنِ عَظِیمٍ»(4) فرد علیهم الحق تعالی «وَلَوْلَا أَنْ یَکُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَنْ یَکْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُیُوتِهِمْ سُقُفاً مِّنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَیْهَا یَظْهَرُونَ * وَلِبُیُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَیْهَا یَتَّکِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ کُلُّ ذَلِکَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّکَ لِلْمُتَّقِینَ»(5).
والإمام علیه السلام لیفند بالبرهان القاطع هذه الفکرة المریضة السائدة فی الأذهان.
فالحق أنّ اللّه سبحانه وتعالی أولی رسوله صلی الله علیه و آله عنایة فائقة، فی حین کان محروماً من زخارف الدنیا وزبرجها، ولا یستطیع أحد أن یزعم أنّ اللّه أهان نبیّه، وعلیه نخلص إلی نتیجة مفادها أنّ الإمکانات المادیة والثروة لیست دلیلاً علی الشخصیة ولذلک خلص الإمام علیه السلام إلی هذه النتیجة:
«فَتَأَسَّی(6) مُتَأَسٍّ بِنَبِیِّهِ، وَاقْتَصَّ أَثَرَهُ، وَوَلَجَ مَوْلِجَهُ، وَإِلَّا فَلَا یَأْمَنِ الْهَلَکَةَ».
ص:182
ثم واصل علیه السلام حدیثه بالقول:
«فَإِنَّ اللّهَ جَعَلَ مُحَمَّداً - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - عَلَماً لِلسَّاعَةِ، وَمُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ. خَرَجَ مِنَ الدُّنْیَا خَمِیصاً، وَوَرَدَ الْآخِرَةَ سَلِیماً. لَمْ یَضَعْ حَجَراً عَلَی حَجَرٍ، حَتَّی مَضَی لِسَبِیلِهِ، وَأَجَابَ دَاعِیَ رَبِّهِ». إشارة إلی أنّ النبی صلی الله علیه و آله ورغم عظمته وکونه عَلماً للساعة وبصفته البشیر والنذیر فقد عاش تلک الحیاة البسیطة المتواضعة إلی درجة أنّه رحل عن الدنیا ولم یملأ بطنه أو یبنی له بیتاً مشیداً (طبعاً بنی النبی صلی الله علیه و آله حجرات لأزواجه عند المسجد من الطین وسعف النخیل والعبارة
«لَمْ یَضَعْ حَجَراً عَلَی حَجَرٍ» تشیر إلی بیوت الأثریاء الذین کانوا یبنون بیوتهم من الحجر).
وأخیراً خلص إلی هذه العبرة:
«فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللّهِ عِنْدَنَا حِینَ أَنْعَمَ عَلَیْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ، وَقَائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ!». أجل، فإحدی نعم اللّه العظمی علی البشر وجود هؤلاء الزعماء العظام الذین حفلت جمیع حرکاتهم وسکناتهم بالدروس والعبر، ولم تنتفع أیّة أمة کالمسلمین من النعمة الفضیلة، فالأُمم وإن کانت لها عظماء، إلّاأنّ نبی الإسلام صلی الله علیه و آله کان أعظم الجمیع، ولیت شعری أی کفران للنعمة أعظم من ضلالتنا وحیرتنا رغم نعمة اللّه علینا بهذا القائد العظیم. وأخیراً ولیثبت الإمام علیه السلام أنّه أول من یتمثل عملاً بما یقول وأنّه یحذو حذو رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقد قال:
«وَاللّهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ(1) مِدْرَعَتِی(2) هذِهِ حَتَّی اسْتَحْیَیْتُ مِنْ رَاقِعِهَا. وَلَقَدْ قَالَ لِی قَائِلٌ: أَلَا تَنْبِذُهَا عَنْکَ؟ فَقُلْتُ: اغْرُبْ(3) عَنِّی، فَعِنْدَ الصَّبَاحِ یَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَی!». یستفاد من هذه العبارة بوضوح أنّ الإمام علیه السلام کان یعطی ثوبه بین الحین والآخر لیرقعوه (وإن قام أحیاناً بهذا العمل شخصیاً) وقد کثرت رقعات ثوبه حتی شعر الإمام علیه السلام بالخجل من رقعه، مع ذلک لم یکن مستعداً لطرحه. شتان بین سیرة الإمام علیه السلام وبعض الأفراد الذین
ص:183
ینتقون ثیاب کل فصل وزمان ومکان بما یناسبه، فهناک ثوب لمجالس السرور وآخر لمجالس العزاء، وهکذا للسفر والحضر والنوم، بل الأسوأ من کل ذلک طرح بعض الملابس کونها لا تناسب الموضة. العبارة
«فَعِنْدَ الصَّبَاحِ یَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَی!»، مثل معروف عند العرب، معناه، أنّ من یصبر علی النوائب ویتحمل الشدائد حین یبلغ هدفه یُسرّ بصبره ویحمد اللّه ویحمده الآخرون أیضاً(1).
لعلنا نتعرف بصورة عمیقة علی حدیث النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال
«حُبُّ الدُّنیا رَأسُ کُلِّ خَطِیئَةٍ» کلما أمعنا النظر فی حجم الذنوب والمعاصی والنزاعات الاجتماعیة العنیفة وتأملنا الملفات الحقوقیة والجزائیة التی تضج بها المحاکم.
والجدیر بالذکر أنّ هذا الحدیث لم یقتصر علی النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بل أکده سائر الأئمّة المعصومین علیهم السلام کالإمام الصادق والإمام السجاد علیهما السلام إلی جانب تأکیده من الأنبیاء السابقین علیهم السلام(2).
ولو توقفنا قلیلاً وتأملنا لأمکننا ایجاز عمدة مظاهر حبّ الدنیا فی ثلاثة أشیاء هی: حبّ المال وحبّ الجاه وحبّ الشهوة. فلیس هنالک من حرب وقعت فی العالم ولا فساد انتشر فی صفوف المجتمع إلّاکان معلولاً لأحد هذه المحاور الثلاثة. وبناءً علی هذا فإن أردنا ممارسة عملیة الإصلاح فی المجتمعات الإسلامیة کان لابدّ لنا
ص:184
من مواجهة التعلق بالدنیا. ولعل هذا الموضوع یبدو بارزاً فی المجتمعات الفقیرة التی تنتقل فجأة إلی الغنی، کالمجتمع الإسلامی فی صدر الإسلام؛ ذلک أنّ الفقر کان قد عمّ المجتمع قبل بعثة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، إلّاأنّ الفتوحات وما انطوت علیها من غنائم بصورة مفاجئة قد غیرت الأوضاع فأخذ أصحاب الدنیا یتهافتون علی اللذات والغرق فی المعاصی. وعلیه فلا یبدو من المستغرب علی ذلک الإمام الهمام علی علیه السلام وبغیة تغییر تلک الأوضاع أن یورد تلک الخطبة ویکرسها لذم الدنیا ومن تعلق بها؛ فیأخذ بأیدی الناس ویغوص بهم فی أعماق تاریخ الأنبیاء الماضین ویکشف لهم عن عمق زهد النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وحیاته البسیطة المتواضعة بهدف إیقاظهم من غفلتهم وإعادتهم إلی المسار الصحیح.
علی سبیل المثال کان علی عهد عثمان - حین إزدادت الأموال فی بیت مال المسلمین وکان ینبغی أن تصرف فی العمران وبناء الدولة الإسلامیة وانقاذ المحرومین - أن سیطرت قرابته وبطانته علی الأموال، فجنی کل منهم ثروة عظیمة أفرد لها العلّامة الأمینی رحمه الله فی الجزء الثامن من الغدیر باباً أسماه (الکنوز المکنزة ببرکة الخلیفة) وقد عرض فیه بعض تلک الکنوز من مصادر العامة. وذکر بعض الأفراد من قبیل: مروان وطلحة والزبیر وسعد بن أبی وقاص ویعلی بن أمیة وعبدالرحمن بن عوف وزید بن ثابت وسائر الأفراد، وقد حصل کل منهم علی آلاف الدنانیر من بیت المال، حتی ذکر أنّ ورثة زید بن ثابت کانت تتقاسم ارثه من الذهب والفضة عن طریق کسرها بالفؤوس، کما ترک یعلی بن أمیة مبلغ خمسمائة ألف دینار إلی جانب المزارع والبساتین والدور والدیون التی له بذمة الناس والتی تبلغ مائة ألف دینار (کل دینار مثقال من الذهب المسکوک).
وأمّا عبدالرحمن بن عوف فقد ترک ألف ناقة وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس إلی جانب الأراضی الزراعیة، ومن أراد المزید فلیراجع الغدیر وما ذکره من مصادر
ص:185
وأرقام بهذا الشأن(1).
وعلی هذا الضوء ألا یتوجب علی زعیم عظیم کعلی علیه السلام أن یکون کالطبیب الحاذق فیشمِّر عن ساعدیه ویعالج ذلک المجتمع المریض بوباء حبّ الدنیا من خلال ذمها واستصغار شأنها؟ وعلیه ینتفی السؤال الذی یطرح نفسه أنّه لم عرض علی علیه السلام بکل هذا الذم للدنیا وهو إمام الإسلام هذا الدین الذی یعنی بالدنیا والآخرة والحضارة والمدنیة. والیوم أیضاً إن أردنا أن نحول دون هذه النزاعات الدامیة وسفک الدماء وتجار السلاح الذین یصدرون الموت والدمار للشعوب والوقوف بوجه مراکز الفساد والدعارة والانحراف، فلیس أمامنا من سبیل سوی تحقیر هذه الدنیا ومن تعلق بها واستصغارها حتی تصبح فضیحة لیقتنع الآخرون بالحیاة البسیطة المتواضعة علی حد الکفاف.
ونختتم الکلام بالحدیث الذی ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال
«جَعَلَ الخَیْرَ کُلُّهُ فِی بَیتٍ وَجَعَلَ مِفتَاحُهُ الزُّهدُ فِی الدُّنیا»(2).
ص:186
فِی صِفَةِ النَّبِیِّ وَأهْلِ بَیْتِهِ وأتْباعِ دِینِهِ وَفِیها یَعِظُ بِالتَّقْوی(1)
تشتمل هذه الخطبة علی ثلاثة أقسام، أشار فی المقطع الأول إلی بعثة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وصفاته الحمیدة وخصائص أهل بیته، ویذکر آثار دعوته فی إظهار الحق ودحر الباطل، ویخلص إلی نتیجة مفادها أنّ شقاء الدنیا والآخرة فی عدم الإیمان بالإسلام الحنیف.
وتطرق الإمام علیه السلام فی المقطع الثانی من الخطبة إلی التوکل علی اللّه وسؤاله الهدی. ثم اختتم الخطبة بدعوة الجمیع إلی الورع والتقوی وطاعة اللّه والحذر من التعلق بالدنیا بعبارات عظیمة المعانی إلی جانب ضرورة الاعتبار بالوقائع والأحداث التی یشهدها العالم.
ص:187
ص:188
ابْتَعَثَهُ بِالنُّورِ الْمُضِیءِ، وَالْبُرْهَانِ الْجَلِیِّ، وَالْمِنْهَاجِ الْبَادِی وَالْکِتَابِ الْهَادِی. أُسْرَتُهُ خَیْرُ أُسْرَةٍ، وَشَجَرَتُهُ خَیْرُ شَجَرَةٍ؛ أَغْصَانُهَا مُعْتَدِلَةٌ، وَثِمَارُهُا مُتَهَدِّلَةٌ. مَوْلِدُهُ بِمَکَّةَ، وَهِجْرَتُهُ بِطَیْبَةَ عَلَا بِهَا ذِکْرُهُ وَامْتَدَّ مِنْهَا صَوْتُهُ. أَرْسَلَهُ بِحُجَّةٍ کَافِیَةٍ، وَمَوْعِظَةٍ شَافِیَةٍ، وَدَعْوَةٍ مُتَلَافِیَةٍ. أَظْهَرَ بِهِ الشَّرَائِعَ الْمَجْهُولَةَ، وَقَمَعَ بِهِ الْبِدَعَ الْمَدْخُولَةَ، وَبَیَّنَ بِهِ الْأَحْکَامَ الْمَفْصُولَةَ.
«فَمَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الْإِسْلَامِ دِیناً» تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ، وَتَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ، وَتَعْظُمْ کَبْوَتُهُ، وَیَکُنْ مَآبُهُ إِلَی الْحُزْنِ الطَّوِیلِ وَالْعَذَابِ الْوَبِیلِ.
وَأَتَوَکَّلُ عَلَی اللّهِ تَوَکُّلَ الْإِنَابَةِ إِلَْیهِ. وَأَسْتَرْشِدُهُ السَّبِیلَ الْمُؤَدِّیَةَ إِلَی جَنَّتِهِ، الْقَاصِدَةَ إِلَی مَحَلِّ رَغْبَتِهِ.
استهل الإمام علیه السلام الخطبة بالحدیث عن خصائص النبی الأکرم صلی الله علیه و آله ورسالته فقال:
«ابْتَعَثَهُ بِالنُّورِ الْمُضِیءِ، وَالْبُرْهَانِ الْجَلِیِّ، وَالْمِنْهَاجِ الْبَادِی(1) وَالْکِتَابِ الْهَادِی».
المراد من النور المضیء نور نبوته صلی الله علیه و آله الذی أضاء کل شیء،
«وَالْبُرْهَانِ الْجَلِیِّ» إشارة إلی معجزاته الواضحة، کما تبیّن العبارة
«وَالْمِنْهَاجِ الْبَادِی» شریعته الغراء،
«وَالْکِتَابِ الْهَادِی» القرآن الذی یهدی عامة الخلق إلی اللّه حتی قیام الساعة. هذا
ص:189
وذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ العبارات الأربع المذکورة تشیر إلی القرآن الذی نظر إلیه الإمام علیه السلام من عدّة جوانب؛ إلّاأنّ الأنسب ما ذکرناه من أنّ کل عبارة تشیر إلی جانب معین؛ الأمر الذی استحسنه سائر الشرّاح. علی کل حال فإنّ کلام الإمام علیه السلام إشارة إلی أرکان الدعوة الکاملة الشاملة والتی تستند إلی نور الوحی، والتی بینت بمختلف المعجزات والأدلة والبراهین وکتاب الهدایة القرآنیة بأحکامه الجلیة الواضحة.
ثم خاض علیه السلام بثمان عبارات قصیرة فی التعریف بالنبی الأکرم صلی الله علیه و آله فقال:
«أُسْرَتُهُ خَیْرُ أُسْرَةٍ، وَشَجَرَتُهُ خَیْرُ شَجَرَةٍ؛ أَغْصَانُهَا مُعْتَدِلَةٌ، وَثِمَارُهُا مُتَهَدِّلَةٌ. مَوْلِدُهُ بِمَکَّةَ، وَهِجْرَتُهُ بِطَیْبَةَ(1) عَلَا بِهَا ذِکْرُهُ وَامْتَدَّ مِنْهَا صَوْتُهُ». متهدل، بمعنی متدلٍ وهنا تعنی الفاکهة القریبة من الجمیع. ولعل موفقیة الإنسان وسعادته تتحقق فی ظل أمور مختلفة ولکل من نجابة الأسرة وکرامة الحسب والنسب ورفعة شخصیة الأهل والقرابة وأهمیّة مسقط الرأس والبیئة والنشاط فی أجوائها، دور مهم فی تلک السعادة. ولو أمعنا النظر فی حیاة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله نجد أنّه صلی الله علیه و آله إلی جانب سمّوه الذاتی قد توفرت له سائر العوامل اللازمة للتوفیق والنجاح لیتمکن علی ضوئها من ممارسة دوره فی هدایة الناس، فنسبه الشریف یمتد إلی إبراهیم وولده إسماعیل علیهما السلام حیث ورث منهما الشجاعة والتضحیة. قبیلته بنی هاشم من أشرف القبائل العربیة. أبوه عبداللّه، وجدّه عبدالمطلب، وعمّه حمزة وأبوطالب، وابن عمّه علی وجعفر علیهما السلام، وبنته فاطمة الزهراء علیها السلام أم المعصومین علیهم السلام. وولادته فی مکة الحرم الإلهی الآمن، وهجرته إلی المدینة الطیبة مرکز الإیثار والفداء والتضحیة. ومن هناک وسع رقعة دعوته وأسمع صوته العالم بأسره، والأسرة من مادة أسر علی وزن عصر، بمعنی القوة والقدرة إشارة إلی أُسرة بنی هاشم وقرابة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله.
ص:190
وتشیر الشجرة إلی أصل هذه الأُسرة التی تنتمی إلی إبراهیم علیه السلام، والأغصان المعتدلة إشارة إلی فروعه کعبدالمطلب وأبی طالب وحمزة وجعفر وأمیرالمؤمنین علیه السلام وأئمّة الهدی علیهم السلام وهم بمثابة الفروع المتداخلة للشجرة فی فضلهم وعلمهم وکمالهم وعدم اختلافهم ومعارفهم التی یتغذی علی ثمارها جمیع الناس علی مرّ العصور والدهور.
ثم اتّجه الإمام علیه السلام صوب سیرته العملیة فقال:
«أَرْسَلَهُ بِحُجَّةٍ کَافِیَةٍ، وَمَوْعِظَةٍ شَافِیَةٍ، وَدَعْوَةٍ مُتَلَافِیَةٍ(1)». نعم، فقد کانت له مختلف الأدلة العقلیة والفطریة والمعاجز الحسیة، فیعالج أمراض الناس والمجتمعات بکلماته الحکیمة ویصلح الخراب الذی لحق بالناس إبان الجاهلیة فی کافة مجالاتهم الاجتماعیة. فقد اقترنت دعوة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بالدلیل والبرهان من حیث جذورها وانطلاقتها، کما تضمّنت علی مستوی المضمون الخطط العملیة الهادیة، وکل ذلک یقود إلی نتیجة مرجوة تتمثل فی إصلاح الفساد وإعادة بنیة الأصول الفکریة والأخلاقیة والاجتماعیة.
ثم خاض علیه السلام فی الأعمال المهمّة التی أتی بها رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال:
«أَظْهَرَ بِهِ الشَّرَائِعَ الْمَجْهُولَةَ، وَقَمَعَ بِهِ الْبِدَعَ الْمَدْخُولَةَ(2) ، وَبَیَّنَ بِهِ الْأَحْکَامَ الْمَفْصُولَةَ(3)».
فالواقع هو أنّ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله مارس ثلاثة أعمال مهمّة: أعلن العقائد الحقّة، وأزال البدع والخرافات، وبیّن الأحکام الشرعیة بوضوح لجمیع الناس، حصل کل منها بسعی متواصل وجهد عظیم. ثم خلص إلی هذه النتیجة التی صرّح بها القرآن الکریم: ««فَمَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الْإِسْلَامِ دِیناً»
تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ، وَتَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ، وَتَعْظُمْ کَبْوَتُهُ، وَیَکُنْ مَآبُهُ إِلَی الْحُزْنِ الطَّوِیلِ وَالْعَذَابِ الْوَبِیلِ». فمن الطبیعی أن لا تکون
ص:191
نتیجة مخالفة الدین الذی یتّسم داعیته بکل تلک المکارم ودینه الجامع والشامل، سوی الشقاء والضلال والهلکة. ویتضح من هذه العبارات مدی زیف الشعارات الجوفاء التی یرفعها البعض الیوم فی الأوساط الإسلامیة انفعالاً بکتّاب الغرب فیتبنون کفایة اعتناق أیٍّ من الأدیان؛ الأمر الذی لا ینسجم ومنطق القرآن ولا کلمات أئمّة الهدی کعلی علیه السلام.
وأخیراً یعرب الإمام علیه السلام عن توکله علی اللّه وإنابته إلیه فیقول:
«وَأَتَوَکَّلُ عَلَی اللّهِ تَوَکُّلَ الْإِنَابَةِ إِلَْیهِ. وَأَسْتَرْشِدُهُ السَّبِیلَ الْمُؤَدِّیَةَ إِلَی جَنَّتِهِ، الْقَاصِدَةَ إِلَی مَحَلِّ رَغْبَتِهِ». ربّما تکون هذه العبارة إشارة إلی أنّ أسباب سعادة البشریة توفرت ببیعة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله والدین العظیم الذی بعث به، ولم یبق لتحقیق هذه السعادة سوی أن نسیر علی الدرب وبالتوکل علی اللّه وطلب الهدایة منه والإرشاد إلی الحق. ومن هنا اختتم الإمام علیه السلام هذا الجانب من الخطبة بالتوکل علی اللّه واسترشده الطریق إلی الجنّة.
یبدو أنّ هذه العبارة المعروفة:
«اُنْظُرْ إِلی ما قَالَ وَلا تَنْظُرْ إِلی مَنْ قَالَ»(1) صادقة فی القضایا الواضحة والمنطقیة، أمّا فی القضایا المهمّة والمعقدة والمدارس الفکریة المطروحة فلابدّ من النظر والترکیز علی من قال، حتی یتسنی الوثوق به والتأسی بسیرته، ولذلک خاض القرآن فی أکثر من موقع فی خصائص النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فقال:
«لَقَدْ جَاءَکُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِکُمْ عَزِیزٌ عَلَیْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِیصٌ عَلَیْکُمْ بِالْمُؤْمِنِینَ رَءُوفٌ رَّحِیمٌ»(2) وقال فی موقع اخر: «الَّذِینَ یَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِیَّ الْأُمِّیَّ الَّذِی یَجِدُونَهُ مَکْتُوباً عِنْدَهُمْ فِی التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِیلِ یَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنکَرِ وَیُحِلُّ
ص:192
لَهُمُ الطَّیِّبَاتِ وَیُحَرِّمُ عَلَیْهِمْ الْخَبَائِثَ وَیَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِی کَانَتْ عَلَیْهِمْ فَالَّذِینَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِی أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(1). ومن هنا أشار الإمام علیه السلام فی بدایة الخطبة إلی شخصیة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله من حیث النسب والأُسرة والأصل وصفاته الکمالیة وأثنی علی شجرته وفروعها المثمرة، ثم تطرق إلی شریعته السمحاء من مختلف الجوانب لیلفت انتباه الآخرین إلی ضرورة الوثوق به ویقطع اعذار المغرضین.
ص:193
ص:194
أُوصِیکُمْ عِبَادَاللّهِ، بِتَقْوَی اللّهِ وَطَاعَتِهِ، فَإِنَّهَا النَّجَاةُ غَداً، وَالْمَنْجَاةُ أَبَداً. رَهَّبَ فَأَبْلَغَ، وَرَغَّبَ فَأَسْبَغَ؛ وَوَصَفَ لَکُمُ الدُّنْیَا وَانْقِطَاعَهَا، وَزَوَالَهَا وَانْتِقَالَهَا. فَأَعْرِضُوا عَمَّا یُعْجِبُکُمْ فِیهَا لِقِلَّةِ مَا یَصْحَبُکُمْ مِنْهَا. أَقْرَبُ دَارٍ مِنْ سَخَطِ اللّهِ، وَأَبْعَدُهَا مِنْ رِضْوَانِ اللّهِ! فَغُضُّوا عَنْکُمْ - عِبَادَاللّهِ - غُمُومَهَا وَأَشْغَالَهَا، لِمَا قَدْ أَیْقَنْتُمْ بِهِ مِنْ فِرَاقِهَا وَتَصَرُّفِ حَالَاتِهَا. فَاحْذَرُوهَا حَذَرَ الشَّفِیقِ النَّاصِحِ وَالْمُجِدِّ الْکَادِحِ. وَاعْتَبِرُوا بِمَا قَدْ رَأَیْتُمْ مِنْ مَصاَرِعِ الْقُرُونِ قَبْلَکُمْ: قَدْ تَزَایَلَتْ أَوْصَالُهُمْ، وَزَالَتْ أَبْصَارُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ، وَذَهَبَ شَرَفُهُمْ وَعِزُّهُمْ، وَانْقَطَعَ سُرُورُهُمْ وَنَعِیمُهُمْ؛ فَبُدِّلُوا بِقُرْبِ الْأَوْلَادِ فَقْدَهَا، وَبِصُحْبَةِ الْأَزْوَاجِ مُفَارَقَتَهَا. لَایَتَفَاخَرُونَ، وَلَا یَتَنَاسَلُونَ، وَلَا یَتَزَاوَرُونَ، وَلَا یَتَحَاوَرُونَ. فَاحْذَرُوا، عِبَادَاللّهِ، حَذَرَ الْغَالِبِ لِنَفْسِهِ، الْمَانِعِ لِشَهْوَتِهِ، النَّاظِرِ بِعَقْلِهِ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ وَاضِحٌ، وَالْعَلَمَ قَائِمٌ، وَالطَّرِیقَ جَدَدٌ وَالسَّبِیلَ قَصَدٌ.
خاض الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة باسداء النصح والموعظة التی توقظ الغافلین بعد أن أکد فی الموضع السابق علی تقویة روح الإیمان لدی المخاطبین لیؤکد هنا علی بعض الجوانب العلمیة، ذلک لأنّ عمل ثمرة الشجرة الإیمان فقال:
«أُوصِیکُمْ عِبَادَاللّهِ، بِتَقْوَی اللّهِ وَطَاعَتِهِ، فَإِنَّهَا النَّجَاةُ غَداً، وَالْمَنْجَاةُ(1) أَبَداً».
ص:195
ربّما أمکن عودة الطاعة والتقوی إلی مفهوم واحد، کما یمکن اعتبار التقوی أساس الطاعة، ذلک لأنّ طاعة اللّه إنّما تنبعث من التقوی والورع، کما یحتمل أن تکون التقوی إشارة إلی ترک الذنب، والطاعة إلی امتثال الأحکام الشرعیة، فهما لا یفترقان کیفما کان الأمر (ولعل ذلک هو سبب الإتیان بالضمیر مفرداً فی أنّها والحال، ینبغی أن یکون مرجع الضمیر مثنی). واطلاق النجاة علی التقوی من قبیل اطلاق المسبب علی السبب، لأنّ التقوی سبب النجاة فی الآخرة.
ثم قال:
«رَهَّبَ(1) فَأَبْلَغَ، وَرَغَّبَ فَأَسْبَغَ(2)». إننا لنعلم أنّ الضمان الفعلی لجمیع الأحکام الشرعیة هو البشارة والإنذار. وقد شحنت الکتب السماویة بالوعد والوعید والإنذار والبشارة ترغیباً للناس فی الطاعة وحیاشة لهم عن المعصیة. ولما کان التعلق بالدنیا والخداع بمظاهرها رأس المعاصی والذنوب فإنّ الإمام علیه السلام عاد لیؤکد هذا الأمر فقال:
«وَوَصَفَ لَکُمُ الدُّنْیَا وَانْقِطَاعَهَا، وَزَوَالَهَا وَانْتِقَالَهَا. فَأَعْرِضُوا عَمَّا یُعْجِبُکُمْ فِیهَا لِقِلَّةِ مَا یَصْحَبُکُمْ مِنْهَا». فالذی یستفاد من هذه العبارة القصیرة والعمیقة المعانی أنّ اللّه بیّن أربعة أمور بشأن الدنیا؛ الأول أصل الحیاة الدنیا وکما یبدو من أسمها حیاة دنیئة وتافهة لا قیمة لها، والثانی، أنّها لیست مستقرة وذات یوم یحل الموت بالإنسان ویقضی علی دنیاه، والثالث، ما أن ینغمس الإنسان فی متع الحیاة الدنیا حتی یشعر بزوالها التدریجی، حیث تأخذ قواه البدنیة بالضعف وتختل صحته ویثکل بفقد الأعزة والأصدقاء، الواحد تلو الآخر، وینظر إلیهم وهم یتوسدون التراب، والرابع، أنّ الدنیا دائمة الانتقال من قوم إلی قوم: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَیَاةُ الدُّنْیَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِینَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَیْنَکُمْ وَتَکَاثُرٌ فِی الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ کَمَثَلِ غَیْثٍ أَعْجَبَ الْکُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ یَهِیجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ یَکُونُ حُطَاماً وَفِی الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِیدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَیَاةُ الدُّنْیَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ»(3).
ص:196
فقد رسمت الآیة القرآنیة الشریفة صورة واضحة عن تفاهة الدنیا وانقطاع نعیمها وزوالها فی إطار واضح، کما ورد هذا الانتقال فی آیة أخری: «وَتِلْکَ الْأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیْنَ النَّاسِ»(1).
ثم قال مواصلاً وصف الدنیا:
«أَقْرَبُ دَارٍ مِنْ سَخَطِ اللّهِ، وَأَبْعَدُهَا مِنْ رِضْوَانِ اللّهِ!». ودلیل ذلک واضح هو أنّ الدنیا هوی وهوس یقذف بالإنسان فی مستنقع الذنب من کل جانب وهذا ما یوجب غضب اللّه وعدم رضاه. طبعاً، المراد من الدنیا هنا، الدنیا المادیة التی یجعلها الإنسان هدفاً ویعتمد کل الوسائل للحصول علیها وإن قارف الذنوب، وإلّا فالدنیا وسیلة علی الاقتدار للطاعة وشکر النعمة وبلوغ السعادة.
ثم خلص علیه السلام إلی هذه النتیجة:
«فَغُضُّوا(2) عَنْکُمْ - عِبَادَاللّهِ - غُمُومَهَا وَأَشْغَالَهَا، لِمَا قَدْ أَیْقَنْتُمْ بِهِ مِنْ فِرَاقِهَا وَتَصَرُّفِ حَالَاتِهَا. فَاحْذَرُوهَا حَذَرَ الشَّفِیقِ النَّاصِحِ وَالْمُجِدِّ الْکَادِحِ(3)». إشارة إلی تصاعد آلام الدنیا وتزاید همها، فکلما اقترب الإنسان منها زاد غناؤه حتی یسیطر الهم علی جمیع کیانه.
قال الإمام الباقر علیه السلام:
«مَثَلُ الحَرِیصِ عَلَی الدُّنیا مَثَلُ دُودَةِ القَزِّ کُلَّما إِزْدَادتْ مِنَ القُزِّ عَلَی نَفْسِها لَفاً کَانَ أَبْعَدُ لَها مِنَ الخُرُوجِ حَتّی تَمُوتَ غَمَّاً»(4). وقد تمثل الشاعر العربی فانشد(5).
أَلَمْ تَرَ أَنّ المَرءَ طُولَ حَیاتِهِ
حَرِیصٌ عَلی ما لایَزالُ یَنَاسِجُهُ
کَدُودٌ کَدُودِ القَزِّ یَنْسِجُ دائماً
فَیُهلَکُ غَمّاً وَسَطَ ما هُوَ ناسِجُ
ص:197
ثم أخذ الإمام علیه السلام بید مخاطبیه إلی العهود الماضیة لیشرح عاقبة الحیاة الدنیا لمن تعلق بها ضمن عشر عبارات قصیرة بما یهزّ ضمیر الإنسان فقال:
«وَاعْتَبِرُوا بِمَا قَدْ رَأَیْتُمْ مِنْ مَصاَرِعِ(1) الْقُرُونِ قَبْلَکُمْ: قَدْ تَزَایَلَتْ أَوْصَالُهُمْ(2) ، وَزَالَتْ أَبْصَارُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ، وَذَهَبَ شَرَفُهُمْ وَعِزُّهُمْ، وَانْقَطَعَ سُرُورُهُمْ وَنَعِیمُهُمْ».
وتشیر العبارة
«تَزَایَلَتْ أَوْصَالُهُم» إلی تآکل الجسد تحت التراب، کما یمکن أن تکون العبارة إشارة إلی تآکل الوشائج الاجتماعیة فی حیاة الإنسان والتی تزول بعد وفاة الإنسان، کما یمکن أن تکون الأسماع والأبصار إشارة إلی الأذن والعین الظاهریة لقدرة الرؤیة والسمع الحسی. ولا تزول حواس الإنسان الظاهریة وأعضائه البدنیة فحسب، بل تزول کل امتیازاته الاجتماعیة من قبیل الترف المادی والعزة وکافة النعم والمتع. ثم أشار علیه السلام إلی جانب آخر من النعم التی یفارقها الإنسان بالموت فقال:
«فَبُدِّلُوا بِقُرْبِ الْأَوْلَادِ فَقْدَهَا، وَبِصُحْبَةِ الْأَزْوَاجِ مُفَارَقَتَهَا. لَا یَتَفَاخَرُونَ، وَلَا یَتَنَاسَلُونَ، وَلَا یَتَزَاوَرُونَ، وَلَا یَتَحَاوَرُونَ».
بل وصفهم الشاعر(3):
وَحَلُّوا بِدارٍ لاتَزاوُرَ بَینَهُم
وَأنَّی لِسُکَانِ القُبُورِ التَّزاوُرُ
طبعاً هذا الکلام فی جسم الإنسان ولا مانع من اجتماع أرواح المؤمنین وتزاورها وتحاورها.
واختتم الإمام علیه السلام الخطبة محذراً الجمیع:
«فَاحْذَرُوا، عِبَادَ اللّهِ، حَذَرَ الْغَالِبِ لِنَفْسِهِ، الْمَانِعِ لِشَهْوَتِهِ، النَّاظِرِ بِعَقْلِهِ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ وَاضِحٌ، وَالْعَلَمَ قَائِمٌ، وَالطَّرِیقَ جَدَدٌ(4) وَالسَّبِیلَ قَصَدٌ». العبارة
«فَاحْذَرُوا... النَّاظِرِ بِعَقْلِهِ» إشارة إلی أنّ الإنسان یمکنه
ص:198
اجتیاز الأخطار الواردة فی العبارات السابقة للإمام من خلال: غلبته لنفسه لیتمکن بعد ذلک من کبح جماح شهواته ومن ثم النظر إلی الأمور ببصیرة العقل لا الشهوة المضلة، والعبارات الأربع الأخیرة فی الخطبة تشیر کل واحدة منها إلی قضیة مستقلة، قال فی الاولی: إنّ سبیل السعادة قد اتضح بواسطة القرآن وأولیاء اللّه وقد نصبت الأعلام الواضحة علی طول طریق السیر إلی اللّه، کما أنّ الجادة محکمة ومستویة وخالیة من العوائق والمطبات والانحراف، ولا یبقی شیء سوی العزم والإرادة للسالکین علی الدرب واجتیازه بصورة سریعة. وهنیئاً لأولئک الذین عزموا وساروا علی الدرب کما قال الشاعر:
فَطُوبَی لِعَبدٍ آثَرَ اللّهَ رَبَّهُ
وَجادَ بِدُنیاهُ لِما یَتَوَقَّعُ(1)
ص:199
ص:200
لِبَعْضِ أصْحَابِه وَقَد سَألَهُ: کَیْفَ دَفَعَکُمْ قَوْمُکُمْ عَنْ هذا المَقَامِ
وَأَنْتُمْ أحَقُّ بِهِ؟ فَقَالَ:(1)
کما ورد آنفاً فإنّ الإمام علیه السلام أورد هذا الکلام کجواب لأحد أصحابه وقد ساله عن کیفیة دفعه عن حقّه فی الولایة وجدارته بها. فأشار الإمام علیه السلام إلی أمرین تدور حولهما الخطبة:
الأول: أنّ السبب الرئیسی هو البخل والاستبداد والتعلق بالدنیا.
والثانی: الذی قال فیه إنّک إن تعجب من قضیة بدایة الخلافة، فانظر الیوم وقد تصدی معاویة وتبعه الناس، دون أدنی جدارة بهذا المنصب ولا یمکن المقارنة بینی وبینه.
ص:201
ص:202
فقال: یَا أَخَا بَنِی أَسَدٍ، إِنَّکَ لَقَلِقُ الْوَضِینِ تُرْسِلُ فِی غَیْرِ سَدَدٍ، وَلَکَ بَعْدُ ذِمَامَةُ الصِّهْرِ وَحَقُّ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدِ اسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ: أَمَّا الْإِسْتِبْدَادُ عَلَیْنَا بِهَذَا الْمَقَامِ وَنَحْنُ الْأَعْلَوْنَ نَسَباً، وَالْأَشَدُّونَ بِرَسُولِ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - نَوْطاً، فَإِنَّهَا کَانَتْ أَثَرَةً شَحَّتْ عَلَیْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِینَ؛ وَالْحَکَمُ اللّهُ، وَالْمَعْوَدُ إِلَیْهِ الْقِیَامَةُ.
وَدَعْ عَنْکَ نَهْباً صِیحَ فِی حَجَرَاتِهِ وَلکِنْ حَدِیثاً مَا حَدِیثُ الرَّوَاحِلِ
أورد الإمام علی علیه السلام هذا الکلام فی رده علی السائل الذی یبدو أنّه طرح السؤال فی موقع لم یکن مناسباً، مع ذلک أجاب علیه السلام عن السؤال فقال:
«یَا أَخَا بَنِی أَسَدٍ، إِنَّکَ لَقَلِقُ الْوَضِینِ تُرْسِلُ فِی غَیْرِ سَدَدٍ(1) ، وَلَکَ بَعْدُ ذِمَامَةُ(2) الصِّهْرِ وَحَقُّ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدِ اسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ». أمّا لماذا خاطبه الإمام علیه السلام
«یَا أَخَا بَنِی أَسَدٍ» وأشار ضمن کلامه بالقول لک علینا ذمامة الصهر؟ هناک خلاف بین شرّاح نهج البلاغة بهذا الشأن؛ فالبعض کابن أبی الحدید ومغنیة یقولان إنّ ذلک یعود إلی أنّ إحدی أزواج النبی الأکرم صلی الله علیه و آله زینب بنت جحش من طائفة بنی أسد(3). بینما یری البعض الآخر أنّ
ص:203
علیاً علیه السلام تزوج امرأة من بنی أسد، وإن لم تذکر کتب التاریخ ذلک، ولا مانع من الجمع بین الاحتمالین. العبارة
«لَقَلِقُ الْوَضِینِ» بالنظر إلی أنّ
(الوضین) بطان یشد به الرحل علی البعیر کالحزام للسرج، و
(قلق)، بمعنی الضعیف فإنّ من الطبیعی أن اضطرب ذلک الحزام تململ الجمل وتحرک هنا وهناک ومن هنا یطلق علی المضطرب: الوضین. والعبارة
«وَحَقُّ الْمَسْأَلَةِ» تعبیر حی رائع یفید أنّ لکل شخص الحق فی سؤال الإمام، کما یستفاد ضمنیاً التزام الإمام بالاجابة ما لم یکن هنالک محذور معیّن.
ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه السابق لیتطرق إلی الأسباب التی وقفت وراء دفعه عن حقّه فقال:
«أَمَّا الْإِسْتِبْدَادُ عَلَیْنَا بِهَذَا الْمَقَامِ وَنَحْنُ الْأَعْلَوْنَ نَسَباً، وَالْأَشَدُّونَ بِرَسُولِ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - نَوْطاً(1) ، فَإِنَّهَا کَانَتْ أَثَرَةً(2) شَحَّتْ(3) عَلَیْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وَسَخَتْ(4) عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِینَ؛ وَالْحَکَمُ اللّهُ، وَالْمَعْوَدُ(5) إِلَیْهِ الْقِیَامَةُ».
المراد من الإستبداد، من مادة
(بدد)، بمعنی الابعاد والتفریق، بحیث یستولی الإنسان علی شیء ویبعد الآخرین عنه. فقد عزی الإمام علیه السلام فی هذا الموضع من کلامه الدلیل الأصلی لغصب الخلافة رغم أولویته بها إلی الإستبداد والبخل الذی أعمی أعین البعض عن الواقع فسارع عزل الآخرین واعتلی موقع النبی الأکرم صلی الله علیه و آله.
من الواضح أنّ المراد من هؤلاء الأفراد أولئک الذین اجتمعوا فی سقیفة بنی ساعدة لاختیار الخلیفة، وإن دفع التعصب ابن أبی الحدید لینسب المقصود إلی الشوری
ص:204
التی نصبها عمر ومعارضة عبدالرحمن بن عوف لخلافة علی علیه السلام والذی یعد فی الواقع من قبیل انکار البدیهیات؛ ذلک لأنّ سؤال السائل کان بشأن أصل الخلافة بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله وجواب الإمام علیه السلام أیضاً عالج هذه القضیة والذی یشبه ما أورده الإمام علیه السلام بهذا الخصوص فی خطبة أخری. والمراد من العبارة
«وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِینَ» إننا بنی هاشم حین رأینا الإصرار العجیب لتلک الفئة علی مصادرة الخلافة ولا تعود المقاومة سوی إلی تصدع کیان المجتمع الإسلامی غضضنا الطرف عنها بکل سخاء ولم نمارس أیّة مقاومة.
ثم تمثل الإمام علیه السلام بذلک الشعر الذی ینسب إلی
امرؤ القیس الذی قال فیه دع عنک الحدیث بشأن الغارات التی وقعت فی الزمان الماضی وحدثنی عن غارات الیوم (حیث آلت فیه الخلافة الإسلامیة إلی معاویة الذی أصبح الخطر العظیم الذی یهدد الإسلام).
ودع عنک نهباً صیح فی حجراته(1) ولکن حدیثا ما حدیث الرواحل.
یذکر أنّ امرؤ القیس أنشد هذا البیت بعد قتل أبیه الذی لجأ إلی
خالد بن سدوس فهجمت علیه طائفة من قبیلة
بنی جدیلة ونهبوا الأموال والجمال. فأخبر
امرؤ القیس خالد الخبر فقال له: أعطنی جمالک حتی استعید تلک الجمال فقبل. فاتّجه
خالد إلی قبیلة
بنی جدیله فطالبهم باعادة الجمال. فأنزلوه من ناقته وأخذوا منه البقیة. فلما اطلع
امرؤ القیس علی هذا الخبر أنشد ذلک البیت، ومضمونه: دع عنک نهب تلک الجمال وحدثنی عن هذه التی سلمها
خالد لهذه القبیلة(2). ینطوی هذا القسم علی موضوعین مهمین سنتطرق إلیهما فی ختام الخطبة.
ص:205
ص:206
وَهَلُمَّ الْخَطْبَ فِی ابْنِ أَبِی سُفْیَانَ، فَلَقَدْ أَضْحَکَنِی الدَّهْرُ بَعْدَ إِبْکَائِهِ؛ وَلَا غَرْوَوَاللّهِ، فَیَا لَهُ خَطْباً یَسْتَفْرِغُ الْعَجَبَ، وَیُکْثِرُ الْأَوَدَ! حَاوَلَ الْقَوْمُ إِطْفَاءَ نُورِ اللّهِ مِنْ مِصْبَاحِهِ، وَسَدَّ فَوَّارِهِ مِنْ یَنْبُوعِهِ، وَجَدَحُوا بَیْنِی وَبَیْنَهُمْ شِرْباً وَبِیئاً، فَإِنْ تَرْتَفِعْ عَنَّا وَعَنْهُمْ مِحَنُ الْبَلْوَی، أَحْمِلْهُمْ مِنَ الْحَقِّ عَلَی مَحْضِهِ؛ وَإِنْ تَکُنِ الْأُخْرَی، «فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُکَ عَلَیْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللّهَ عَلِیمٌ بِمَا یَصْنَعُونَ».
هذا المقطع من الخطبة شرح لما ذکره الإمام علیه السلام علی نحو الإشارة فی البیت الذی تمثل به والذی أنشده امرؤ القیس، فقد صرح الإمام علیه السلام بترک الماضی رغم عیوبه وإشکالاته والنظر إلی الطامة التی تحدث الیوم:
«وَهَلُمَّ(1) الْخَطْبَ(2) فِی ابْنِ أَبِی سُفْیَانَ، فَلَقَدْ أَضْحَکَنِی الدَّهْرُ بَعْدَ إِبْکَائِهِ».
إنّک تسألنی لِمَ أبعدوک عن الخلافة بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حین لا یرقی إلیک أحد؟ تعال الیوم وانظر إلی ابن أبی سفیان عدو الإسلام اللدود الذی یطالبنی بالخلافة. یا له من أمر مبکٍ ومضحکٍ، أمّا أنّه مبکٍ فذلک لأنّ الإسلام بلغ مرحلة یرید فیها ابن أعدی أعداء الدین زعامة الدولة الإسلامیة والدفاع عن حمی الإسلام
ص:207
والمسلمین، وأمّا أنّه مضحک فذلک لأنّه لیست هنالک من نسبة للمقارنة بینی وبینه، ولذا لا یقاس معاویة أبداً بی بل أنا وهو طرفی التضاد، نعم ربّما لا یعود هذا البکاء والضحک لزمان واحد، فالبکاء لهضم حقوق الإسلام والمسلمین فی کیفیة رضاهم بحکومة بنی أمیة حثالة عصر الجاهلیة.
ثم قال علیه السلام
:«وَلَا غَرْوَ(1) وَاللّهِ، فَیَا لَهُ خَطْباً یَسْتَفْرِغُ(2) الْعَجَبَ، وَیُکْثِرُ الْأَوَدَ(3)!».
لعل صدر وذیل العبارة یبدو فی الوهلة الأُولی متناقضاً، إلّاأنّه فی الواقع نوع من البلاغة والفصاحة التی أوردها الشاعر حین أنشد:
قَدْ صِرْتُ فِی المَیدانِ یَوْمَ طِرادِهِمْ
فَعَجِبْتُ حَتّی کِدْتُ أَن لْاأَعْجبا(4)
أی، تعجبت إلی الحد الذی لم یبق لی من مجال للتعجب فقد وطأت المیدان فعجبت من الوضع إلی درجة أنّی کدت أن لا اتعجب، ولعل ذلک من باب المثل المعروف، «أنّ الشَّیءَ إِذا تَجاوَزَ حَدُّهُ انْقَلَبَ ضِدُّهُ». والعبارة
«وَیُکْثِرُ الْأَوَدَ!» إشارة إلی أنّ المجتمع الإسلامی بفعل حکومة یتزعمها ابن أبی سفیان سینحرف تماماً عن الصراط ویعیش الاعوجاج فی کل شیء.
ثم خاض الإمام علیه السلام فی تفاصیل هذا الأمر فقال:
«حَاوَلَ الْقَوْمُ إِطْفَاءَ نُورِ اللّهِ مِنْ مِصْبَاحِهِ، وَسَدَّ فَوَّارِهِ(5) مِنْ یَنْبُوعِهِ، وَجَدَحُوا(6) بَیْنِی وَبَیْنَهُمْ شِرْباً وَبِیئاً(7)». فالعبارة
«حَاوَلَ الْقَوْمُ...» إشارة إلی أنّ بنی أمیة لا یسعون إلی الحکومة وزعامة الأُمّة فحسب، بل هدفهم إطفاء نور الإسلام والقرآن، والهدف إعادة الأُمّة إلی الجاهلیة
ص:208
وعصرها المظلم وأعمالهم خیر شاهدة علی ذلک.
والعبارة
«وَسَدَّ فَوَّارِهِ...» بینت نفس المعنی بتعبیر آخر، حیث شبه الإسلام والقرآن بعین فیاضة انفجرت فی صحراء جاهلیة العرب وروت بمائها العذب ما تصحو من قلوبهم واثمرت تلک النبتة، ویسعی بنی أمیة لغلق هذه العین وسوق الأُمّة إلی تلک الصحراء.
والعبارة
«وَجَدَحُوا...» تعبیر رائع آخر للمعنی المذکور. فقد خلط هؤلاء القوم ماء الشریعة العذب الفرات بالسموم الفتاکة لیسمموا أفکار الأُمّة ویلوثوا أخلاقها، فمثل هذه الأُمّة لن تنقاد إلی بنی أمیة وآل أبی سفیان إن عاشت السلامة فی فکرها والطهر فی أخلاقها. نعم، فهؤلاء لم یسعوا لإطفاء نور الولایة فحسب، بل وعلی غرار المشرکین الذین قال فیهم القرآن: «یُرِیدُونَ لِیُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ»(1) سعوا إلی إطفاء نور الإسلام والقرآن والحیلولة دون نشر الإسلام والمعارف الدینیة وقد وضعوا العدید من الأحادیث لتلویث هذا الماء العذب.
ثم اختتم الإمام علیه السلام الخطبة بالإشارة إلی عزمه الذی اتخذه بهذا الشأن فقال:
«فَإِنْ تَرْتَفِعْ عَنَّا وَعَنْهُمْ مِحَنُ الْبَلْوَی، أَحْمِلْهُمْ مِنَ الْحَقِّ عَلَی مَحْضِهِ؛ وَإِنْ تَکُنِ الْأُخْرَی ، «فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُکَ عَلَیْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللّهَ عَلِیمٌ بِمَا یَصْنَعُونَ»». أی، إن زالت الموانع فإنّی علی استعداد تام لإعادة الأُمّة الإسلامیة إلی سابق عزّها علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسأبذل جهدی بهذا الخصوص، ولکن إن لم تسمح الظروف فلا إشکال، ذلک أنّی أعمل بوظیفتی وسیذوق هؤلاء وبال أعمالهم.
عادة ما یواجه الإنسان من حوله سیلاً من المجاهیل التی ترتبط أحیاناً بالأمور
ص:209
المادیة وأخری المعنویة وسؤال العلماء والمختصین، مفاتیح حل تلک المجاهیل.
ولذلک فتح اللّه تعالی علی الإنسان أبواب السؤال بشأن عالم التشریع والتکوین.
وتمتاز الشریعة الإسلامیة الغراء بأنّها لم تأذن بفتح باب السؤال لکل شخص وفی أی مجال فحسب، بل أمرت بذلک. القرآن الکریم من جانبه أکد علی هذا الأمر فی آیتین: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ»(1). کما قال أمیر المؤمنین علی علیه السلام فی بعض کلماته القصار فی نهج البلاغة:
«وَلا یَسْتَحْییَنَ أحدٌ إذا لَمْ یَعْلَمِ الشَّیءَ أَن یَتَعَلَّمَهُ»(2). نعم، فالسؤال لیس عیبا، بل العیب أن لا یسأل الإنسان ویبقی فی الجهل.
الجدیر بالذکر أنّ الخطبة المذکورة إشارة إلی أنّ السؤال حق لکل شخص، ویبدو هذا الأمر أکثر أهمیّة لدی الشباب وذلک لکثرة مجهولاتهم. فمن حیث التکوین والخلقة فإنّ اللّه خلق فی ذات الإنسان حبّ الاستطلاع والبحث. فالإنسان یمیل بطبعه لمعرفة الأشیاء التی لا یعلمها، وتبدو هذه الرغبة أعمق لدی الشباب، بسبب تلک الحاجة، فهم یطرحون أحیاناً علی الوالدین بعض الأسئلة التی تنتهی عادة بارتفاع أصواتهم، والحال، واجبهم یتطلب منهم تلبیة هذه الحاجة الروحیة بکل عطف ورقة، فیعلمونهم ما لا یعلمون وإن عجزوا عن الجواب أرشدوهم إلی من یجیبهم. والبعض یعتقد أنّ السؤال عن القضایا الأصولیة والعقائدیة من دواعی الکفر والإلحاد، بینما تسهم مثل هذه الأسئلة فی ترسیخ الإیمان وشد الجانب العقائدی لدی الإنسان. لا شک أنّ وظیفة العلماء تقتضی تأهبهم للاجابة عن الأسئلة فی کافة الظروف والتعامل مع السائل بکل أدب واحترام، ولا ینبغی لهم نسیان ضرورة قیامهم بهذا الدور، لما قاله أمیر المؤمنین علیه السلام:
«إنَّ اللّهَ یأخُذُ عَلَی الجُهَّالِ عَهداً بِطَلَبِ العِلْمِ حَتّی أَخَذَ عَلَی العُلمَاءِ عَهداً بِبَذْلِ العِلْمِ لِلجُهّالِ»(3).
ص:210
ونختتم البحث ببعض الأحادیث الواردة بهذا الشأن: أولاً: ما روی عن الإمام الصادق علیه السلام فی حثه أحد أصحابه وهو حمران بن أعین علی السؤال أنّه قال:
«إِنّما یَهْلِکُ النَّاسِ لأَنَّهُم لایَسأَلُونَ»(1).
وثانیاً: قال علی علیه السلام:
«القُلُوبُ أَقْفالٌ مَفاتِحُها السُّؤالُ»(2).
وثالثاً: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله:
«العِلْمُ خَزائِنُ وَمَفاتِیحُهُ السُّؤالُ فَاسْأَلُوا یَرْحَمُکُمُ اللّهُ فَإنَّهُ یُؤجَرُ فِیهِ أَربَعَةٌ: السَّائِلُ وَالمُعَلِّمُ وَالمُسْتَمِعُ وَالمُحِبُّ لَهُم»(3). التفت اعرأبی یوم الجمل إلی أمیر المؤمنین وقال: یا أمیر المؤمنین، تقول أنّ اللّه واحد؟ ما المراد بهذه الوحدة. فهجم علیه الناس من کل جانب وقالوا له ألا تری انشغال أمیر المؤمنین بالقتال؟ (فلکل حادث حدیث) فأشار علیهم الإمام علیه السلام دعوه فما یسأل عنه الأعرأبی هو ما نریده من القوم (إننا ندعوهم إلی التوحید والقتال لمعرفة هذه التعالیم المقدّسة) ثم قسم الإمام علیه السلام التوحید إلی أربعة أقسام اثنان مرفوضان واثنان مطلوبان(4).
مراد الرجل الاسدی من السؤال بشأن الخلافة واجابة الإمام علیه السلام واضحة تماماً أنّها بخصوص السقیفة وتغییر محور الخلافة عن أهل بیت النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بعد وفاته، إلّاأنّ تعصب ابن أبی الحدید لمذهبه جعله یفسر العبارة ومرادها علی أساس احتمال ضعیف من قبیل أنّ المراد معارضة عبدالرحمن بن عوف لخلافة علی علیه السلام ودفعها لعثمان. والغریب فی الأمر أنّ ابن أبی الحدید نقل هنا قصة عن
ص:211
استاذه أبی جعفر النقیب تؤید تماماً ما قلناه، وهی منطقیة تماماً، مع ذلک لم یستطع هذا الرجل المفکر ابن أبی الحدید من التسامی علی بعض تعصبه، إذ یروی عن أستاذه الذی یصفه بأنّه رجل منصف علوی المذهب وله حظ وافر من العقل أنّه یسأله ماذا عنی ذلک السائل بسؤاله الإمام علی علیه السلام عمن أبعدوه عن حقّه؟ أکان مراده یوم السقیفة أم یوم الشوری؟ أجاب: السقیفة. قلت: لا أجیز لنفسی أن أقول إنّ أصحاب النبی الأکرم صلی الله علیه و آله خالفوه ولم یلتزموا بمعتی الخلافة. قال: إنا أیضاً لا أجیز لنفسی أن أنسب إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه أهمل أمر الخلافة والإمامة من بعده وترک الأُمّة دون إمام، فقد کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله ینصب من یقوم مقامه إن سافر إلی المدینة، فکیف لا ینصب شخصاً للخلافة بعد وفاته وأضاف الأستاذ أنّ الجمیع یعتقدون أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان قمة الکمال العقلی، کما یعتقد الیهود والنصاری والفلاسفة والحکماء أنّه رجل حکیم وله نظرة صائبة وقد أتی بقوانین منطقیة وعقلیة، وبغض النظر عن مقام النبوّة فإنّ تعالیمه تستند إلی الوحی، وهذا الإنسان کان عارفاً بالعرب ویعرف طباعهم وأحقادهم وإن قُتل شخص لقبیلة ثأروا له، فإن عجزوا فمن أهله وقرابته، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان یحب بنته فاطمة وولدیها الحسن والحسین وبعلها علیاً علیهم السلام، ولا شک فی أنّه لو لم یستند إلی الوحی فلن یترکهم دون إمام، أتظن أنّه أراد أن تکون إحدی ضعفاء المدینة. وفی وسط قومٍ أراق علی علیه السلام دماء قرابتهم، والواقع هو أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله سفک دماءَهم لا علی علیه السلام.
خلاصة القول أنّ هذا الرجل العاقل کان لابدّ له من تنصیب أحد للخلافة من أهل بیته لکی لا تموت رسالته. قال: فقلت له: هذا صحیح، لکن کلام الإمام علیه السلام لا یدل علی النص فی الخلافة، أجاب: صحیح، إلّاأنّ السائل لم یسأل عن النص فی الخلافة بل سأل کیف دفعکم قومکم عن هذا المقام وأنتم الأعلی نسباً وقرابة من النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فأجابه الإمام علیه السلام عن هذا السؤال(1).
ص:212
یستفاد من عبارات الإمام علیه السلام فی الخطبة المذکورة ولاسیما قوله:
«حَاوَلَ الْقَوْمُ إِطْفَاءَ نُورِ اللّهِ مِنْ مِصْبَاحِهِ...» أنّ هدف بنی أمیة لم یقتصر علی الإستیلاء علی الخلافة الإسلامیة فحسب، بل إنّهم سعوا جاهدین لمحو آثار الإسلام، کونهم حثالی عصر الجاهلیة، ولولا تضحیات تلک الثلة المخلصة فی کربلاء والتی کشفت عن کوامن بنی أمیة لما بقی الیوم من الإسلام إلّااسمه، والشواهد التاریخیة علی ذلک کثیرة منها:
1. إنّ المؤرخ المعروف المسعودی قد روی فی کتابه (مروج الذهب) قصة عن المأمون، الخلیفة العباسی أنّه أصدر أمراً سنة 212 ه وبعث بمنادٍ ینادی أن لیس لأحد أن یذکر معاویة بخیر أو یقدمه علی أیٍّ من صحابة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وحین حاول البعض معرفة دافع المأمون، اتضح أنّ السبب ما ذکره له ابن المغیرة بن شعبة، قال: دخلت الشام مع أبی وکان کل یوم یقصد معاویة ویمدحه حتی رجع یوماً حزیناً فسألته الخبر. قال: رجعت من أخبث الناس. قلت: لم؟ قال: کنت عند معاویة فأشرت علیه بالعدل والخیر تجاه بنی هاشم وصلة الرحم فقال غاضباً: - هَیهاتَ هَیهاتَ أخو تیم (أبو بکر) ولّی الخلافة وفعل ما فعل، فلما مات انقطع ذکره، ثم ولاها أخو عدی (عمر) فلما مات انقطع ذکره، وکذلک عثمان إلّاأخو هاشم ینادی باسمه کل یوم خمس مرات
«أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه» فما الذی یبقی لنا ثکلتک أُمّک.
ثم قال:
«وَاللّهِ إلَّادَفناً دَفناً»(1). فلما سمع المأمون ذلک أصدر أمره المذکور بحق معاویة(2) فهذا الخبر الذی تناقلته کتب التاریخ یکشف الکثیر من الأمور ویتضمن
ص:213
الأجوبة عن الکثیر من الأسئلة التی تطرح بشأن مؤامرات بنی أمیة.
والشاهد الآخر علی ما ذکرناه الشعر الذی تمثل به یزید بن معاویة حین سمع بمصرع الحسین فأنشد:
لَعِبَتْ هاشِمُ بِالمُلکِ فَلا
خَبَرٌ جاءَ وَلْا وَحیٌ نَزَلْ
ولا غرو فهو ابن معاویة بن أبی سفیان. قال الطبری: حین وُلّی عثمان الخلافة خاطب أبوسفیان بنی أمیة: هل فیکم غیرکم؟ قالوا: لا، قال:
«تَلَقَّفُوها تَلَقُّفَ الکُرَةِ فَما هُناکَ جَنَّةٌ وَلا نارٌ»(1).
وروی المسعودی (فی مروج الذهب) أنّه قال
«یا بَنِی أُمیَّةَ تَلَقَّفُوها تَلَقُّفَ الکُرَةِ فَوالَّذی یَحْلِفُ بِهِ أَبُوسُفیانَ ما زِلْتُ أَرجُوها لَکُم وَلَتَصِیرَنَّ إِلی صِبیانِکُم وراثَةً»(2).
کما روی هذا المعنی ابن عبدالبر فی الاستیعاب، وقال: کان هذا فی مجلس عثمان، فلما سمع انکاره للجنّة والنّار قال:
«قُم وانصرف عنّی»(3).
ص:214
إنّها خطبة بلیغة وفصیحة تتکون من قسمین:
القسم الأول: یتحدث عن صفات اللّه الجمالیة والجلالیة، وقد شرح الإمام علیه السلام تسع عشرة صفة من صفات اللّه بعبارات غایة فی الروعة حسبما ذکره المرحوم المحقق البحرانی.
أمّا القسم الثانی: فخاطب فیه الإمام علیه السلام الإنسان وقد بین آیات القدرة الإلهیة فی خلقه رغم ضعفه وعجزه، لیربط صدر الخطبة بذیلها ویرسم صورة جمیلة عن توحید اللّه ومعرفته.
ص:215
ص:216
الْحَمْدُللّهِِ خَالِقِ الْعِبَادِ، وَسَاطِحِ الْمِهَادِ، وَمُسِیلِ الْوِهادِ، وَمُخْصِبِ النِّجَادِ. لَیْسَ لِأَوَّلِیَّتِهِ ابْتِدَاءٌ، وَلَا لِأَزَلِیَّتِهِ انْقِضَاءٌ. هُوَ الْأَوَّلُ وَلَمْ یَزَلْ، وَالْبَاقِی بِلَا أَجَلٍ. خَرَّتْ لَهُ الْجِبَاهُ، وَوَحَّدَتْهُ الشِّفَاهُ. حَدَّ الْأَشْیَاءَ عِنْدَ خَلْقِهِ لَهَا إِبَانَةً لَهُ مِنْ شَبَهِهَا. لَاتُقَدِّرُهُ الْأَوْهَامُ بِالْحُدُودِ وَالْحَرَکَاتِ، وَلَا بِالْجَوَارِحِ وَالْاَدَوَاتِ. لَایُقَالُ لَهُ: «مَتَی؟» وَلَا یُضْرَبُ لَهُ أَمَدٌ «بِحَتَّی». الظَّاهِرُ لَایُقَالُ: «مِمَّ؟» وَالْبَاطِنُ لَایُقَالُ: «فِیمَ؟» لَاشَبَحٌ فَیُتَقَصَّی، وَلَا مَحْجُوبٌ فَیُحْوَی. لَمْ یَقْرُبْ مِنَ الْأَشْیَاءِ بِالْتِصَاقٍ، وَلَمْ یَبْعُدْ عَنْهَا بِافْتِرَاقٍ، وَلَا یَخْفَی عَلَیْهِ مِنْ عِبَادِهِ شُخُوصُ لَحْظَةٍ، وَلَا کُرُورُ لَفْظَةٍ، وَلَا ازْدِلَافُ رَبْوَةٍ، وَلَا انْبِسَاطُ خُطْوَةٍ، فِی لَیْلٍ دَاجٍ، وَلَا غَسَقٍ سَاجٍ، یَتَفَیَّأُ عَلَیْهِ الْقَمَرُ الْمُنِیرُ، وَتَعْقُبُهُ الشَّمْسُ ذَاتُ النُّورِ فِی الْأُفُولِ وَالْکُرُورِ، وَتَقَلُّبِ الْأَزْمِنَةِ وَالدُّهُورِ، مِنْ إِقْبَالِ لَیْلٍ مُقْبِلٍ، وَإِدْبَارِ نَهَارٍ مُدْبِرٍ. قَبْلَ کُلِّ غَایَةٍ وَمُدَّةٍ، وَکُلِّ إِحْصَاءٍ وَعِدَّةٍ، تَعَالَی عَمَّا یَنْحَلُهُ الْمُحَدِّدُونَ مِنْ صِفَاتِ الْأَقْدَارِ، وَنِهَایَاتِ الْأَقْطَارِ، وَتَأَثُّلِ الْمَسَاکِنِ، وَتَمَکُّنِ الْأَمَاکِنِ. فَالْحَدُّ لِخَلْقِهِ مَضْرُوبٌ، وَإِلَی غَیْرِهِ مَنْسُوبٌ.
یبیّن المقطع الأول من الخطبة کما ذکرنا جانباً من صفات اللّه، والمهم أنّه یستهل الخطبة بصفات الأفعال، یعنی خلق عالم الوجود وما ینطوی علیه من عجائب
ص:217
وغرائب، ذلک لأنّ هذه الصفات تدرک من قبل الجمیع، حیث قال:
«الْحَمْدُللّهِِ خَالِقِ الْعِبَادِ، وَسَاطِحِ(1) الْمِهَادِ(2) ، وَمُسِیلِ الْوِهادِ(3) ، وَمُخْصِبِ(4) النِّجَادِ(5)». فقد أشار الإمام علیه السلام بادیء الأمر إلی خلق الناس بصفته، أروع خلق اللّه، ثم أشار إلی ثلاثة محاور مهمة (موضع السکن والماء، مادة الحیاة، والمواد الغذائیة) لیثیر لدی الآخرین الشعور بالإمتنان والشکر ویعدّهم للتعرف علی صفات اللّه الجمالیة والجلالیة.
(والعباد) الواردة بقرینة العبارات القادمة تعود إلی الناس وأن تشمل أحیاناً الملائکة والجن. وتشیر
«وَسَاطِحِ الْمِهَادِ» إلی ما ورد فی الآیة الشریفة: «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً»(6). والعبارة
«وَمُسِیلِ الْوِهادِ» بالنظر إلی أنّ الوهاد تعنی الودیان والمنخفضات إشارة إلی أنّ اللّه تعالی جعل بعض مناطق الأرض منخفضة لتتخلها المیاه دون غیرها. والعبارة
«وَمُخْصِبِ النِّجَادِ» إشارة إلی قدرة اللّه فی إحیاء الأراضی المرتفعة بالنباتات رغم عدم وصول المیاه إلیها.
ثم خاض الإمام علیه السلام فی جانب مهم من صفاته تعالی الأزلیة والأبدیة وواجب الوجود فقال:
«لَیْسَ لِأَوَّلِیَّتِهِ ابْتِدَاءٌ، وَلَا لِأَزَلِیَّتِهِ انْقِضَاءٌ. هُوَ الْأَوَّلُ وَلَمْ یَزَلْ، وَالْبَاقِی بِلَا أَجَلٍ». أثبتت الأدلة العقلیة أنّ اللّه واجب الوجود لیس له بدایة ولا نهایة، کان دائماً ولا یزال، فوجوده عین ذاته وذاته مطلقة، وعلیه فالعبارة
«هُوَ الْأَوَّلُ...
وَالْبَاقِی...» نتیجة للعبارة
««لَیْسَ لِأَوَّلِیَّتِهِ... وَلَا لِأَزَلِیَّتِهِ...» لأنّه حین لا تکون لأزلیته وأبدیته بدایة ولا نهایة، فهو الأول والآخر، وهاتان الصفتان فی الواقع أساس أغلب صفات اللّه، وصفاته الجمالیة والجلالیة إنّما تعود إلی هاتین الصفتین.
ص:218
قال القرآن الکریم: «هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ»(1).
ثم قال علیه السلام:
«خَرَّتْ لَهُ الْجِبَاهُ، وَوَحَّدَتْهُ الشِّفَاهُ». ومن المسلَّم به أنّ خالق جمیع الأشیاء والمخلوقات والنعم والذی یستمد الوجود بأسره، الوجود منه فهو أهلٌ للعبادة والسجود والحمد ولیس لأحد غیره هذا المقام. وبالطبع فإنّ ذلک السجود والحمد یختص بالعارفین باللّه لا الکفّار والمشرکین الذین لا یستحقون الذکر.
ثم واصل کلامه بالإشارة إلی بعض الصفات السلبیة المنزهة من کل نقص فقال:
«حَدَّ الْأَشْیَاءَ عِنْدَ خَلْقِهِ لَهَا إِبَانَةً لَهُ مِنْ شَبَهِهَا». إشارة إلی أنّ جمیع المخلوقات محدودة وذاته المقدّسة فقط لا تعرف الحدود، ومن هنا لیست هنالک من صعوبة فی تمییز الخالق من المخلوق والإبتعاد عن السقوط فی مستنقع الشرک. وهنا یرد هذا السؤال: أفیمکن أن یخلق اللّه شیئاً غیر محدود أو بعبارة أخری، واجب الوجود؟ أنّ ذات کل مخلوق تقتضی کونه محدوداً، ومن هنا کیف یقال إنّ اللّه خلق الأشیاء المحدودة حتی لا تشبه ذاته؟
والجواب عن هذا السؤال: إنّ المراد من
«حَدَّ الْأَشْیَاءَ عِنْدَ خَلْقِهِ لَهَا...» تمییزه عن المخلوقات؛ بعبارة أخری، فإنّ
«إِبَانَةً لَهُ» لیست مفعولاً لأجله، بل نتیجته وغایة الفعل. والمسألة الأخری الجدیرة بالإلتفات أنّ أغلب نسخ نهج البلاغة نقلت العبارة
«ابانة لها» وفی هذه الحالة لا یرد أی غموض وإبهام؛ حیث مفهوم العبارة أنّ اللّه حدّ الأشیاء عند خلقها أی جعل لکل موجود حدود معینة تمیزه من الأخری، من قبیل ما ورد فی الآیة 13 من سورة الحجرات: «یَا أَیُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاکُمْ مِّنْ ذَکَرٍ وَأُنثَی وَجَعَلْنَاکُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا»(2).
ثم أسهب علیه السلام فی شرح مطلقیة ذات اللّه المقدّسة لیکشف عمق هذه الحقیقة
ص:219
بعبارات مختلفة تسلط الضوء علی کل جوانب غناه عن الحدود فقال:
«لَا تُقَدِّرُهُ الْأَوْهَامُ بِالْحُدُودِ وَالْحَرَکَاتِ، وَلَا بِالْجَوَارِحِ وَالْاَدَوَاتِ». لیست له أعضاء کأعضاء الأنسان ولا یعتمد الوسائل والأدوات لتحقیق مایشاء، کما لا یحتاج الحرکة والإنتقال من مکان إلی آخر، ذلک لأنّ کل هذه الأمور من علامات المحدودیة ولا تعرف ذاته الطاهرة أیة حدود وقیود، ومن هنا تعذر علی سکان العالم المحدود المعروف بالنقص والحاجة، الوقوف علی کنه تلک الذات المقدّسة، فقد ورد عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال:
«کُلُّ ما مَیَّزْتُمُوهُ بِأَوهامِکُم فِی أَدْقِ مَعانِیهِ مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ مِثْلُکُم مَرْدُودٌ إِلَیکُم»(1).
ثم وضح ماقاله سابقاً:
«لَا یُقَالُ لَهُ: «مَتَی؟» وَلَا یُضْرَبُ لَهُ أَمَدٌ «بِحَتَّی». الظَّاهِرُ لَا یُقَالُ: «مِمَّ؟» وَالْبَاطِنُ لَایُقَالُ: «فِیمَ؟»» وعلی هذا الضوء لیست له من بدایة ولا نهایة، لا ظاهر کظهور الشمس والقمر، ولا باطن کالمعادن الخفیة فی باطن الأرض، وفی ذات الوقت فذاته أظهر من کل شیء وأخفی من کل شیء، بعبارة أخری، فإنّ ظهوره ظهور ذاتی وخفاءَه من کنه ذاته.
ثم خاض علیه السلام بصورة أعمق لیقول:
«لَا شَبَحٌ(2) فَیُتَقَصَّی(3) ، وَلَا مَحْجُوبٌ فَیُحْوَی(4).
لَمْ یَقْرُبْ مِنَ الْأَشْیَاءِ بِالْتِصَاقٍ، وَلَمْ یَبْعُدْ عَنْهَا بِافْتِرَاقٍ». فقد نفی الإمام علیه السلام فی هذه العبارات بادیء الأمر، الجسمیة عن اللّه، ذلک لأنّ الجسم إمّا ظاهر له حدّ وحدود أو مخفی ومحتجب فی شیء آخر وله حدّ وحدود فی کلا الحالتین، والحال لیس لواجب الوجود من حدود، کما یلاحظ فی العبارتین الأخیرتین تجلی آخر لغنی الذات المقدّسة عن الحدود. فهو أقرب لکل شیء، لکن لیس بمعنی الإلتصاق أو الحلول والإتحاد، بل بمعنی الحضور فی کل مکان والاحاطة بکل شیء، کما هو
ص:220
بعید عن کل شیء لیس بمعنی المسافة والانفصال عن الأشیاء، بل بمعنی سمو ورفعة وجوده وصفاته بالنسبة لسائر الأشیاء. وهذا یشبه ما ورد فی الخطبة الأُولی من نهج البلاغة:
«مَعَ کُلِّ شَیءٍ لْابِمُقارِنَةٍ وَغَیْرُ کُلِّ شَیءٍ لْابِمُزایَلَةٍ». لا شک أنّه یستحیل جمع هذه الصفات فی الممکنات؛ ذلک أنّ الشیء إن بعد فلا یسعه الاقتراب، وإن اقترب فلا یمکنه الإبتعاد، ولکن لیس هنالک من معنی لتضاد القرب والبعد وأمثال ذلک فی ذات واجب الوجود المطلق.
ثم تطرق علیه السلام إلی موضوع علم اللّه تعالی بکل شیء وفی کل زمان ومکان من خلال عبارات رائعة عمیقة المعنی فقال:
«وَلَا یَخْفَی عَلَیْهِ مِنْ عِبَادِهِ شُخُوصُ(1) لَحْظَةٍ، وَلَا کُرُورُ لَفْظَةٍ، وَلَا ازْدِلَافُ(2) رَبْوَةٍ(3) ، وَلَا انْبِسَاطُ خُطْوَةٍ، فِی لَیْلٍ دَاجٍ(4) ، وَلَا غَسَقٍ(5) سَاجٍ(6)». فالإمام علیه السلام بغیة تشخیص عدم خروج أخفی الأشیاء عن علم اللّه یفترض مسافراً مرّ فی لیلة ظلماء بصحراء وقد صوب بصره إلی الصحراء وینبس ببعض الکلمات، یقترب من التلال والمرتفعات ویتسلقها بسرعة لیبلغ غایته وهو یشق طریقه فی تلک الظلمة المعتمة، فاللّه تعالی الذی لا یخفی علیه شیء من حرکات عیون وشفاه وأقدام هذا المسافر لهو أعلم بأعمال عباده وهم یأتون بها فی وضح النهار وفی المدن والبلدان.
ثم قال فی وصف هذه الیلة الظلماء:
«یَتَفَیَّأُ(7) عَلَیْهِ الْقَمَرُ الْمُنِیرُ، وَتَعْقُبُهُ الشَّمْسُ ذَاتُ النُّورِ فِی الْأُفُولِ وَالْکُرُورِ(8)». إشارة إلی أنّ علم اللّه بالموجودات وأعمال
ص:221
الإنسان لا یقتصر علی الیالی المظلمة، بل یشمل الیالی المقمرة والنهار الواضح، بالتالی لیس هنالک من مکان خارج عن علم اللّه کالذی ورد فی ما بعد:
«عِلْمُهُ بِما فِی السَّماواتِ العُلی کَعِلْمِهِ بِما فِی الأرضِینَ السُّفلَی».
ثم قال مواصلاً کلامه:
«وَتَقَلُّبِ الْأَزْمِنَةِ وَالدُّهُورِ، مِنْ إِقْبَالِ لَیْلٍ مُقْبِلٍ، وَإِدْبَارِ نَهَارٍ مُدْبِرٍ». هذه العبارة کتلک التی وردت فی العبارات القادمة:
«عِلْمُهُ بِالأمواتِ الماضِینَ کَعِلْمِهِ بِالأَحیاءِ الباقِینَ» وکل هذه العبارات تشیر إلی سعة علم اللّه الذی لا یحدّه الزمان والمکان. وهنا یرد هذا السؤال: لماذا استند إلی إقبال اللیل والنهار مع أنّ لکل من اللیل والنهار إقبال وإدبار؟ لعل هذه العبارة تأکید لما مرّ فی العبارات السابقة بشأن نفوذ علم اللّه إلی أعماق الظلمات ولیس فقط وضح النهار. وذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أن ترکیز الإمام علی إقبال اللیل وإدبار النهار ربّما إشارة إلی أنّ أمور الدنیا غالباً ما تجری علی خلاف رغبة الإنسان(1).
ثم قال علیه السلام:
«قَبْلَ کُلِّ غَایَةٍ وَمُدَّةٍ، وَکُلِّ إِحْصَاءٍ وَعِدَّةٍ». الواقع أنّ العبار
(لا یخفی علیه من عباده...) التی تحدّث فیها عن علم اللّه بالزمان والمکان وکل إنسان وشیء تشمل هذا المعنی أیضاً أنّه علیم بنهایة عمر کل إنسان وکل موجود قبل أن ینتهی عمره کما یعلم عدد الموجودات قبل أن تعد وتحصی(2).
ثم قال فی نتیجة کلیة:
«تَعَالَی عَمَّا یَنْحَلُهُ الْمُحَدِّدُونَ مِنْ صِفَاتِ الْأَقْدَارِ، وَنِهَایَاتِ الْأَقْطَارِ، وَتَأَثُّلِ(3) الْمَسَاکِنِ، وَتَمَکُّنِ الْأَمَاکِنِ». نعم؛ فکل طائفة ضالة
ص:222
تفتقر إلی المعرفة من قبیل المشبِّهة والمجسِّمة إنّما شبهت اللّه بمخلوقاته وجعلت له جسماً وأعضاءاً، وأنّ له مکان وینتقل من مکان إلی آخر فیحضر هنا ویغیب هناک، والحال أنّه لأرفع من الزمان والمکان والقیاس والوهم؛ أرفع ممّا نری ونقرأ ونکتب، فلیس له جسم ولا مکان ولا صفة من صفات المخلوقات. والعبارة المذکورة إشارة إلی أربعة أنواع من الحدود یتنزه اللّه عنها جمیعا: الحدود من حیث القامة کالصغر والکبر ومن حیث النهایة کمقدار العمر ومن حیث اختیار السکن وأخیراً من حیث المکان. فهو وجود مطلق لا متناهٍ غنی عن أی من الحدود، ذلک لأنّ کل هذه الأمور من صفات المخلوقات. ومن هنا اختتم الخطبة بالقول:
«فَالْحَدُّ لِخَلْقِهِ مَضْرُوبٌ، وَإِلَی غَیْرِهِ مَنْسُوبٌ». فهذه العبارة هی عصارة الأبحاث السابقة فی أنّ کل محدودیة هی إنّما تعودالمخلوقات ومن شأن الممکنات، ولیس لهذه الصفة من سبیل إلی ذاته المطلقة.
إنّ أول وأهم مطلب ینبغی إثباته فی باب صفات اللّه لیتضح مفهوم التوحید وکذلک سائر الصفات کالعلم والقدرة وماشابه ذلک یتمثل فی کون ذاته مطلقة لا متناهیة، وذلک لأنّه إن ثبت هذا المطلب فقد تمهد السبیل أمام إدراک جمیع صفاته الجمالیة والجلالیة (الصفات الثبوتیة والسلبیة). ولإثبات ذلک لابدّ من الألتفات إلی الأمور التالیة:
1. إنّ محدودیة الوجود تعنی طروء العدم، ذلک لأنّه إن لم یرد العدم فلا معنی للحدود. فلو قلنا إنّ عمر فلان محدود، فذلک یعنی أنّ عمره سینتهی یوما إلی العدم، وهکذا بشأن العلم والقدرة وماشابه ذلک.
2. إنّ الوجود ضد العدم فإن اقتضی شیء بذاته الوجود فلا یمکنه اقتضاء العدم.
3. ثبت فی برهان العلة والمعلول أنّ سلسلة العلة والمعلول لهذا العالم یجب أن
ص:223
تنتهی إلی نقطة ثابتة وأزلیة یصطلح علیها (واجب الوجود) أی أنّ وجوده من ذاته لا من خارجها، وعلیه فإنّ العلة الاُولی للعالم تقتضی الوجود بذاتها فهی لا تمتزج بالعدم. وعلی ضوء هذه المقدمات الثلاث یتضح أن طرأت حدود علی الذات الواجبة الوجود فلابدّ أن تکون من خارجها، ذلک لأنّ المحدودیة استناداً إلی المقدمات المذکورة بمعنی الامتزاج بالعدم، والشیء الذی تقتضی ذاته الوجود فإنّها لا تقتضی العدم اطلاقاً. وبناءً علی هذا فإنّ اعترته محدودیة فلابدّ أن یحده عامل خارجی ویلزم من ذلک أنّه لیس بواجب الوجود، لأنّه معلول لذات أخری ومخلوق آخر فی حد وجوده. بعبارة أخری، ممّا لا شک فیه أنّ العالم ینتهی إلی واجب الوجود، فإن کان واجب الوجود غیر محدود فلیست هنالک من مشکلة، أمّا إن کان محدوداً فذلک لیس من مقتضیات ذاته، لأنّ ذاته تقتضی الوجود لا العدم، إذن لابدّ أن تطرأ علیه من الخارج. ومفهوم هذا الکلام أنّ هنالک علة خارج وجوده وهو معلول لتلک العلة وفی هذه الحالة سوف لن یکون واجب الوجود.
وقد تعرضت الروایة الواردة عن الإمام السجاد علیه السلام إلی وجوده المطلق علی ضوء البرهان المذکور، فقال:
«إِنَّ اللّهَ لَایُوصَفُ بِمَحْدُودِیَّةٍ عَظُمَ رَبُّنَا عَنِ الصِّفَةِ فَکَیْفَ یُوصَفُ بِمَحدُودیّةٍ مَنْ لایُحَدُّ»(1). وورد عن الإمام الرضا علیه السلام أنّه قال:
«هُوَ أجَلُّ مِنْ أَنْ تُدْرِکَهُ الْأَبْصَارُ أَوْ یُحِیطَ بِهِ وَهْمٌ أَوْ یَضْبِطَهُ عَقْلٌ» قال السائل: حده لی؟ قال علیه السلام:
«إِنَّهُ لَایُحَدُّ قَالَ: لِمَ؟ قَالَ علیه السلام: لِأَنَّ کُلَّ مَحْدُودٍ مُتَناهٍ إِلی حَدٍّ فَاِذَا احْتَمَلَ التَّحْدِیدَ احْتَمَلَ الزِّیَادَةَ وَاِذَا احْتَمَلَ الزِّیَادَةَ احْتَمَلَ النُّقْصَانَ فَهُوَ غَیْرُ مَحْدُودٍ وَلَا مُتَزَائِدٍ وَلَا مُتَجَزِّیءٍ وَلَا مُتَوَهَّمٍ»(2).
ص:224
لَمْ یَخْلُقِ الْأَشْیَاءَ مِنْ أُصُولٍ أَزَلِیَّةٍ، وَلَا مِنْ أَوَائِلَ أَبَدِیَّةٍ، بَلْ خَلَقَ مَا خَلَقَ فَأَقَامَ حَدَّهُ، وَصَوَّرَ مَا صَوَّرَ فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ. لَیْسَ لِشَیْءٍ مِنْهُ امْتِنَاعٌ، وَلَا لَهُ بِطَاعَةِ شَیْءٍ انْتِفَاعٌ. عِلْمُهُ بِالأَمْوَاتِ الْمَاضِینَ کَعِلْمِهِ بِالْأَحْیَاءِ الْبَاقِینَ، وَعِلْمُهُ بِمَا فِی السَمَاوَاتِ الْعُلَی کَعِلْمِهِ بِمَا فِی الْأَرَضِینَ السُّفْلَی.
واصل الإمام علیه السلام ما طرحه سابقاً بشأن قدرة اللّه التامة وعلمه المطلق فقال:
«لَمْ یَخْلُقِ الْأَشْیَاءَ مِنْ أُصُولٍ أَزَلِیَّةٍ، وَلَا مِنْ أَوَائِلَ أَبَدِیَّةٍ، بَلْ خَلَقَ مَا خَلَقَ فَأَقَامَ حَدَّهُ، وَصَوَّرَ مَا صَوَّرَ فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ» فالعبارة إشارة إلی الابداع فی الخلق، أی خلق الأشیاء دون سابقة، فلم تکن هناک مواد أزلیة استعان بها اللّه لخلق الأشیاء، کما لم تکن هنالک إشکال وصور احتذاها فی تصویره الأشیاء، خلافاً لما اعتقده الفلاسفة من أزلیة المادة، فلا أبدیة وأزلیة سوی للذات المقدّسة، وهذا ما بیّناه فی برهان التوحید من امتناع وجود الأبدی والأزلی فی عالم الممکنات. والعجیب أنّ الإمام علیه السلام کشف النقاب عن هذه الحقیقة فی عصر وبیئة لم ترق لهذه الأفکار ولم تشهد معرفة اللّه مثل هذا المنطق الرصین.
ثم أشار علیه السلام إلی قدرة اللّه المطلقة من زاویة أخری فقال:
«لَیْسَ لِشَیْءٍ مِنْهُ امْتِنَاعٌ، وَلَا لَهُ بِطَاعَةِ شَیْءٍ انْتِفَاعٌ». بل الجمیع مستسلم لإرادته التکوینیة، فیوجد ما یشاء متی شاء ویعدم ما یشاء کیفما شاء، مع ذلک فاستسلام الموجودات وطاعة
ص:225
المطیعین وعبادة العابدین لا تزید فی عظمته شیئاً، لأنّ وجوده مطلق ومصدر جمیع الخیرات والبرکات. هذا من حیث القدرة، أمّا بشأن العلم المطلق فقال:
«عِلْمُهُ بِالأَمْوَاتِ الْمَاضِینَ کَعِلْمِهِ بِالْأَحْیَاءِ الْبَاقِینَ، وَعِلْمُهُ بِمَا فِی السَمَاوَاتِ الْعُلَی کَعِلْمِهِ بِمَا فِی الْأَرَضِینَ السُّفْلَی». فما ذکره الإمام علیه السلام فی هذه العبارات البلیغة الرائعة العمیقة المدی اقتباس من بعض الآیات القرآنیة من قبیل: «وَمَا یَعْزُبُ عَنْ رَّبِّکَ مِنْ مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِی الْأَرْضِ وَلَا فِی السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِکَ وَلَا أَکْبَرَ إِلَّا فِی کِتَابٍ مُّبِینٍ»(1)«وَمَا کَانَ اللّهُ لِیُعْجِزَهُ مِنْ شَیْءٍ فِی السَّماوَاتِ وَلَا فِی الْأَرْضِ إِنَّهُ کَانَ عَلِیماً قَدِیراً»(2) والإیة: «وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِینَ مِنْکُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِینَ»(3). وزبدة الکلام:
تتعذر معرفة اللّه دون الوقوف علی علمه المطلق وقدرته اللامتناهیة وأزلیته وأبدیته الغنیة عن الحدود.
الموضوع المهم هنا أنّ مثل هذا الإیمان بعلم اللّه وقدرته وأزلیته وأبدیته لا یقتصر دوره علی البعد الذهنی والفکری فحسب، بل له تأثیر عمیق وشامل علی أعمالنا وأفعالنا، لأننا حین نوقن بأنّه معنا أین ما کنّا وکان قبلنا وسیکون بعدنا ولا یخفی علیه ظاهرنا وباطننا بل حتی تفاصیل دوافعنا وجزئیات نیّاتنا، فإنّ هذا الإیمان سیربیّنا ویضطرنا إلی مراقبة أنفسنا وأعمالنا ویسوقنا إلی محاسبة أنفسنا، إلی جانب إبعادنا عن الشعور بالیأس والإحباط ویبعث فینا روح الرجاء والأمن.
وعلی هذا الأساس فإنّ إیماننا باللّه علی ضوء الصفات المذکورة لا یقتصر دوره
ص:226
علی یوم الجزاء فحسب، بل من شأنه إصلاح حیاتنا الدنیویة والأخذ بأیدینا إلی الورع والتقوی والشعور بالأمن والاستقرار، وعلیه فما نراه الیوم من تهتک لحجاب التقوی من جانب وحالة الاضطراب من جانب آخر إنّما یُعزی أحد أسبابها الرئیسیة إلی الإبتعاد عن العقائد الدینیة الصحیحة.
ص:227
ص:228
أَیُّهَا الْمَخْلُوقُ السَّوِیُّ، وَالْمُنْشَأُ الْمَرْعِیُّ، فِی ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ، وَمُضَاعَفَاتِ الْأَسْتَارِ. بُدِئْتَ «مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِینٍ»، وَوُضِعْتَ «فِی قَرَارٍ مَکِینٍ * إِلَی قَدَرٍ مَعْلُومٍ» وَأَجَل مَقْسُومٍ. تَمُورُ فِی بَطْنِ أُمِّکَ جَنِیناً لَاتُحِیرُ دُعَاءً، وَلَا تَسْمَعُ نِدَاءً؛ ثُمَّ أُخْرِجْتَ مِنْ مَقَرِّکَ إِلَی دَارٍ لَمْ تَشْهَدْهَا، وَلَمْ تَعْرِفْ سُبُلَ مَنَافِعِهَا. فَمَنْ هَدَاکَ لِاجْتِرَارِ الْغِذَاءِ مِنْ ثَدْیِ أُمِّکَ، وَعَرَّفَکَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَوَاضِعَ طَلَبِکَ وَإِرَادَتِکَ! هَیْهَاتَ، إِنَّ مَنْ یَعْجِزُ عَنْ صِفَاتِ ذِی الْهَیْئَةِ وَالْأَدَوَاتِ فَهُوَ عَنْ صِفَاتِ خَالِقِهِ أَعْجَزُ، وَمِنْ تَنَاوُلِهِ بِحُدُودِ الْمَخْلُوقِینَ أَبْعَدُ!
هذا المقطع الذی یمثل القسم الأخیر من الخطبة هو جواب عن سؤال من الأسئلة التی تفرزها الأقسام السابقة، وهو تعذر معرفة اللّه بهذه الصفات من قبیل کونه الأول والأخر والظاهر والباطن والقریب من الأشیاء والبعید عنها والمطلق العلم واللامتناهی القدرة. صحیح، لدینا علم إجمالی بکل هذه الصفات ولکن لیس لدینا من سبیل إلی العلم التفصیلی الذی نعبّر عنه بالعلم بکنه الذات والصفات. یشیر الإمام علیه السلام هنا إلی جانب من خلق الإنسان والأسرار المعقدة التی تکتنف فترة کونه جنیناً إلی جانب الأسرار العظیمة لولادته وما بعدها، ثم یخلص إلی نتیجة فی أنّک إن عجزت عن التوصل إلی أسرار خلقتک کیف یسعک العلم بکنه صفات خالقک؟
ص:229
فقال:
«أَیُّهَا الْمَخْلُوقُ السَّوِیُّ(1) ، وَالْمُنْشَأُ الْمَرْعِیُّ(2) ، فِی ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ، وَمُضَاعَفَاتِ الْأَسْتَارِ». نعم؛ مرحلة الجنین من أعجب مراحل الخلقة التی تنطوی علی العدید من الأسرار. فنطفة الإنسان تطوی مراحلها التکاملیة بصورة متتالیة فی وسط مغلق ومظلم ومحاط بالأستار بحیث یطأ کل یوم مرحلة جدیدة فی إطار خلقة موزونة ومنظمة، ورغم أنّها تجری فی وسط رقیق وشفاف إلّاأنّها بعیدة کل البعد من المخاطر.
ثم خاض فی شرح هذا المطلب فقال:
«بُدِئْتَ «مِنْ سُلَالَةٍ(3) مِنْ طِینٍ»
،وَوُضِعْتَ «فِی قَرَارٍ مَکِینٍ (4)* إِلَی قَدَرٍ مَعْلُومٍ»
وَأَجَل مَقْسُومٍ». إشارة إلی أنّ عملیة توقف الإنسان فی الرحم خاضعة لحساب دقیق. من حیث کمیة البدن وکیفیته من حیث المدة والزمان وقد أشار الإمام علیه السلام إلی أحدهما بالعبارة
«إِلَی قَدَرٍ مَعْلُومٍ» والأخری بالعبارة
«وَأَجَل مَقْسُومٍ».
ثم تطرق إلی المرحلة الأخری التی تعقب الرحم فقال:
«تَمُورُ(5) فِی بَطْنِ أُمِّکَ جَنِیناً لَاتُحِیرُ(6) دُعَاءً، وَلَا تَسْمَعُ نِدَاءً». فهذه العبارة إشارة لطیفة إلی الحرکة المتتابعة للجنین فی بطن أُمّه والتی تتمّ من خلال السباحة فی ماء معین حوله. وأنّه لیتلقی بوازع من فطرته وبحکم طبیعته الأمر بالحرکة، دون أن یسأل أو یجیب أحداً، ذلک لأنّه لیس له من سمع ولا لسان، لکن اللّه وفرّ له کل حاجاته مسبقاً حین کان فی ذلک الوسط المظلم والمغلق.
ص:230
ثم أشار علیه السلام إلی مرحلة الولادة والرضاعة فی احضان الأُم فقال:
«ثُمَّ أُخْرِجْتَ مِنْ مَقَرِّکَ إِلَی دَارٍ لَمْ تَشْهَدْهَا، وَلَمْ تَعْرِفْ سُبُلَ مَنَافِعِهَا». نعم، یرد من ذلک القرار المکین والمکان الآمن إلی الدنیا لا یعرف منها شیئاً، فلا یعرف الغذاء اللازم ولا الإرادة للحصول علیه ولا کیفیة تناوله، لا یعرف وسائل النمو، ولا معوقاته، ولا یعرف أسلوب التعایش ولا التعامل مع الآخرین، فإن لم یأخذ اللطف الإلهی بیده وتشمله الهدایة التکوینیة لعجز قطعاً عن مواصلة الحیاة، غیر أنّ اللّه الذی أعطی کل شیء خلقه ثم هداه یحفه بعنایته فیتجاوز الطرق الوعرة بحکم الغزیزة التی أودعها اللّه إیّاه.
لذلک واصل الکلام علیه السلام قائلاً:
«فَمَنْ هَدَاکَ لِاجْتِرَارِ(1) الْغِذَاءِ مِنْ ثَدْیِ أُمِّکَ، وَعَرَّفَکَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَوَاضِعَ طَلَبِکَ وَإِرَادَتِکَ!». حقّاً من علم الولید أنّ غذاءه فی ثدی أُمّه؟ علیک أن تضغط بأصابع یدک الصغیرة وتمتص ما فی الثدی من اللبن بفمک الصغیر؟! من علمه ذلک البکاء بالصوت الحزین لیعلن من خلاله عن حاجاته کافة؟! العطش والجوع والحر والبرد والمرض والحاجة إلی النوم؟! والغریب أنّ فراخ الطیور والدواب وسائر الحیوانات یندفع کل منها بطریق عجیب نحو حاجته.
ثم اختتم الخطبة بهذه النتیجة:
«هَیْهَاتَ(2) ، إِنَّ مَنْ یَعْجِزُ عَنْ صِفَاتِ ذِی الْهَیْئَةِ وَالْأَدَوَاتِ فَهُوَ عَنْ صِفَاتِ خَالِقِهِ أَعْجَزُ، وَمِنْ تَنَاوُلِهِ بِحُدُودِ الْمَخْلُوقِینَ أَبْعَدُ!».
أجل، لا یمکن حقّاً الوقوف علی عجائب وغرائب عالم الخلق وسبر غور أسراره.
فإن عجزنا عن إدراک بعض ما یتعلق بمخلوقات اللّه فأنّی لنا بالوقوف علی کنه الذات والصفات الغنیة عن الحدود من جمیع الجهات. البنیة المعقدة للأعصاب والقلب والعروق والخلایا والجینات ومختلف الغرائز التی أودعها اللّه أجسامنا لمن المسائل التی شغلت أذهان العلماء لقرون وما زالوا یعترفون بکثرة المجاهیل التی
ص:231
تعتری خلقة الإنسان حتی ألّف ذلک العالم الفرنسی المعروف، کتابه الشهیر (الإنسان ذلک المجهول).
ما ورد فی هذا الجانب من الخطبة بشأن الأسرار الغریبة لخلق الإنسان فی الدورة الجینیة ومن ثم الولادة والرضاع ینسجم تماماً والعدید من الآیات القرآنیة التی أکدت علی التفکیر فی هذه الأسرار، ومنها سورة الزمر: «یَخْلُقُکُمْ فِی بُطُونِ أُمَّهَاتِکُمْ خَلْقاً مِّنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِی ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِکُمُ اللّهُ رَبُّکُمْ»(1) وسورة المؤمنون:
«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِّنْ طِینٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِی قَرَارٍ مَّکِینٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَکَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَکَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِینَ»(2). وقد أشار الإمام الصادق علیه السلام إلی هذه المرحلة فی توحید المفضل کآیة من آیات اللّه فی التوحید والقدرة، وأوصی المفضل وقال: «نبتدیء یا مفضّل بذکر خلق الإنسان فاعتبر به، فأول ذلک ما یدبّر به الجنین فی الرحم، وهو محجوب فی ظلمات ثلاث: ظلم البطن، وظلم الرحم، وظلم المشیمة، حیث لا حیلة عنده فی طلب غذاء ولا دفع أذی، ولا استجلال منفعة ولا دفع مضرّة، فإنّه یجری إلیه من دم الحیض ما یغذوه کما یغذوا الماء النبات فلا یزال ذلک غذاؤه حتی إذا کمل خلقه واستحکم بدنه، وقوی أدیمه علی مباشرة الهواء، وبصره علی ملاقاة الضیاء هاج الطلق بأُمّه فأزعجه أشدّ إزعاج، وأعنفه حتی یولد، وإذا ولد صرف ذک الدم الذی کان یغذوه من دم أُمّه إلی ثدییها فانقلب الطعم واللّون إلی ضرب آخر من الغذاء...»(3).
ص:232
ثم خاض الإمام علیه السلام فی شرح تکامل المولود فی مختلف المراحل وهو یعرض لعجائب الخلقة الواحدة تلو الأخری(1). (طبعاً لا یسع البحث الاستغراق فی القضایا المذهلة التی تم اکتشافها فی عصرنا الراهن بشأن تکامل النطفة من خلال مرورها بتلک المراحل، وکل الذی یسعنا قوله إنّ مثل هذا البحث ینطوی علی آلاف الأسرار والعجائب: «خَلْقاً مِّنْ بَعْدِ خَلْقٍ». ومن الضروری أن نشیر هنا إلی سر من تلک الأسرار وهو أنّ الجنین طیلة هذه المدّة یسبح فی کیس صغیر مملوء بماء غلیظ، ولا یتأثر هذا الکیس بالضربات حتی وإن سقطت المرأة علی الأرض أو قامت بحرکات سریعة وعنیفة، فلیس هنالک أدنی أذی علی الجنین، هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإنّه یمتاز بتعدیله للحرارة والبرودة بالشکل الذی یحول دون تأثیرهما علی الجمیع. أضف إلی ذلک فإنّ سباحة الجنین فی ذلک السائل یبعد الضغط عن أعضائه الرقیقة، وأخیراً یحفظ هذا الکیس الجنین من الأمواج الصوتیة العالیة ویحافظ علی نعومة الجلد، کما یلعب دوراً مهمّاً فی التغذیة: «فَتَبَارَکَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِینَ».
ص:233
ص:234
لَمّا اجْتَمَعَ النّاسُ إلَیْهِ وَشَکوا مَا نَقِمُوهُ علی عُثْمَانَ وَسَأَلُوهُ مُخَاطَبَتَهُ لَهُمْ وَاسْتِعْتَابَهُ لَهُمْ، فَدَخَلَ عَلَیْهِ فَقَالَ:(1)
المراد الأصلی من هذه الخطبة کماذکرنا سابقاً أنّها تعرض بالنصح لعثمان وتحذیره بمنتهی الأدب والحرص للحیلولة دون تجاوز أجهزة حکومته للحدود، وهی تتألف من ثلاثة أقسام:
القسم الأول: خطاب لشخص عثمان، خطاب الناصح المشفق الذی یری مقابله علی شفا حفرة خطیرة، وقد رکز الإمام علیه السلام علی علم عثمان بالأحکام الإسلامیة وسوابقه مع النبی الأکرم صلی الله علیه و آله لیصده عن الزلل والأنحراف.
أمّا القسم الثانی: فیعرض فیه الإمام علیه السلام بحثاً جامعاً وکلیاً بشأن أئمّة العدل
ص:235
والظلم وخصائص کل منهما، وبما یجعل کل إمام منهما اسوة للأخرین فی سیرته وفی کل زمان ومکان، ومن ثم حذر عثمان من أن یصبح العوبة بید بطانته کمروان وأمثاله.
والقسم الثالث: نقل جواباً عن عثمان وما أن سمع الإمام علیه السلام ذلک الجواب حتی عرض علیه کیفیة الخروج من المأزق، والمؤسف أنّ هذه النصائح لم تجد أذاناً صاغیة من عثمان فوقعت تلک الحوادث العنیفة والمریرة.
ص:236
إِنَّ النَّاسَ وَرَائِی وَقَدِ اسْتَسْفَرُونِی بَیْنَکَ وَبَیْنَهُمْ، وَوَاللّهِ مَا أَدْرِی مَا أَقُولُ لَکَ! مَا أَعْرِفُ شَیْئاً تَجْهَلُهُ، وَلَا أَدُلُّکَ عَلَی أَمْرٍ لَاتَعْرِفُهُ. إِنَّکَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ. مَا سَبَقْنَاکَ إِلَی شَیْءٍ فَنُخْبِرَکَ عَنْهُ، وَلَا خَلَوْنَا بِشَیْءٍ فَنُبَلِّغَکَهُ. وَقَدْ رَأَیْتَ کَمَا رَأَیْنَا، وَسَمِعْتَ کَمَا سَمِعْنَا، وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - کَمَا صَحِبْنَا. وَمَا ابْنُ أَبِی قُحَافَةَ وَلَا ابْنُ الْخَطَّابِ بِأَوْلَی بِعَمَلِ الْحَقِّ مِنْکَ، وَأَنْتَ أَقْرَبُ إِلَی أَبِی رَسُولِ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَشِیجَةَ رَحِمٍ مِنْهُمَا؛ وَقَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِهِ مَا لَمْ یَنَالَا. فَاللّهَ اللّهَ فِی نَفْسِکَ! فَإِنَّکَ - وَاللّهِ - مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمیً، وَلَا تُعَلَّمُ مِنْ جَهْلٍ، وَإِنَّ الطُّرُقَ لَوَاضِحَةٌ، وَإِنَّ أَعْلَامَ الدِّینِ لَقَائِمَةٌ.
ینبغی لاتضاح مضمون هذه الخطبة الإشارة إلی الأحداث والأوضاع التی أدّت إلی هذا الحوار بین الإمام علیه السلام وعثمان. حیث ذکر المؤرخ المعروف الطبری أنّ الناس حین رأوا أعمال عثمان - من قبیل سلب ونهب بیت المال وتسلیط الظلمة والفسقة علی المناصب الحساسة فی الحکومة الأسلامیة - کتب عدد من صحابة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله کتبهم إلی أمراء الجیش علی الثغور ودعوهم إلی الجهاد فی سبیل اللّه ونشر دین محمد صلی الله علیه و آله والقدوم إلی هنا وإنقاذ من یقوم بهدم هذا الدین. وتقاطر الجنود من کل مکان علی المدینة - سیما أولئک الذین أتوا من مصر والذین عاشوا
ص:237
ظلم الولاة وعمال الخلیفة - حتی قتلوا عثمان(1). آنذاک تعالت الأصوات التی ضجت من ظلم عثمان، فقدم جماعة من الناس إلی الإمام علیه السلام وسألوه وضع حد لتلک الأوضاع بطریقة سلمیة، فیکون علیه السلام سفیرهم إلی عثمان ویتم الحجة علیه. فأورد الإمام علیه السلام ذلک الکلام بما یجعله وبطانته یکفون عن الظلم. وکلام الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة یتضمن براعة البلاغة والفصاحة والقضایا النفسیة الدقیقة أملاً فی عودة الطرف المقابل إلی رشده ولعلّه یلتفت إلی الأخطار المحدقة بالإسلام والعالم الإسلامی. وقد تحدث الإمام علیه السلام بادیء الأمر عن علم عثمان ومعرفته بالأحکام الإسلامیة بشأن رعایة حقوق الناس والإبتعاد عن الظلم والجور فقال:
«إِنَّ النَّاسَ وَرَائِی وَقَدِ اسْتَسْفَرُونِی(2) بَیْنَکَ وَبَیْنَهُمْ، وَوَاللّهِ مَا أَدْرِی مَا أَقُولُ لَکَ! مَا أَعْرِفُ شَیْئاً تَجْهَلُهُ، وَلَا أَدُلُّکَ عَلَی أَمْرٍ لَاتَعْرِفُهُ. إِنَّکَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ. مَا سَبَقْنَاکَ إِلَی شَیْءٍ فَنُخْبِرَکَ عَنْهُ، وَلَا خَلَوْنَا بِشَیْءٍ فَنُبَلِّغَکَهُ». من الواضح أنّ عبارات الإمام علیه السلام لا تعنی أنّ عثمان بمصاف الإمام علی علیه السلام فی العلم والمعرفة، بل مراده أنّ عثمان کان یعلم بالأحداث التی وقعت وسوء الظلم والجور وضرورة رعایة حقوق الناس، وهی الأمور العادیة التی یتساوی فیها عثمان مع عامة الناس الذین کانوا یعرفون تلک الأمور، بل حتی الأطفال - فضلاً عن العقلاء والکبار - کانوا یعلمون صحیحها من سقیمها کما ذکر ذلک ابن أبی الحدید(3). وبناءً علی هذا فإنّه یخطئ کل من یتصور بأنّ العبارات المذکورة دلیلاً علی أنّ عثمان بمنزلة الإمام علی علیه السلام فی العلم والمعرفة. فعلی علیه السلام کما قال النبی الأکرم صلی الله علیه و آله باب علم مدینة النبی صلی الله علیه و آله وعلی علیه السلام حسب الروایات الإسلامیة من عنده علم الکتاب وهو الملاذ العلمی للأمة فی حل جمیع مشاکلها حتی صرح بعض الخلفاء
«اَللّهُمَّ لَاتَبْقِنی لِمُعْضَلَةٍ لَیْسَ لَهَا ابْنُ
ص:238
اَبِی طَالِبٍ»(1).
ثم واصل کلامه مشیراً إلی سوابق عثمان فی الإسلام فقال:
«وَقَدْ رَأَیْتَ کَمَا رَأَیْنَا، وَسَمِعْتَ کَمَا سَمِعْنَا، وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - کَمَا صَحِبْنَا».
إشارة إلی أنّک کنت مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله لسنوات عدیدة وقد سمعت منه تعالیم الإسلام وأحکامه الشرعیة، وعلیه فکیف تخفی علیک هذه المسائل الواضحة بشأن حق الناس وبیت المال والعدالة الاجتماعیة. آنذاک طرق السبیل الثالث بغیة التأثیر علی أفکار عثمان فقارنه بأبی بکر وعمر، ذلک لأنّهما لم یرتکبا ما ارتکبه عثمان قط، وإن کانت لهم زالتهم الأخری فقال:
«وَمَا ابْنُ أَبِی قُحَافَةَ وَلَا ابْنُ الْخَطَّابِ بِأَوْلَی بِعَمَلِ الْحَقِّ مِنْکَ، وَأَنْتَ أَقْرَبُ إِلَی أَبِی(2) رَسُولِ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَشِیجَةَ رَحِمٍ مِنْهُمَا؛ وَقَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِهِ مَا لَمْ یَنَالَا». بالنظر إلی أنّ الوشیجة بمعنی جذور الشجرة أو الألیاف التی تصنع من النخیل وثم اطلقت علی اشتباک القرابة، فإنّ الإمام علیه السلام أراد أن یذکره بقرابته من النبی صلی الله علیه و آله حیث یقرب للنبی صلی الله علیه و آله من جده عبد مناف. فقد اعتمد الإمام علیه السلام مختلف الطرق بغیة التأثیر علیه وإعداده لقبول الحق والکفّ عن ممارسة الباطل. إلّاأنّ المؤسف أنّ الخلیفة الثالث لم یعد یسمع قول الحق وقد انغمس فی الفساد الذی دب فی کافّة مرافق الحکومة. علی کل حال عاد الإمام علیه السلام لیؤکد علی الخلیفة ضرورة الأنصیاع إلی الحق والشفقة علی نفسه فقال:
«فَاللّهَ اللّهَ فِی نَفْسِکَ! فَإِنَّکَ - وَاللّهِ - مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمیً، وَلَا تُعَلَّمُ مِنْ جَهْلٍ، وَإِنَّ الطُّرُقِ لَوَاضِحَةٌ، وَإِنَّ أَعْلَامَ الدِّینِلَقَائِمَةٌ». فالإمام علیه السلام لم یتخلَّ عن أی أسلوب من شأنه التأثیر علی الخلیفة، فأحیاناً یحدثه بحسن وقبح مثل هذه الأمور، وأخری یقول له
ص:239
إنّک سمعت من النبی صلی الله علیه و آله ما ینبغی سماعه، وتارة یقول له علی الأقل سر بسیرة من سبقک من الخلفاء فهما لیسا أولی منک بالعمل بالحق. وأخیراً یبیّن له أنّ طریق الحق واضح فلماذا تعرض نفسک لکل هذه الأخطار وتسلک السبیل غیر القویم، لکن لم یستجب عثمان حتی حدث ما لا ینبغی أن یحدث بعد أن ولّی ظهره لکل تلک المواعظ والإرشادات القیّمة.
إذا قام شخص ببعض المخالفات وکان یبدو مدرکاً لبعض الأعمال الخطیرة وأراد عاقل أن یوقظه من نوم الغفلة، فإنّ أفضل أسلوب یمکن اعتماده بادیء الأمر أن یستقطب قلبه ویذکره بإیجابیاته، فیقول مثلاً: إنّک من أُسرة عریقة ولدیک تحصیلات علمیة قیمة وسمعتک حسنة بین الناس لعله یشعر بشخصیته ویثق بالمقابل فیتقبل منه. ومن ثم مقارنته بأمثاله وأقرانه بهدف إعادته إلی الصواب والإبتعاد عن الخطر.
الإمام علیه السلام بصفته سید الفصحاء والبلغاء والعالم بالقضایا التربویة والنفسیة، فقد ذکّر عثمان بکل هذه الأمور، فقال له إنّک لصهر رسول اللّه صلی الله علیه و آله(1) وأقرب إلیه من الخلیفة الأول والثانی ولک سابقة فی الإسلام وقد لازمت النبی صلی الله علیه و آله ولیس هنالک من شیء غائب عنک لأذکرک به، فهنالک ظلم وجور وتطاول علی بیت مال المسلمین وهضم لحقوق الناس. إلّاأنّ الخلیفة الثالث قد انغمس فی شباک بطانته - تلک البطانة التی یمثل اغلبها حثالات الجاهلیة - ولم یعد یتحمل نصح ذلک الناصح الأمین وینقذ نفسه من تلک الورطة. ویتضح ممّا مر معنا أن لیس هنالک من فضیلة لعثمان تضمنتها عبارات هذه الخطبة.
ص:240
فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللّهِ عِنْدَ اللّهِ امَامٌ عَادِلٌ، هُدِیَ وَهَدَی، فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً، وَأَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً. وَإِنَّ السُّنَنَ لَنَیِّرَةٌ، لَهَا أَعْلَامٌ، وَإِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ، لَهَا أَعْلَامٌ. وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللّهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ، فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً، وَأَحْیَا بِدْعَةً مَتْرُوکَةً. وَإِنی سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - یَقُولُ: «یُؤْتَی یَوْمَ الْقِیَامَةِ بِالْإِمَامِ الْجَائِرِ وَلَیْسَ مَعَهُ نَصِیرٌ وَلَا عَاذِرٌ، فَیُلْقَی فِی نَارِ جَهَنَّمَ، فَیَدُورُ فِیهَا کَمَا تَدُورُ الرَّحَی، ثُمَّ یَرْتَبِطُ فِی قَعْرِهَا». وَإِنی أَنْشُدُکَ اللّهَ الَّا تَکُونَ إِمَامَ هذِهِ الْأُمَّةِ الْمَقْتُولَ، فَإِنَّهُ کَانَ یُقَالُ:
یُقْتَلُ فِی هذِهِ الْأُمَّةِ إِمَامٌ یَفْتَحُ عَلَیْهَا الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ، وَیَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَیْهَا، وَیَبُثُّ الْفِتَنَ فِیهَا، فَلَا یُبْصِرُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ؛ یَمُوجُونَ فِیهَا مَوْجاً، وَیَمْرُجُونَ فِیهَا مَرْجاً.
فَلَا تَکُونَنَّ لِمَرْوَانَ سَیِّقَةً یَسُوقُکَ حَیْثُ شَاءَ بَعْدَ جَلَالِ السِّنِّ وَتَقَضِّی الْعُمُرِ.
فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: کَلِّمَ النَّاسَ فِی أَنْ یُؤَجِّلُونِی، حَتَّی أَخْرُجَ إِلَیْهِمْ مِنْ مَظَالِمِهِمْ، فَقَالَ علیه السلام:
مَا کَانَ بِالْمَدِینَةِ فَلَا أَجَلَ فِیهِ، وَمَا غَابَ فَأَجَلُهُ وُصُولُ أَمْرِکَ إِلَیْهِ.
تضمن المقطع الأول من هذه الخطبة، خطاب الإمام علیه السلام بصورة خاصة لعثمان
ص:241
وبذل له النصح والإرشاد لإنقاذه من خطورة الموقف الذی کان فیه ولیطفیء عنه غضب الأُمّة، والأهم من کل ذلک رضی اللّه تبارک وتعالی. أمّا هنا فقد تطرق الإمام علیه السلام إلی الضوابط الکلیة والعامة للحاکم العادل ومن ثم صفات الحاکم الظالم لیتبیّن الخلیفة من ذلک، الطریق الصحیح فیسلکه فقال علیه السلام:
«فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللّهِ عِنْدَ اللّهِ امَامٌ عَادِلٌ، هُدِیَ وَهَدَی، فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً، وَأَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً. وَإِنَّ السُّنَنَ لَنَیِّرَةٌ، لَهَا أَعْلَامٌ، وَإِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ، لَهَا أَعْلَامٌ». فقد رکز الإمام علیه السلام بادیء الأمر علی هذا الموضوع المهم فی أنّ أفضل عباد اللّه هو الإمام العادل، کیف لا وقد قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله:
«عَدْلُ ساعَةٍ خَیْرٌ مِنْ عِبادَةِ سِتِّینَ سَنَةً قِیَامَ لَیْلِهَا وَصِیامِ نَهَارِهَا»(1) ثم تطرق إلی خصائص الإمام العادل، ومنها أن تلمس الهدی عن طریق القرآن والوحی والعقل السلیم ثم هدی الناس إلی الصراط المستقیم، ذلک لأنّ البرامج الثقافیة البناءة من وظائف الحاکم العادل لأنّها تتمثل فی إقامة السنن المعلومة وإماتة البدع المجهولة؛ لأنّه لابدّ للحاکم العادل من رؤیة دقیقة بحیث لا تطمس السنن الحسنة وتنسی وتسود المجتمع خصال الخیر والفضیلة والتقوی والعلم والمعرفة والتعاون علی البر والتقوی والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، إلی جانب عدم السماح لظهور البدع السیئة والخرافات والاختلافات والنزاعات وکل ما جهد الأنبیاء من أجل تنقیة الأُمّة من شوائبه، خاصة أنّ الإمام علیه السلام صرّح بأنّ للسنن والبدع علامات. فعلامات السنن الأمن والاستقرار وتطور البلاد ومسارعة الأفراد إلی المعنویات، علی العکس من علامات البدع المتمثلة بالاضطراب والإرباک والرکود والتخلف والخرافات. وبالطبع فإنّ ممیزات الحاکم الظالم (الإمام الجائر) بالضبط علی العکس من سابقتها فی الحاکم العادل، فهو ضال مضل لغیره، یطمس سنن اللّه ویحیی البدع، وللأسف کلنا نعلم أنّ الخلیفة الثالث کان مصداقاً للإمام الجائر بتسلیطه لبطانته علی رقاب المسلمین ونهبهم لبیت المال.
ص:242
ثم قال علیه السلام:
«وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللّهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ، فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً، وَأَحْیَا بِدْعَةً مَتْرُوکَةً». فمن البدیهی أنّ دعائم العدالة ورکائزها فی المجتمع إنّما تستحکم فی ظل إحیاء السنن الإلهیة التی تضمن خیر البشریة وسعادتها، وتهجر البدع التی تسوق الناس إلی الفساد والظلم. والحاکم الذی یقوم بهذه الأعمال إنّما یفصح عن ظلمه وفساده، بالتالی فهو شر الناس، ذلک لأنّه یسوق المجتمع إلی البؤس والشقاء، بغض النظر عن ظلمه لنفسه وسوقها للشقاء الأبدی.
ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه مستشهداً بحدیث خطیر عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال:
«وَإِنی سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - یَقُولُ: «یُؤْتَی یَوْمَ الْقِیَامَةِ بِالْإِمَامِ الْجَائِرِ وَلَیْسَ مَعَهُ نَصِیرٌ وَلَا عَاذِرٌ، فَیُلْقَی فِی نَارِ جَهَنَّمَ، فَیَدُورُ فِیهَا کَمَا تَدُورُ الرَّحَی، ثُمَّ یَرْتَبِطُ فِی قَعْرِهَا»»(1). فقوله علیه السلام:
«وَلَیْسَ مَعَهُ نَصِیرٌ وَلَا عَاذِرٌ» إشارة إلی أنّه کان له فی الدنیا فئة من الناس یقفون إلی جانبه فی الشدائد والمشاکل التی تعرض علیه ویجدون له المبررات فی ممارسة الظلم والجور، ومن جانبه کان یغدق علیهم الإمتیازات بغیة الإحتفاظ بهم. أمّا فی ذلک الیوم فهو وحید فرید فی محکمة العدل الإلهی ولیس له سوی النار جزاء لأعماله الشنعاء. ولعل العبارة
«فَیَدُورُ فِیهَا کَمَا تَدُورُ الرَّحَی» إشارة إلی أنّ دورانه فی نار جهنم یوجب مزیداً من الألم والأحراق أولاً ویجلب انتباه الأخرین ثانیاً فتبدوفضیحته علانیة.
ثم أشار الإمام علیه السلام إلی نقطة مهمّة تتعلق بمصیر عثمان تحذره من مغبة سوء فعاله فقال:
«وَإِنی أَنْشُدُکَ(2) اللّهَ الَّا تَکُونَ إِمَامَ هذِهِ الْأُمَّةِ الْمَقْتُولَ، فَإِنَّهُ کَانَ یُقَالُ: یُقْتَلُ فِی هذِهِ الْأُمَّةِ إِمَامٌ یَفْتَحُ عَلَیْهَا الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ إِلَی یَوْمِ الْقِیَامَةِ». فالإمام علیه السلام وإن لم یشر إلی من قال هذا الکلام، لکن من الواضح أنّه رسول اللّه صلی الله علیه و آله، وقد وقع عین ما أخبر به حیث کان الظلم سبب قتل عثمان وأثر ذلک - وبحجة دم عثمان - حصل کل ذلک
ص:243
القتال وسفک الدماء ومازلنا نشهد حتی العصر الراهن بعض التبعات والاختلافات التی تحدث بین المسلمین. والشاهد علی ذلک الحدیث عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله والذی ورد فی سنن أبی داود أنّه قال:
«وَإِنَّما أَخافُ عَلئ أُمَّتِی الأَئِمَّةَ المُضِلِّینَ وَإِذا وَضِعَ السَّیفَ فِی أُمَّتِی لَمْ یُرْفَعْ عَنْها إِلی یَوْمِ القِیامَةِ»(1).
ثم خاض الإمام علیه السلام فی شرح ما ورد عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال:
«وَیَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَیْهَا، وَیَبُثُّ الْفِتَنَ فِیهَا، فَلَا یُبْصِرُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ؛ یَمُوجُونَ(2) فِیهَا مَوْجاً، وَیَمْرُجُونَ(3) فِیهَا مَرْجاً». وتشیر العبارة
«وَیَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَیْهَا» إلی أنّ الساسة المحترفین یحاولون تضلیل الرأی العام فهم ینطلقون فی الظاهر علی أساس المطالبة بدم الخلیفة المقتول، لکنهم یزیّفون الحقائق باطناً بهدف الوصول إلی الخلافة، فهم یصورون الظالم مظلوماً والمظلوم ظالماً(4). والعبارة
«وَیَبُثُّ الْفِتَنَ فِیهَا» وهی إشارة إلی اتساع الفتن فی صفوف الأُمّة نتیجة ذلک، والعبارات القادمة بمثابة نتیجة، فمن جانب یصعب تمییز الحق من الباطل ومن جانب آخر فإنّ الناس سیعومون فی بحر من الفتن. والفارق بین یموجون ویمرجون أنّ الأُولی إشارة إلی اقتتال الأُمّة فی تلک الفتن، والثانیة إشارة إلی اختلاط الحق والباطل فی المجتمع بحیث یصعب تمییز الحق من الباطل. جدیر بالذکر أنّ کل ما تنبّأ به النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی الروایة وأخبر به أمیر المؤمنین الإمام علی علیه السلام وقع دون أدنی زیادة أو نقصان.
فقد ألب عثمان وبطانته الأُمّة علیهم لظلمهم حتی قتل عثمان واندفعت عقب ذلک فئة من بنی أمیة لتستغل الأحداث السیاسیة لصالحها وارتفعت حدة الخلافات بین
ص:244
الناس حتی تعذر تمییز الحق من الباطل وسفکت تلک الدماء الغزیرة، ثم امتدت تلک الاضطرابات لقرون. راجع المزید بشأن عوامل القیام ضد عثمان الجزء الأول والثانی من هذا الکتاب(1).
ثم أشار الإمام علیه السلام إلی أهم عنصر یقف وراء انحراف عثمان - والذی جرّ علیه کل تلک الویلات - والمقصود من طاعته العمیاء لمروان، فقال علیه السلام:
«فَلَا تَکُونَنَّ لِمَرْوَانَ سَیِّقَةً(2) یَسُوقُکَ حَیْثُ شَاءَ بَعْدَ جَلَالِ(3) السِّنِّ وَتَقَضِّی الْعُمُرِ».
ورد فی التاریخ أنّ عمر عثمان کان آنذاک 82 سنة(4). لا شک أنّه کان لمروان الدور الأساسی فی حکومة عثمان بحیث کان سیر الأمور حسب رغباته، وحتی حین استمع عثمان لنصائح الإمام علیه السلام وعزم علی الاعتذار من الأُمّة، اعترضه مروان بشدّة وحال دون إصلاحه لأخطائه، والواقع أنّه صب الزیت علی فتیل النار التی أوقدها الناس حتی طالت حیاة عثمان، وربّما کان ذلک یستند إلی خطة تمکنه أو تمکن معاویة من استلام زمام الأمور بعد عثمان.
فلما بلغ الإمام علیه السلام هذا الموضع من کلامه استجاب له عثمان وتأثر شدیداً:
«فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: کَلِّمِ النَّاسَ فِی أَنْ یُؤَجِّلُونِی، حَتَّی أَخْرُجَ إِلَیْهِمْ مِنْ مَظَالِمِهِمْ.
فَقَالَ علیه السلام: مَا کَانَ بِالْمَدِینَةِ فَلَا أَجَلَ فِیهِ، وَمَا غَابَ فَأَجَلُهُ وُصُولُ أَمْرِکَ إِلَیْهِ». إشارة إلی أنّ المهلة فی هذه الحالات الحادة قد تقود إلی ثورة عارمة فلا معنی لهذه المهلة، إضافة إلی أنّ المهلة إنّما تهدف إلی إعداد المقدمات، وإعادة حقوق الناس لا تحتاج إلی أی مقدمات، فما کان فی المدینة لابدّ من إصدار الأوامر بشأنه فوراً
ص:245
فیؤخذ من الظلمة ویسلم إلی المظلومین، وما کان فی المناطق البعیدة فلابدّ من الإسراع فی انتزاعه. ولعل العبارة المذکورة إشارة إلی هذه النقطة فی أنّ الساسة حین یواجهون أزمة إنّما یلجأون إلی التسویف بغیة الهروب من المسؤولیة ویطلبون من الطرف المقابل مهلة زمنیة علی أمل امتصاص نقمة الغضب وتوجیه ضربة مهلکة إلی الطرف الآخر، فما کان من الإمام علیه السلام إلّاأنّ سد علیه الأبواب کافة واختلاق الذرائع. صرّحت کتب التاریخ بأنّ عثمان استجاب للإمام علیه السلام لکنه استمهل الإمام علیه السلام ثلاثة أیّام بالنسبة للمدینة. فوافقه الإمام علیه السلام وخرج من عند عثمان وأخبر الناس وکتب العهد علی عثمان ومهلة الثلاثة أیّام لإعادة الحقوق المهضومة وعزل الولاة الظلمة الذین نقم منهم الناس. وقد أشهد علی العهد طائفة من المهاجرین والأنصار، فانسحب الناس علی أمل وفاء عثمان بالعهد بینما أراد عثمان خلال الأیّام الثلاثة جمع العدّة والعدد وتجهیز الجیش، فلما مضت المهلة شعر الناس بعدم الوفاء بالعهد فثاروا علی عثمان، حتی انتهی الأمر إلی قتل عثمان، جدیر بالذکر أنّ کل ما ذکرناه أورده الطبری فی تاریخه(1).
أشرنا فی الأجزاء السابقة من هذا الکتاب إلی الأحداث التی رافقت مقتل عثمان، ونود هنا أن نشیر إلی بعض الأمور، ومنها:
1. لا شک فی أنّ قتل عثمان حادثة مفجعة، ذلک لأنّها انعکست سلباً علی المسلمین، وکما ورد فی الروایة الواردة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فإنّ قتل عثمان أدّی إلی تصاعد الخلافات بین المسلمین وسفک المزید من الدماء، رغم أنّ المقصر الأصلی فی هذه الحادثة شخص عثمان وبطانته وقرابته الذین أخرجوا الحکومة من إطارها المتعارف وأشاعوا فی المجتمع معانی الظلم والجور إلی جانب الفساد والانحراف.
ص:246
2. جدیر ذکره أنّ هذه الحادثة وقعت فی المدینة أمام الصحابة من المهاجرین والأنصار ولم یهبّوا للدفاع عن عثمان، وکأنّهم راضون عن حرکة الناس ضد عثمان، بل حسبما ورد فی تاریخ الطبری أنّ جماعة من الصحابة کتبوا لبعضهم إنّ الجهاد حقّاً فی المدینة لا فی الروم (لأنّ الحکومة الإسلامیة اندفعت نحو الفساد وإصلاحها مقدم علی کل شیء). أمّا الشخص الوحید الذی وقف إلی جانب عثمان وحال دونه فهو أمیر المؤمنین علیه السلام والذی أمر ولدیه بالدفاع عنه، لأنّه کان یعلم بالآثار السلبیة التی تترتب علی قتل عثمان وإن کانت حرکة الأُمّة عنیفة ولم تنجح تدابیر الإمام علیه السلام فی الحیلولة دون وقوعها.
3. تقدم الإمام علیه السلام فی الخطبة المذکورة وقبل تصاعد حدة الاعتراض بإسداء النصح والإرشاد المشفق لعثمان وحذره بشدّة بضرورة الکفّ عن مواصلة ذلک الأسلوب وتلافی ما فرط منه، ووعد هو من جانبه بالعمل بذلک، لکنه إمّا أن یکون رفض أو منعته حاشیته من الإستجابة. والذی یستفاد من بعض المصادر التاریخیة أنّه لم یکن مستعداً بفعل تعصبه الشدید لقرابته أن یعترف صراحة بما فرط منه، حیث قال بعد نصح الإمام: لم أرتکب خلافاً، فقد وصلت رحمی (فالأموال التی أنفقتها علی قرابتی من باب صلة الرحم) وأغنیت الفقراء وآویت المحتاجین واستعملت مثل من استعمل عمر وولاه. فرد الإمام علیه السلام إنّ عمر کان یعاقب بشدّة من یرتکب الخلاف ممّن ولاه من عمّاله، لکنک ضعیف، أمّا قرابتک وولاتک فلا تکترث لما یرتکبون من أخطاء(1).
والعجیب أنّ عثمان صعد المنبر بعد هذه الأحداث لیحدث الناس بأنّ لکل شیء آفة وآفة هذه الأُمّة أهل الغیبة الذین یتکلّمون بما لا یعلمون والأُمّة تلهث خلفهم، وإنّکم لتعیبون علیَّ بعض الأمور التی کنتم ترضونها لعمر، لغلضته علیکم، علی العکس من مداراتی لکم وإن شئت لأشرت علی رجالی، فلا تفعلوا ما یدعونی إلی
ص:247
النقمة علیکم، فاسکتوا ولا تطعنوا فی ولایتی. وهنا انبری مروان لیصرخ: أیّها الناس إن شئتم جعلنا السیف حکماً بینا وبینکم. فغضب عثمان وأسکته وقال له دعنی اکلم أصحابی، ألم أُوصیک بعدم الکلام؟ فصمت مروان ونزل عثمان من المنبر(1).
وهذه العبارات تفید أنّ عثمان إمّا کان جاهلاً بالأوضاع! أو أنّه کان یثق بقرابته وبطانته بحیث کان یری ظلمهم وجورهم عین العدالة والقسط! فکان أسیراً بیدهم بحیث لم یستطع تغییر مسار الأحداث(2).
ص:248
یَذْکُرُ فِیها عَجِیبَ خِلْقَةِ الطَّاوُوسِ(1)
یمکن تقسیم هذه الخطبة إلی أربعة أقسام:
أشار الإمام علیه السلام فی القسم الأول إلی العجائب والغرائب التی تکتنف المخلوقات ولا سیما الطیور لیستدل عن هذا الطریق علی وجود اللّه والإیمان به. ویرکز فی القسم الثانی علی خلق الطاووس من بین الطیور وأسرار خلقته لیشیر إلی تفاصیل لطیفة ودقیقة عن هذا المخلوق، کما یرد علی بعض الخرافات والأوهام الواردة بشأنه.
ویختتم هذا الکلام بالإشارة إلی نقطة وتتمثل بعجز العقول عن وصف مخلوقات
ص:249
اللّه فأنّی لها بوصف الخالق العظیم؟ کما تطرق فی القسم الثالث إلی عجائب خلق الدیدان الصغیرة وکشف عن عجائب خلق النمل لیستدل من خلال ذلک علی توحید اللّه تعالی. أمّا القسم الرابع والأخیر فقد خاض فی جانب من أوصاف الجنّة بما یجعل السامع یعیش لهفة الشوق إلیها، وعلی هذا الأساس یربط بین المبدأ والمعاد لیعرض صورة واضحة متکاملة فی بحث العقائد.
ص:250
ابْتَدَعَهُمْ خَلْقاً عَجِیباً مِنْ حَیَوَانٍ وَمَوَاتٍ، وَسَاکِنٍ وَذِی حَرَکَاتٍ؛ وَأَقَامَ مِنْ شَوَاهِدِ الْبَیِّنَاتِ عَلَی لَطِیفِ صَنْعَتِهِ، وَعَظِیمِ قُدْرَتِهِ، مَا انْقَادَتْ لَهُ الْعُقُولُ مُعْتَرِفَةً بِهِ، وَمُسَلِّمَةً لَهُ، وَنَعَقَتْ فِی أَسْمَاعِنَا دَلَائِلُهُ عَلَی وَحْدَانِیَّتِهِ، وَمَا ذَرَأَ مِنْ مُخْتَلِفِ صُوَرِ الْأَطْیَارِ الَّتِی أَسْکَنَهَا أَخَادِیدَ الْأَرْضِ، وَخُرُوقَ فِجَاجِهَا وَرَوَاسِی أَعْلَامِهَا، مِنْ ذَاتِ أَجْنِحَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهَیْئَاتٍ مُتَبَایِنَةٍ، مُصَرَّفَةٍ فِی زِمَامِ التَّسْخِیرِ، وَمُرَفْرِفَةٍ بِأَجْنِحَتِهَا فِی مَخَارِقِ الْجَوِّ الْمُنْفَسِحِ، وَالْفَضَاءِ الْمُنْفَرِجِ. کَوَّنَهَا بَعْدَ إِذْ لَمْ تَکُنْ فِی عَجَائِبِ صُوَرٍ ظَاهِرَةٍ، وَرَکَّبَهَا فِی حِقَاقِ مَفَاصِلَ مُحْتَجِبَةٍ، وَمَنَعَ بَعْضَهَا بِعَبَالَةِ خَلْقِهِ أَنْ یَسْمُوَ فِی الْهَوَاءِ خُفُوفاً، وَجَعَلَهُ یَدِفُّ دَفِیفاً وَنَسَقَهَا عَلَی اخْتِلَافِهَا فِی الْأَصَابِیغِ بِلَطِیفِ قُدْرَتِهِ، وَدَقِیقِ صَنْعَتِهِ. فَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِی قَالَبِ لَوْنٍ لَایَشُوبُهُ غَیْرُ لَوْنِ مَا غُمِسَ فِیهِ؛ وَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِی لَوْنِ صِبْغٍ قَدْ طُوِّقَ بِخِلَافِ مَا صُبِغَ بِهِ.
إنّ معرفة اللّه من أهم أُصولنا العقائدیة والتی یستند جانب کبیر منها إلی القرآن الکریم، وهذا هو الهدف من الخطبة. وممّا لا شک فیه أنّ أعمال الإنسان وسلوکه إنّما یتوقف علی تلک المعرفة ومدی رسوخ دعائمها. فقد بین الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة عجائب الخلقة التی تعکس وجود اللّه وعلمه المطلق وقدرته التامة، سیما أنّ الإمام علیه السلام یصطحبنا إلی عالم الطیور ویکشف لنا النقاب عن أسرار تلک الخلقة. ومن
ص:251
ثم یتطرق إلی الطاووس لیکشف عجیب صنعه بما یحیر العقول ویسوق الإنسان إلی حمد اللّه والثناء علیه وتسبیحه وتقدیسه، فقال:
«ابْتَدَعَهُمْ خَلْقاً عَجِیباً مِنْ حَیَوَانٍ وَمَوَاتٍ، وَسَاکِنٍ وَذِی حَرَکَاتٍ». المراد من الموات، الجوامد کالأرض والسماء والنجوم والشمس والقمر، وبعضها ساکنة والأخری متحرکة (وإن کان هنالک رأی بحرکتها جمیعاً). والمراد من الابداع، الخلق من غیر مثال مسبق، وهذا موضوع فی غایة الأهمیّة، ذلک لأنّ جمیع ما سوی اللّه إنّما یحتذی الأمثلة المسبقة فی تصویره وصنعه وابداعه. ثم خاض فی شرح هذا الکلام فقال:
«وَأَقَامَ مِنْ شَوَاهِدِ الْبَیِّنَاتِ عَلَی لَطِیفِ صَنْعَتِهِ، وَعَظِیمِ قُدْرَتِهِ، مَا انْقَادَتْ لَهُ الْعُقُولُ مُعْتَرِفَةً بِهِ، وَمُسَلِّمَةً لَهُ، وَنَعَقَتْ(1) فِی أَسْمَاعِنَا دَلَائِلُهُ عَلَی وَحْدَانِیَّتِهِ». حقّاً أنّ الإنسان لو تعرّف علی العلوم الطبیعیة وخاض فی دراسة عجائب خلقة موجودات العالم لإنطلق نحو اللّه تبارک وتعالی.
ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی جانبٍ خاص من غرائب وعجائب العالم - الملی بالأسرار واللطائف - لیتحدث عن عالم الطیور ویشرح أسرارها، فقال:
«وَمَا ذَرَأَ(2) مِنْ مُخْتَلِفِ صُوَرِ الْأَطْیَارِ الَّتِی أَسْکَنَهَا أَخَادِیدَ(3) الْأَرْضِ، وَخُرُوقَ(4) فِجَاجِهَا(5) وَرَوَاسِی(6) أَعْلَامِهَا(7)»(8).
ص:252
هذا أول تنوع لخلق الطیور من حیث موضع سکنها، فبعضها کالبوم تلجأ إلی شقوق الأرض وتخرج عند الظلام، کما یسکن البعض فی الودیان کالفاخته والبعض الآخر فی سفوح الجبال کالنسر والعقاب، وقد أمدّ اللّه تعالی کلّا منها بما یتطلبه فی حیاته. طبعاً ماذکره الإمام علیه السلام فی العبارات المذکورة یقتصر علی نماذج من الحیوانات البحریة والأهلیة الألیفة من قبیل الطیور التی تعیش فی الغابات والأعشاش والصحاری ولکل عجائبه وغرائبه التی تحیر عقل الأنسان. فما ذکره الإمام علیه السلام تصنیف للطیور علی أساس سکنها.
ثم أشار إلی تصنیف آخر - علی أساس نوع الطیران والأجنحة - فقال:
«مِنْ ذَاتِ أَجْنِحَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهَیْئَاتٍ مُتَبَایِنَةٍ، مُصَرَّفَةٍ(1) فِی زِمَامِ التَّسْخِیرِ، وَمُرَفْرِفَةٍ(2) بِأَجْنِحَتِهَا فِی مَخَارِقِ(3) الْجَوِّ الْمُنْفَسِحِ(4) ، وَالْفَضَاءِ الْمُنْفَرِجِ». وهو ما أشیر إلیه فی القرآن بعدة آیات مثل: «أَلَمْ یَرَوْا إِلَی الطَّیْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِی جَوِّ السَّمَاءِ مَا یُمْسِکُهُنَّ إِلَّا اللّهُ إِنَّ فِی ذَلِکَ لَآیَاتٍ لِّقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ»(5).
ثم خاض الإمام علیه السلام فی تصنیف ثالث ورابع للطیور فمنها ما لها أشکال مختلفة وطیور ثقیلة الوزن تعجز عن الطیران وأخری خفیفة تحلق إلی عنان السماء فقال:
«کَوَّنَهَا بَعْدَ إِذْ لَمْ تَکُنْ فِی عَجَائِبِ صُوَرٍ ظَاهِرَةٍ، وَرَکَّبَهَا فِی حِقَاقِ(6) مَفَاصِلَ مُحْتَجِبَةٍ، وَمَنَعَ بَعْضَهَا بِعَبَالَةِ(7) خَلْقِهِ أَنْ یَسْمُوَ فِی الْهَوَاءِ خُفُوفاً(8) ، وَجَعَلَهُ یَدِفُّ
ص:253
دَفِیفاً(1)». نعم؛ فأشکال الطیور علی درجة من الاختلاف بما یذهل تنوعها عقل الإنسان، فبعضها غایة فی الجمال بما لا تشبع العین من رؤیته، والبعض الآخر له شکل مخیف غالباً ما یفزع الإنسان من مشاهدته، وبعضها ذات أقدام طویلة وکأنّ أجسامها حملت علی عمودین (کالنعامة واللقلق) والأخری قصیرة لا تری إلّا بصعوبة، ومنها الطیور ذات الجثة الضخمة والأخری النحیفة، کما تختلف مع بعضها فی الطیران فبعضها لا تستطیع الطیران لکنها تبسط جناحیها وتنطلق بسرعة، وتحلق الأخری إلی ارتفاعات منخفضة فتنهض من الأرض کنهوض الطائرة، أمّا البعض الآخر فیرتفع سریعاً من الأرض ویحلق فی عنان السماء مستفیداً من دفع أقدامه بالإضافة إلی الإستعانة بأجنحته (کحرکة المروحیات)، وتبقی بعض الطیور محلقة فی السماء لأسابیع دون أن تشعر بالتعب والملل، کالطیور المهاجرة التی تقطع أحیاناً نصف الکرة الأرضیة وتتغذی علی ما تدخره من مواد غذائیة. جدیر بالذکر أنّ بعض الطیور ذات الأجنحة المنبسطة والبدن الخفیف تستغنی عن بسط جناحیها حین تبلغ ذروة التحلیق وعلی العکس من ذلک الطیور ذات الجثة الثقیلة والتی لا غنی لها عن الأجنحة مهما حلقت. حقّاً أنّ الإنسان کلما تأمل هذه الأنواع تعرّف أکثر علی عظمة الخالق وعلمه المطلق وإرادته التامة.
وأشار علیه السلام فی المرحلة الرابعة إلی تنوع ألوان الطیور والذی یکشف أیضاً عن جانب من العجائب فقال:
«وَنَسَقَهَا(2) عَلَی اخْتِلَافِهَا فِی الْأَصَابِیغِ(3) بِلَطِیفِ قُدْرَتِهِ، وَدَقِیقِ صَنْعَتِهِ. فَمِنْهَا مَغْمُوسٌ(4) فِی قَالَبِ(5) لَوْنٍ لَایَشُوبُهُ غَیْرُ لَوْنِ مَا غُمِسَ فِیهِ؛
ص:254
وَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِی لَوْنِ صِبْغٍ قَدْ طُوِّقَ بِخِلَافِ مَا صُبِغَ بِهِ». فتنوع ألوان الطیور هو الآخر من العجائب. وقد قام البعض بإنشاء حدیقة کبیرة فی بعض المناطق تدعی حدیقة الطیور فضمت مختلف أنواع الطیور وتعیش ظروفاً کالظروف الطبیعیة للحیاة مع فارق بسیط هی أنّها أحیطت بسیاج کبیر بغیة المحافظة علیها، والحق أنّ کل من یتأمل ألوانها المتنوعة لیسحره منظرها الخلاب فیخیل إلیه أنّ رسّاماً ماهراً جلس لأیّام یخط هذه الألوان، فلا یملک الناظر سوی التوجه إلی اللّه بالحمد والثناء والتسبیح والتقدیس.
إنّ النظر إلی طائر جمیل والإبداع فی بنیة جناحه وبالتالی خلقه یجعل الإنسان مستغرقاً فی التوحید، فما ظنک لو قطعنا هذه الرحلة الطویلة فی عالم الطیور والتی تتطلب سنوات عدیدة. لقد ألف العلماء العدید من الکتب بشأن الأسرار المودعة فی الطیور ومختلف أنواعها وأقسامها بما فیها الطیور البریة والبحریة والمهاجرة وغیر المهاجرة، ولا یسع البحث لاستیعاب زاویة منها ولذلک نقتصر علی الإشارة إلی جانب منها، فمما قاله العلماء:
1. هنالک حوالی أربعة عشر ألف نوع من الطیور فی الکرة الأرضیة وقد دفع اختلافها العلماء إلی تصنیفها إلی عدّة فصائل، وبالطبع فإنّ لکل فصیلة آلاف المصادیق فی الخارج، ولا یخفی أنّ هنالک الآلاف المؤلفة أیضاً من الطیور فی الغابات والودیان التی لم یقف علیها الإنسان لحد الآن.
2. إنّ بعض الطیور کالنعامة التی تزن حوالی 100 کیلوغرام وتستطیع بأرجلها الطویلة أن تسیر بسرعة 95 کیلومتر بالساعة، وهنالک الطیور الخفیفة الصغیرة التی لا یتجاوز وزنها بضعة کیلو غرامات، وربّما لا تقل سرعة طیرانها عن سرعة سیر النعامة.
ص:255
3. إنّ خلقة کل طیر تتناسب مع بیئته وظروفه المحیطة وأوضاعه المعاشیة، فلبعضها منقار طویل وحاد یتمکن من صید الأسماک، ولبعضها منقار قصیر ومخروطی یستطیع کسر البذور النباتیة، کما هنالک المنقار النحیف والحاد الذی یمتص رحیق الأزهار، وأخیراً المنقار الذی یشبه السلة ویتمکن من صید عدد من الأسماک والاحتفاظ بها.
4. لیس لأی من الطیور أسنان لکنها تطحن الطعام وتمتصه فی أوعیتها الصلبة.
5. الطیور بیوضة عادة تنام علی بیضها لأیّام لتفقس عن أفراخ، طبعاً الاُنثی هی التی تنام علیها، کما یتناوب معها الذکر أحیاناً، وأحیاناً یحبس الذکر انثاه فی عش ولا یسمح لها بالخروج ولا یدع سوی فتحة صغیرة فی العش لیوصل إلیها ما تحتاج من غذاء.
6. بدن الطیور خفیف للغایة مستعد للطیران وهو ملیء بالغضاریف والغدد التی تساعدها علی الطیران.
7. لطیور الماء ویقصد بها الطیور العائمة فی المیاه وسواحل البحار برامج عجیبة فأحیاناً تستهدف طعامها تحت الماء من خلال اکتشافه بجهاز یشبه الرادار فتغوص فی الماء لتحصل علیه وبالطبع فإنّ جسمها دهنی لا یسمح بنفوذ الماء إلی داخلها.
8. ألوان الطیور من عجائب الخلقة، فهناک بعض الطیور الجمیلة التی تخطف الأبصار وتشرح القلوب حتی یظن الناظر أنّها رسمت بریشة فنان عبقری (وهذا من أبدع أمور الخلیقة التی رکز علیها الإمام علیه السلام فی الخطبة المذکورة) ولا یدرک الإنسان هذه العظمة دون النظر والتأمل.
9. أعشاش الطیور هی الأخری متنوعة وعجیبة، ورغم أنّها لا تمتلک الأیدی إلّا أنّها تصنع أعشاشها وتبنیها بدقّة متناهیة، فهنالک طائر یسمی (الخیّاط) یقوم بصنع عشه من خلال خیاطته لأوراق الأشجار حیث یستعین بمنقاره کأبرة وخیوطه ألیاف النباتات.
ص:256
10. طیور الصید لها أرجل وأجنحة قویة کالعقاب والغراب ولها رؤیة حادة وقویة بحیث تری حتی الحشرات الصغیرة فی الأرض وهی علی ارتفاعات فی السماء، وبعضها علی درجة من الضخامة بحیث یمکنها التقاط شاة وحملها معها.
11. وللطیور المهاجرة عالم غریب وعجیب فهی تنطلق أحیاناً من خط الإستواء نحو المناطق القطبیة وبالعکس فتقطع أکثر من عشرة آلاف کیلومتر دون أن تضل طریقها، فهی تحلق لأیام ولیالٍ دون تعب وتعکف قبل الهجرة غریزتاً علی جمع المواد الغذائیة لتستفید منها طیلة مدّة الهجرة.
12. للطیور مقاومة شدیدة لدرجات الحرارة والبرودة فهی صامدة حتی فی درجة تحت الصفر، وحرارة جسمها أعلی من درجة حرارة جسم الإنسان وتصل إلی 45 درجة فوق الصفر(1).
13. خدمات الطیور للإنسان کثیرة، فطعام أغلب هذه الطیور من الحشرات، وطیور الصید تحول دون مضاعفة نسل الطیور الأخری، وهنالک الطیور التی تتغذی علی المیتة فتطهر سواحل البحار وسطح الأرض کما تلعب دوراً فی القضاء علی الآفات.
14. نقل شارح نهج البلاغة عن کتاب روبرت لمن
«کل شیء عن الطیور» والذی ترجمه الدکتور بدران، أنّ البعض یعتقد أنّ علی وجه الأرض أکثر من مئة ملیارد طیر أکبرها النعامة التی یبلغ طولها مترین ونصف... وأصغرها الطنان وطوله خمسة سانتی مترات، وتحلق بسرعة حیث تبلغ سرعتها أکثر من تسعین کیلومتر بالساعة وتستطیع الوقوف مدّة طویلة فی الجو، وتبلغ خطوة بعض الطیور أکثر من ستة أمتار. وتحلق بعض الطیور إلی ستة آلاف متر فی الهواء بینما تغطس بعضها إلی
ص:257
عمق 18 متر(1). وزبدة الکلام فإنّالإنسان لا یملک إنّ تأمل هذا الخلق العجیب سوی الرکون للّه والإستسلام لقدرته المطلقة وصنعه العجیب.
ص:258
وَمِنْ أَعْجَبِهَا خَلْقاً الطَّاوُوسُ الَّذِی أَقَامَهُ فِی أَحْکَمِ تَعْدِیلٍ، وَنَضَّدَ أَلْوَانَهُ فِی أَحْسَنِ تَنْضِیدٍ، بِجَنَاحٍ أَشْرَجَ قَصَبَهُ، وَذَنَبٍ أَطَالَ مَسْحَبَهُ.
إِذَا دَرَجَ إِلَی الْأُنْثَی نَشَرَهُ مِنْ طَیِّهِ، وَسَمَا بِهِ مُطِلًّا عَلَی رَأْسِهِ کَأَنَّهُ قِلْعُ دَارِیٍّ عَنَجَهُ نُوتِیُّهُ.
یَخْتَالُ بِأَلْوَانِهِ، وَیَمِیسُ بِزَیَفَانِهِ. یُفْضِی کَإِفْضَاءِ الدِّیَکَةِ، وَیَؤُرُّ بِمَلَاقِحِهِ أَرَّ الْفُحُولِ الْمُغْتَلِمَةِ لِلضِّرَابِ. أُحِیلُکَ مِنْ ذلِکَ عَلَی مُعَایَنَةٍ، لَاکَمَنْ یُحِیلُ عَلَی ضَعِیفٍ إِسْنَادُهُ. وَلَوْ کَانَ کَزَعْمِ مَنْ یَزْعُمُ أَنَّهُ یُلْقِحُ بِدَمْعَةٍ تَسْفَحُهَا مَدَامِعُهُ، فَتَقِفُ فِی ضَفَّتَی جُفُونِهِ، وَأَنَّ أُنْثَاهُ تَطْعَمُ ذلِکَ، ثُمَّ تَبِیضُ لَامِنْ لِقَاحِ فَحْلٍ سِوَی الدَّمْعِ الْمُنْبَجِسِ، لَمَا کَانَ ذلِکَ بِأَعْجَبَ مِنْ مُطَاعَمَةِ الْغُرَابِ.
بعد أن تطرق الإمام علیه السلام فی المقطع السابق من الخطبة إلی عجائب عالم الطیور أشار هنا بالخصوص إلی أعجب وأجمل طیور الدنیا ألا وهو (الطاووس) الذی یضرب به المثل فی الجمال حتی یستفاد من ریشه الجمیل کعلامة للوصول إلی آیة معینة فی القرآن وصنع المکانس لنکث الغبار عن الأضرحة المقدّسة، حیث أشار الإمام علیه السلام الی بعض خصائص هذا الطائر فقال:
«وَمِنْ أَعْجَبِهَا خَلْقاً الطَّاوُوسُ الَّذِی أَقَامَهُ فِی أَحْکَمِ تَعْدِیلٍ، وَنَضَّدَ(1) أَلْوَانَهُ فِی أَحْسَنِ تَنْضِیدٍ، بِجَنَاحٍ
ص:259
أَشْرَجَ(1) قَصَبَهُ(2) ، وَذَنَبٍ أَطَالَ مَسْحَبَهُ(3)».
الشیء الأول الذی یلفت الانتباه فی الطاووس، الألوان الرائعة العجیبة لأجنحته وذیله الطویل نسبیاً حیث یخط وراءَه عندما یمشی ویتبختر کأنّه العروس الجمیلة فی لیلة زفافها. حقّاً لا یمکن وصف ألوان الطاووس بأی شکل من الأشکال، سوی أن یقف الإنسان مذهولاً أمام عظمة الخالق ویشاهد ویتمتع بهذا الطائر اللطیف. ما یجدر ذکره فی عالم الحیوانات أنّ الذکر یستغل مختلف الطرق بغیة جلب انتباه الاُنثی له، فأحیاناً عن طریق الصوت العذب وأخری، الحرکات الموزونة وبعض الحرکات الأخری، کما أشار الإمام علیه السلام إلی هذه النقطة المهمّة فقال:
«إِذَا دَرَجَ(4) إِلَی الْأُنْثَی نَشَرَهُ مِنْ طَیِّهِ(5) ، وَسَمَا بِهِ مُطِلًّا(6) عَلَی رَأْسِهِ». حقا أنّ بسط الطاووس لجناحه لمن أروع المناظر ویعکس حالة من النسق والنظام الرائع.
ثم أورد الإمام علیه السلام تشبیها لذلک فقال:
«کَأَنَّهُ قِلْعُ(7) دَارِیٍّ(8) عَنَجَهُ(9) نُوتِیُّهُ(10)». ربّما
ص:260
کان هذا التشبیه لأنّ حرکة الشراع نحو المقصد تمنح السفینة جمالاً خاصاً، الطاووس أیضاً عند حرکته وفتحه لمظلته یجلب انتباه الآخرین لجماله وروعته.
ثم قال علیه السلام:
«یَخْتَالُ(1) بِأَلْوَانِهِ، وَیَمِیسُ(2) بِزَیَفَانِهِ(3). یُفْضِی(4) کَإِفْضَاءِ الدِّیَکَةِ، وَیَؤُرُّ(5) بِمَلَاقِحِهِ(6) أَرَّ الْفُحُولِ الْمُغْتَلِمَةِ(7) لِلضِّرَابِ(8)». الواقع أنّ هذا الکلام مقدمة لابطال بعض خرافات عامة الناس بشأن هذا الطائر (ویالها من خرافات کثیرة یحیکها العوام بشأن عجائب الحیوانات) لذلک قال:
«أُحِیلُکَ مِنْ ذلِکَ عَلَی مُعَایَنَةٍ، لَا کَمَنْ یُحِیلُ عَلَی ضَعِیفٍ إِسْنَادُهُ».
ثم واصل علیه السلام کلامه قائلاً:
«وَلَوْ کَانَ کَزَعْمِ مَنْ یَزْعُمُ أَنَّهُ یُلْقِحُ بِدَمْعَةٍ تَسْفَحُهَا(9) مَدَامِعُهُ(10) ، فَتَقِفُ فِی ضَفَّتَی(11) جُفُونِهِ(12) ، وَأَنَّ أُنْثَاهُ تَطْعَمُ ذلِکَ، ثُمَّ تَبِیضُ لَامِنْ لِقَاحِ فَحْلٍ سِوَی الدَّمْعِ الْمُنْبَجِسِ(13) ، لَمَا کَانَ ذلِکَ بِأَعْجَبَ مِنْ مُطَاعَمَةِ(14) الْغُرَابِ». إشارة إلی عدم التعجب من هذه الخرافة التی قیلت بشأن الطاووس، فقد قیل الأعجب من ذلک بشأن الغراب، أنّه لیس هنالک من جماع لدی الغراب بل إنّ أراد لاُنثاه الحمل یضع منقاره فی منقارها وینقل إلیها مقداراً من الماء من القامصة الذکریة فتحمل، وهو کلام باطل ولقد شوهد الجماع کراراً لدی الغراب، وإن سعی إلی الإبتعاد عن
ص:261
أنظار الناس، وعلیه فعملیة الجماع لدیه خفیة حتی ضرب المثل به لدی العرب فقیل:
«أخفی من سفاد الغراب» ولعل سبب هذه الخرافة أنّ أغلب الطیور تضع مناقیرها أمام مناقیر الطیور الأخری قبل الجماع وهذا ما جعل البعض یلتبس علیه الأمر. وشبیه ذلک ما قیل فی الطاووس من أنّ الاُنثی تمتص دمع الذکر قبل الجماع(1).
سؤال: وهنا یطرح هذا السؤال نفسه: تری من الذی جعل الإمام علیه السلام یتعرض لهذه الخرافة بشأن الطاووس أو الغراب، والحال لو کان الأمر کذلک لکان من عجائب الخلقة وغرائبها؟
والجواب: أنّ الناس لو اتجهوا صوب الخرافات لإثبات العجائب والغرائب لاضطربت الواقعیات وسلبت نتائجها المطلوبة. والسؤال الآخر الذی یرد هنا لم یکن فی الحجاز طاووس لیری الإمام علیه السلام عملیة التلقیح فکیف ورد هذا الکلام؟
أجاب ابن أبی الحدید فی شرحه لهذه الخطبة من نهج البلاغة أنّ المدینة وإن خلت من هذا الطائر غیر أنّ الإمام علیه السلام أورد هذه الخطبة فی الکوفة التی کان یجلب إلیها کل شیء بما فیها هدایا وصفایا الملوک، وعلیه فلیس من العجیب أنّ الإمام علیه السلام شاهد الطاووس وحرکاته(2).
ص:262
تَخَالُ قَصَبَهُ مَدَارِیَ مِنْ فِضَّةٍ، وَمَا أُنْبِتَ عَلَیْهَا مِنْ عَجِیبِ دَارَاتِهِ، وَشُمُوسِهِ خَالِصَ الْعِقْیَانِ، وَفِلَذَ الزَّبَرْجَدِ. فَإِنْ شَبَّهْتَهُ بِمَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ قُلْتَ: جَنیً جُنِیَ مِنْ زَهْرَةٍ کُلِّ رَبِیعٍ. وَإِنْ ضَاهَیْتَهُ بِالْمَلَابِسِ فَهُوَ کَمُوشِیِّ الْحُلَلِ، أَوْ کَمُونِقِ عَصْبِ الْیَمَنِ. وَإِنْ شَاکَلْتَهُ بِالْحُلِیِّ فَهُوَ کَفُصُوصٍ ذَاتِ أَلْوَانٍ، قَدْ نُطِّقَتْ بِاللُّجَیْنِ الْمُکَلَّلِ. یَمْشِی مَشْیَ الْمَرِحِ الْمُخْتَالِ، وَیَتَصَفَّحُ ذَنَبَهُ وَجَنَاحَیْهِ، فَیُقَهْقِهُ ضَاحِکاً لِجَمَالِ سِرْبَالِهِ، وَأَصَابِیغِ وَشَاحِهِ؛ فَإِذَا رَمَی بِبَصَرِهِ إِلَی قَوَائِمِهِ زَقَا مُعْوِلاً بِصَوْتٍ یَکَادُ یُبِینُ عَنِ اسْتِغَاثَتِهِ، وَیَشْهَدُ بِصَادِقِ تَوَجُّعِهِ، لِأَنَّ قَوَائِمَهُ حُمْشٌ کَقَوَائِمِ الدَّیْکَةِ الْخِلَاسِیَّةِ. وَقَدْ نَجَمَتْ مِنْ ظُنْبُوبِ سَاقِهِ صِیصِیَةٌ خَفِیَّةٌ.
أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی عجیب خلقة الطاووس من خلال وصف جناحه وریشه الملون الرائع لیشرح ذلک بعبارات فصیحة بلیغة وتشبیهات غایة فی الروعة فقال:
«تَخَالُ قَصَبَهُ(1) مَدَارِیَ(2) مِنْ فِضَّةٍ، وَمَا أُنْبِتَ عَلَیْهَا مِنْ عَجِیبِ دَارَاتِهِ(3) ، وَشُمُوسِهِ خَالِصَ الْعِقْیَانِ(4) ، وَفِلَذَ(5) الزَّبَرْجَدِ(6)».
ص:263
یعلم کل من رأی ریش الطاووس أنّ ألوانه خارقة فی الجمال، إلّاأنّ هنا لک لونین یجلیان الإنتباه أکثر من غیرهما، هما اللون الأصفر - الذی یلمع کالذهب الخالص، واللون الأخضر الذی یشبه قطعات الزبرجد (ذلک الحجر النفیس الأخضر اللون والذی یستخدم فی الزینة وتاج الملوک) ومن هنا رکز الإمام علی هذین اللونین من بین سائر الألوان، والغریب أنّ جمیع ریشه الجمیل ینبت علی قصبة بیضاء شبهها الإمام علیه السلام بالفضة. ثم شبّه الإمام علیه السلام جناحی الطاووس بغیة زیادة التوضیح تارةً بالأزهار الربیعیة المتنوعة الألوان وأخری، بالثیاب النفیسة الملونة.
وأخیراً التیجان المرصعة بها، فقال:
«فَإِنْ شَبَّهْتَهُ بِمَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ قُلْتَ: جَنیً(1) جُنِیَ مِنْ زَهْرَةٍ کُلِّ رَبِیعٍ». ذکر بعض شرّاح نهج البلاغة أنّه یوجد فی بعض البلدان عشرة آلاف نوع من البراعم والزهور ولکل جماله الخاص به.
ثم ذکر الإمام علیه السلام تشبیها آخر وعبارة رائعة فقال:
«وَإِنْ ضَاهَیْتَهُ(2) بِالْمَلَابِسِ فَهُوَ کَمُوشِیِّ(3) الْحُلَلِ، أَوْ کَمُونِقِ(4) عَصْبِ الْیَمَنِ» والتشبیه الثالث والأخیر:
«وَإِنْ شَاکَلْتَهُ بِالْحُلِیِّ فَهُوَ کَفُصُوصٍ(5) ذَاتِ أَلْوَانٍ، قَدْ نُطِّقَتْ بِاللُّجَیْنِ(6) الْمُکَلَّلِ(7)». فقد کان لقدماء الملوک تیجان مفعمة بالنقوش والألوان وملیئة بالمجوهرات حیث یجعلون المجوهرات علی شریط أو یخیطونها علیه بخیوط رقیقة لیزینوا بها تیجانهم.
ص:264
والقصبات التی تتوسط جناحی الطاووس - کما وردت سابقاً فی عبارة الإمام علیه السلام - بیضاء کالفضة والریش علی جانبیها کالمجوهرات. الواقع، أنّ النقوش الجمیلة والملونة لا تعدو عادة أحد هذه الأشیاء الثلاثة: باقة الورد والملابس والجواهر. وقد استعان الإمام علیه السلام بالتشبیهات الثلاثة بتلک العبارات الفصیحة البلیغة لیجسد جمالیة ریش الطاووس.
ثم واصل علیه السلام کلامه لیخوض فی شرح الطاووس من خلال مشیه ونظرته لنفسه فقال:
«وَإِنْ شَاکَلْتَهُ بِالْحُلِیِّ فَهُوَ کَفُصُوصٍ ذَاتِ أَلْوَانٍ، قَدْ نُطِّقَتْ بِاللُّجَیْنِ الْمُکَلَّلِ، یَمْشِی مَشْیَ الْمَرِحِ(1) الْمُخْتَالِ(2) ، وَیَتَصَفَّحُ ذَنَبَهُ وَجَنَاحَیْهِ،(3) فَیُقَهْقِهُ ضَاحِکاً لِجَمَالِ سِرْبَالِهِ، وَأَصَابِیغِ(4) وَشَاحِهِ(5) ؛ فَإِذَا رَمَی بِبَصَرِهِ إِلَی قَوَائِمِهِ زَقَا(6) مُعْوِلاً(7) بِصَوْتٍ یَکَادُ یُبِینُ عَنِ اسْتِغَاثَتِهِ، وَیَشْهَدُ بِصَادِقِ تَوَجُّعِهِ، لِأَنَّ قَوَائِمَهُ حُمْشٌ(8) کَقَوَائِمِ الدَّیْکَةِ الْخِلَاسِیَّةِ(9). وَقَدْ نَجَمَتْ(10) مِنْ ظُنْبُوبِ(11) سَاقِهِ صِیصِیَةٌ(12) خَفِیَّةٌ». فقد أشار الإمام علیه السلام إلی نقطة لطیفة وهی أنّ اللّه سبحانه جعل فی هذا الطائر بعض نقاط الضعف رغم آیات الجمال، وإذا ما شعر حیناً بالغرور ودفعه ذلک للضحک بالقهقهة فإنّه لا یکاد یخفی ألمه إن وقعت عینیه علی نقصه. وبالطبع فإنّ هذا نموذج من عالم الخلق الذی حال فیه الحکیم دون الغرور والطغیان الناشیء من الشعور بالقوّة حیث جعل قدراً من الضعف والنقص بغیة التوازن والقضاء علی الغرور والغفلة. فهنالک الکسل والعجز الذی یطارد الشباب والنشاط، والمرض والسقم الذی یتبع الصحة والعافیة،
ص:265
والفقر الذی یجری خلف الغنی، وإدبار الدنیا الذی یحثّ الخطی نحو إقبالها. نعم هذه إحدی فلسفات المرض والعجز وسائر المحن والویلات.
ص:266
وَلَهُ فِی مَوْضِعِ الْعُرْفِ قُنْزُعَةٌ خَضْرَاءُ مُوَشَّاةٌ. وَمَخْرَجُ عُنُقِهِ کَالْإِبْرِیقِ، وَمَغْرزُهَا إِلَی حَیْثُ بَطْنُهُ کَصِبْغِ الْوَسِمَةِ الْیَمَانِیَّةِ، أَوْ کَحَرِیرَةٍ مُلْبَسَةٍ مِرْآةً ذَاتَ صِقَالٍ، وَکَأَنَّهُ مُتَلَفِّعٌ بِمِعْجَرٍ أَسْحَمَ؛ إِلَّا أَنَّهُ یُخَیَّلُ لِکَثْرَةِ مَائِهِ، وَشِدَّةِ بَرِیقِهِ، أَنَّ الْخُضْرَةَ النَّاضِرَةَ مُمْتَزِجَةٌ بِهِ. وَمَعَ فَتْقِ سَمْعِهِ خَطٌّ کَمُسْتَدَقِّ الْقَلَمِ فِی لَوْنِ الْأُقْحُوَانِ، أَبْیَضُ یَقَقٌ، فَهُوَ بِبَیَاضِهِ فِی سَوَادِ مَا هُنَالِکَ یَأْتَلِقُ. وَقَلَّ صِبْغٌ إِلَّا وَقَدْ أَخَذَ مِنْهُ بِقِسْطٍ، وَعَلَاهُ بِکَثْرَةِ صِقَالِهِ وَبَرِیقِهِ، وَبَصِیصِ دِیبَاجِهِ وَرَوْنَقِهِ، فَهُوَ کَالْأَزَاهِیرِ الْمَبْثُوثَةِ، لَمْ تُرَبِّهَا أَمْطَارُ رَبِیعٍ، وَلَا شُمُوسُ قَیْظٍ.
خاض الإمام علیه السلام هنا بعبارات فصیحة بلیغة فی خمس خصائص أخری تعکس جمال الطاووس لیذکر من خلالها هذه الجمالیة علی ضوء مظاهر جمال اللّه وجلاله، فقال:
«وَلَهُ فِی مَوْضِعِ الْعُرْفِ(1) قُنْزُعَةٌ(2) خَضْرَاءُ مُوَشَّاةٌ(3)». العرف عند العرب، شعیرات طویلة تبدأ من أعلی الکتف والرقبة حتی خلف الرأس لتنتهی بین الأذنین فیکون کالتاج وحیث هذا التاج أخضر براق فی الطاووس فإنّه یمنحه جمالاً یسحر الأبصار ویلفت نظر الإنسان إلی مبدأ هذا الجمال الساحر.
ص:267
وقال فی الخاصیة الثانیة:
«وَمَخْرَجُ عُنُقِهِ کَالْإِبْرِیقِ(1) ، وَمَغْرزُهَا(2) إِلَی حَیْثُ بَطْنُهُ کَصِبْغِ الْوَسِمَةِ(3) الْیَمَانِیَّةِ، أَوْ کَحَرِیرَةٍ مُلْبَسَةٍ مِرْآةً ذَاتَ صِقَالٍ(4)».
وقال فی الثالثة:
«وَکَأَنَّهُ مُتَلَفِّعٌ(5) بِمِعْجَرٍ(6) أَسْحَمَ(7) ؛ إِلَّا أَنَّهُ یُخَیَّلُ لِکَثْرَةِ مَائِهِ، وَشِدَّةِ بَرِیقِهِ، أَنَّ الْخُضْرَةَ النَّاضِرَةَ مُمْتَزِجَةٌ بِهِ».
وقال فی الخاصیة الرابعة:
«وَمَعَ فَتْقِ سَمْعِهِ خَطٌّ کَمُسْتَدَقِّ(8) الْقَلَمِ فِی لَوْنِ الْأُقْحُوَانِ(9) ، أَبْیَضُ یَقَقٌ(10) ، فَهُوَ بِبَیَاضِهِ فِی سَوَادِ مَا هُنَالِکَ یَأْتَلِقُ(11)».
وأخیراً قال فی الخاصیة الخامسة:
«وَقَلَّ صِبْغٌ إِلَّا وَقَدْ أَخَذَ مِنْهُ بِقِسْطٍ، وَعَلَاهُ بِکَثْرَةِ صِقَالِهِ وَبَرِیقِهِ(12) ، وَبَصِیصِ(13) دِیبَاجِهِ وَرَوْنَقِهِ(14) ، فَهُوَ کَالْأَزَاهِیرِ الْمَبْثُوثَةِ، لَمْ تُرَبِّهَا أَمْطَارُ رَبِیعٍ، وَلَا شُمُوسُ قَیْظٍ(15)».
إنّ التمعن فی هذه الخواص الخمس للطاووس إضافة لما ذکر فی مقاطع الخطبة السابقة یکشف من جانب، عن عظمة وقدرة المصور الماهر الذی جمع کل هذا الحسن والجمال فی هذا المخلوق وجعله نموذجاً لأنواع الجمال، حیث أدنی وقفة
ص:268
عند هذا المخلوق دلیل علی وجود الخالق سوی لهذا المخلوق البدیع لکفی فی الوقوف علی الخالق العظیم، وکلما أوغل الإنسان أکثر وتعمق أصبح أکثر خضوعاً لخالقه الحکیم ونطق بلسان حاله: یا لک من مخلوق رائع جمیل، فما أجمل من خلقک ومنحک کل هذا الجمال. ومن جانب آخر، نقف علی مدی عظمة هذا الإمام العظیم بطل التوحید ومدی دقته فی عرض عجائب وجمال عالم الخلقة وإرشاده الخلق إلی الخالق، والحق أنّ أحداً لم یستطع أن یتحدث عن جمال هذا الطائر کما تحدث الإمام علیه السلام.
ص:269
ص:270
وَقَدْ یَنْحَسِرُ مِنْ رِیشِهِ، وَیَعْرَی مِنْ لِبَاسِهِ، فَیَسْقُطُ تَتْرَی، وَیَنْبُتُ تِبَاعاً، فَیَنْحَتُّ مِنْ قَصَبِهِ انْحِتَاتَ أَوْرَاقِ الْأَغْصَانِ، ثُمَّ یَتَلَاحَقُ نَامِیاً حَتَّی یَعُودَ کَهَیْئَتِهِ قَبْلَ سُقُوطِهِ، لَایُخَالِفُ سَالِفَ أَلْوَانِهِ، وَلَا یَقَعُ لَوْنٌ فِی غَیْرِ مَکَانِهِ! وَاِذَا تَصَفَّحْتَ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ قَصَبِهِ أَرَتْکَ حُمْرَةً وَرْدِیَّةً، وَتَارَةً خُضْرَةً زَبَرْجَدِیَّةً، وَأَحْیَاناً صُفْرَةً عَسْجَدِیَّةً، فَکَیْفَ تَصِلُ إِلَی صِفَةِ هذَا عَمَائِقُ الْفِطَنِ، أَوْ تَبْلُغُهُ قَرَائِحُ الْعُقُولِ، اوْ تَسْتَنْظِمُ وَصْفَهُ أَقْوَالُ الْوَاصِفِینَ!
وَأَقَلُّ أَجْزَائِهِ قَدْ أَعْجَزَ الْأَوْهَامَ أَنْ تُدْرِکَهُ، وَالْأَلْسِنَةَ أَنْ تَصِفَهُ! فَسُبْحَانَ الَّذِی بَهَرَ الْعُقُولَ عَنْ وَصْفِ خَلْقٍ جَلَّاهُ لِلْعُیُونِ، فَأَدْرَکَتْهُ مَحْدُوداً مُکَوَّناً، وَمُؤَلَّفاً مُلَوَّناً؛ وَاَعْجَزَ الْأَلْسُنَ عَنْ تَلْخِیصِ صِفَتِهِ، وَقَعَدَ بِهَا عَنْ تَأْدِیَةِ نَعْتِهِ!
أشار الإمام فی هذا المقطع والذی یمثل ختام الکلام فی الطاووس إلی أمرین مهمین؛ الأول قال:
«وَقَدْ یَنْحَسِرُ(1) مِنْ رِیشِهِ، وَیَعْرَی مِنْ لِبَاسِهِ، فَیَسْقُطُ تَتْرَی(2) ، وَیَنْبُتُ تِبَاعاً، فَیَنْحَتُّ(3) مِنْ قَصَبِهِ انْحِتَاتَ أَوْرَاقِ الْأَغْصَانِ، ثُمَّ یَتَلَاحَقُ نَامِیاً حَتَّی یَعُودَ کَهَیْئَتِهِ قَبْلَ سُقُوطِهِ».
ص:271
ثم قال:
«لَا یُخَالِفُ سَالِفَ أَلْوَانِهِ، وَلَا یَقَعُ لَوْنٌ فِی غَیْرِ مَکَانِهِ!». لا شک فی أنّ ریش الطاووس ورغم کل هذا الجمال لکنه قد یتعرض مع مرور الزمان إلی الإتساخ بالتراب والغبار، ومن هنا فإنّ اللّه تعالی ینزع عنه کل سنة لباسه القدیم ویغطی جسمه بلباس جدید وجمیل لیبقی غضاً جمیلاً علی الدوام. غالباً ما تسقط أوراق الأشجار فی فصل الخریف ویسلب الطاووس نشاطه وحیویته، وحین تتفتح الأزهار فی فصل الربیع تدب الحیویة فی الطاووس ویکتسی حلة جدیدة ملونة تجعل قصبه الأبیض الفضی اللون یبدو کسیقان الأشجار.
ثم أشار الإمام علیه السلام إلی نقطة لطیفة فقال:
«وَاِذَا تَصَفَّحْتَ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ قَصَبِهِ أَرَتْکَ حُمْرَةً وَرْدِیَّةً، وَتَارَةً خُضْرَةً زَبَرْجَدِیَّةً، وَأَحْیَاناً صُفْرَةً عَسْجَدِیَّةً(1)». لما کانت علی ریش الطاووس دوائر جمیلة بألوان مختلفة، وکل لون یختص بخصلة معینة لتبدو بصورة رائعة.
وأخیراً یخلص الإمام علیه السلام إلی هذه النتیجة فقال:
«فَکَیْفَ تَصِلُ إِلَی صِفَةِ هذَا عَمَائِقُ(2) الْفِطَنِ، أَوْ تَبْلُغُهُ قَرَائِحُ(3) الْعُقُولِ، اوْ تَسْتَنْظِمُ وَصْفَهُ أَقْوَالُ الْوَاصِفِینَ! وَأَقَلُّ أَجْزَائِهِ قَدْ أَعْجَزَ الْأَوْهَامَ أَنْ تُدْرِکَهُ وَالْأَلْسِنَةَ أَنْ تَصِفَهُ!». نعم؛ إن عجز الإنسان العاقل والمفکر عن الوقوف علی عجائب الطاووس وتعذر علیه وصفه وإدراکه فکیف بعالم الخلقة وأسراره؟! وإضافة إلی النتیجة السابقة الواضحة فی موضوع معرفة اللّه وإدراک عظمة الخالق وسعة علمه وقدرته إنّما خلص إلی نتیجة أخری، فإن عجزنا عن إدراک کائن من هذه الکائنات فکیف لنا بإدراک کنه الذات والصفات والتعرّف علی اللّه کما هو(4) ، فقال:
«فَسُبْحَانَ الَّذِی
ص:272
بَهَرَ(1) الْعُقُولَ عَنْ وَصْفِ خَلْقٍ جَلَّاهُ(2) لِلْعُیُونِ، فَأَدْرَکَتْهُ مَحْدُوداً مُکَوَّناً، وَمُؤَلَّفاً مُلَوَّناً؛ وَاَعْجَزَ الْأَلْسُنَ عَنْ تَلْخِیصِ(3) صِفَتِهِ، وَقَعَدَ بِهَا عَنْ تَأْدِیَةِ نَعْتِهِ!».
إنّ عالم الخلیقة لعجیب کیفما نظرنا إلیه، إلّاأنّ هنالک البعض الأعجب غیره ومن ذلک الطاووس. فهذا الطائر فرید فی الجمال ومن هنا ضرب به المثل. لقد اصطبغ ریشه بعدّة ألوان جمیلة، وإن نشر جناحیه بدأ أکثر جمالاً وروعة ویفعل ذلک علی وجه السرعة حین تلحظه أنثاه لیلفت نظرها إلیه، فهو یبدو کالعروس التی ترتدی حلتها لیلة الزفاف، ویشعر بالمتعة من هذا المنظر فیمشی باختیال وغرور ویختتم ذلک بقهقهة ضاحکاً.
یبلغ عمر الطاووس 25-20 سنة وتبیض الاُنثی فی الثالثة من العمر، تبیض الاُنثی عادة مرّة فی العام وتضع 12 بیضة، إلّاأنّ کثرة حرکاته تجعله لا یحافظ علی بیوضه، لذلک توضع البیضة تحت بطن آخر لتفقس، یعتبره الیونانون والرومانیون طائراً مقدّساً، بینما یراه الآخرون مشؤوماً أدی إلی دخول ابلیس إلی الجنّة، یبلغ طوله من منقاره إلی انتهاء ذیله أکثر من مترین، والأنثی أقصر من الذکر.
وکما ذکر الإمام علیه السلام فی الخطبة المذکورة فإنّ هنالک خرافة سائدة بین الناس بشأن حمل الطاووس وأنّ الذکر حین یتهیج یضع قطرة دمع فی عین الانثی فتمتصها
ص:273
وتحمل، والواقع أنّه یلقح انثاه علی أساس الجماع کما لوحظ ذلک کثیراً. عادة ما یربی هذا الطائر الجمیل الذی یستفاد منه فی الزینة، وهنالک من یتناول لحمه، غیر أنّ الشریعة الإسلامیة حرمت ذلک(1).
ص:274
وَسُبْحَانَ مَنْ أَدْمَجَ قَوَائِمَ الذَّرَّةِ وَالْهَمَجَةِ إِلَی مَا فَوْقَهُمَا مِنْ خَلْقِ الْحِیتَانِ وَالْفِیَلَةِ! وَوَأَی عَلَی نَفْسِهِ إِلَّا یَضْطَرِبَ شَبَحٌ مِمَّا أَوْلَجَ فِیهِ الرُّوحَ، إِلَّا وَجَعَلَ الْحِمَامَ مَوْعِدَهُ، وَالْفَنَاءَ غَایَتَهُ.
أشار الإمام هنا بصورة عابرة إلی عجائب سائر الأحیاء حتی لا یتصور أنّ العجائب تقتصر علی الطاووس، فقال:
«وَسُبْحَانَ مَنْ أَدْمَجَ(1) قَوَائِمَ(2) الذَّرَّةِ(3) وَالْهَمَجَةِ(4) إِلَی مَا فَوْقَهُمَا مِنْ خَلْقِ الْحِیتَانِ(5) وَالْفِیَلَةِ!». فقد أشار الإمام إلی حشرتین من أصغر الحشرات علی الأرض صغار النمل والذباب وإلی أضخم وأکبر حیوانین هما الحوت فی البحار والفیل فی الیابسة، ولقد لفت الإنتباه إلی أیدی وأرجل صغار الحشرات، الید والرجل التی تضاهی ید الفیل ورجله فتتحرک یمیناً وشمالاً وتأخذ أوامرها من الدماغ وتشتمل علی الأعصاب والعضلات والمفاصل وما شابه ذلک، والحق لو جعلنا رجل هذه الدودة الصغیرة تحت المجهر وتأملنا بنیتها لتعرفنا علی قدرة اللّه تعالی وعلمه المطلق.
ص:275
کذلک لو تأملنا الحیوانات الکبیرة حیث إنّ زنة بعض الحیتان تبلغ طناً وترضع فراخها اللبن تحت الماء، حیث تسکب الأُم اللبن فی الماء ویمتصه الولید فوراً، وتنطوی سائر عجائبها علی الدروس البلیغة فی التوحید ومعرفة اللّه، نعم؛ إنّ هذه الدیدان - علی سبیل المثال - کثیرة من حولنا وقد اعتدنا علی رؤیتها فلم نعد نلفت إلی أنّ بنیتها تفوق بنیة الطائرة الضخمة. قال اللّه تعالی فی کتابه العزیز: «وَکَأَیِّنْ مِّنْ آیَةٍ فِی السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ یَمُرُّونَ عَلَیْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ»(1).
وأشار الإمام علیه السلام أخیراً إلی مصیر الأحیاء کافّة، أی الموت والعدم، فقال:
«وَوَأَی(2) عَلَی نَفْسِهِ إِلَّا یَضْطَرِبَ شَبَحٌ(3) مِمَّا أَوْلَجَ فِیهِ الرُّوحَ، إِلَّا وَجَعَلَ الْحِمَامَ مَوْعِدَهُ، وَالْفَنَاءَ غَایَتَهُ». أجل؛ إنّ الموت هو مصیر کل ذی روح وهذا الکلام هو إشارة إلی أنّ الدنیا لا تدوم رغم کل ما فیها من جمال وعجائب ولا یمکن التعلق بها، ومن جانب آخر یمکن الوقوف علی عظمة اللّه تعالی بصورة أفضل من خلال مقارنة موت هذه الموجودات بحیاتها، لأنّ أهمیّة کل شیء تظهر حین فنائه.
سنخوض فی شرح الخطبة 185 التی أوردها الإمام علیه السلام بشأن النمل إن شاء اللّه، ونشیر هنا إلی الحیتان والفیلة بصورة مختصرة:
یقول العلماء: إنّ هنالک خمسة عشر ألف نوع من الحیتان فی بحار ومحیطات العالم، بعضها صغیرة جدّاً لا تتجاوز سانتیمترین وبعضها الآخر کالحوت الذی یبلغ
ص:276
طوله ثلاثین متراً ویزن ثلاثین طناً تنطوی علی العدید من العجائب. فمعدتها کبیرة جدّاً تستوعب الکثیر من المواد الغذائیة، ویبلغ طول ولیدها ستة أمتار حین الولادة.
وتتغذی فراخها علی لبنها الذی یخرج من بدنها بغزارة. تتحرک دائماً علی سطح الماء للتنفس ولا تستطیع البقاء أکثر من ساعة تحت الماء، فهی أکبر الحیوانات علی الأرض وتعتبر من الثدیات. أبدانها دهنیة، یستفاد منها فی الصناعات المختلفة ولا تملک أسناناً بل لها شفرات عظیمة طویلة وخطیرة تشبه الأسنان ویستفید الصیادون من هذه الشفرات والغدد الدهنیة.
یعتبر الفیل فی الوقت الحاضر من أکبر الحیوانات، والفیلة نوعان: الفیلة الهندیة ویطلق علیها الفیلة الأسیویة، والآخر، الفیلة الأفریقیة. والفیلة الأسیویة أکبر ومستعدة للتربیة أکثر من نظیرتها الأفریقیة. والواقع هو أنّ خرطوم الفیل بمثابة أنفه وشفته العلیا، غیر أنّه یقوم بعمل الید عادة، أی أنّ الفیل یحمل الطعام بیده إلی فمه ویقذف الماء علی ظهره عند الحرارة. یتغذی الفیل علی العلف حیث یجمعه من الأرض بخرطومه ویضعه فی فمه، کما یستعین بعاجه القوی والحاد علی اقتلاع الأشیاء من الأرض. الفیل حیوان ذکی جدّاً یمکن ترویضه للقیام بعدّة أعمال، کما یقوم بالعدید من الحرکات السریعة والعجیبة فی السیرک. تعیش الفیلة بصورة جماعیة وهذا بدوره دلیل علی ذکائها. تعمر أحیاناً مائة وخمسین سنة! تعرف أسنان الفیل (بالعاج) الذی یعتبر من الأشیاء النفیسة والذی تصنع منه أشیاء الزینة.
کان قدماء الملوک والسلاطین عادة ما یشکلون جیشاً من الفیلة ویزینون فیلتهم وینصبون علیها الأعلام. نعم؛ عجائب الحیتان والفیلة أکبر من أن تختصر فی هذا البحث، وغرض الإمام علیه السلام من التطرق إلی هذه الخصاص إلفات الإنتباه إلی آیات الخلقة العظیمة(1).
ص:277
ص:278
فَلَوْ رَمَیْتَ بِبَصَرِ قَلْبِکَ نَحْوَ مَا یُوصَفُ لَکَ مِنْهَا لَعَزَفَتْ نَفْسُکَ عَنْ بَدَائِعِ مَا أُخْرِجَ إِلَی الدُّنْیَا مِنْ شَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا، وَزَخَارِفِ مَنَاظِرِهَا، وَلَذَهِلَتْ بِالْفِکْرِ فِی اصْطِفَاقِ أَشْجَارٍ غُیِّبَتْ عُرُوقُهَا فِی کُثْبَانِ الْمِسْکِ عَلَی سَوَاحِلِ أَنْهَارِهَا، وَفِی تَعْلِیقِ کَبَائِسِ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فِی عَسَالِیجِهَا وَأَفْنَانِهَا، وَطُلُوعِ تِلْکَ الثِّمَارِ مُخْتَلِفَةً فِی غُلُفِ أَکْمَامِهَا، تُجْنَی مِنْ غَیْرِ تَکَلُّفٍ فَتَأْتی عَلَی مُنْیَةِ مُجْتَنِیهَا، وَیُطَافُ عَلَی نُزَّالِهَا فِی أَفْنِیَةِ قُصُورِهَا بِالْأَعْسَالِ الْمُصَفَّقَةِ، وَالْخُمُورِ الْمُرَوَّقَةِ. قَوْمٌ لَمْ تَزَلِ الْکَرَامَةُ تَتَمَادَی بِهِمْ حَتَّی حَلُّوا دَارَ الْقَرَارِ، وَأَمِنُوا نُقْلَةَ الْأَسْفَارِ. فَلَوْ شَغَلْتَ قَلْبَکَ أَیُّهَا الْمُسْتَمِعُ بِالْوُصُولِ إِلَی مَا یَهْجُمُ عَلَیْکَ مِنْ تِلْکَ الْمَنَاظِرِ الْمُونِقَةِ، لَزَهِقَتْ نَفْسُکَ شَوْقاً إِلَیْهَا، وَلَتَحَمَّلْتَ مِنْ مَجْلِسِی هذَا إِلَی مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْقُبُورِ اسْتِعْجَالاً بِهَا. جَعَلَنَا اللّهُ وَإِیَّاکُمْ مِمَّنْ یَسْعَی بِقَلْبِهِ إِلَی مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ بِرَحْمَتِهِ.
یشیر هذا المقطع من الخطبة کما یفهم من مضمونه وصرح به السید الرضی إلی صفات الجنّة، وبالطبع فإنّ هنالک مطالب أخری بین هذا المقطع وما سبقه إلّاأنّ السید اقتطف هذه الریاحین کعادته، لکن یبدو أنّ الإمام تحدث سابقاً عن التوحید، بینما تطرق هنا إلی المعاد، لیتکامل مبحث المبدأ والمعاد، أو بعبارة أخری یعرض لنعم الجنّة بعد هذه الدنیا. فقال:
«فَلَوْ رَمَیْتَ بِبَصَرِ قَلْبِکَ نَحْوَ مَا یُوصَفُ لَکَ مِنْهَا
ص:279
لَعَزَفَتْ(1) نَفْسُکَ عَنْ بَدَائِعِ مَا أُخْرِجَ إِلَی الدُّنْیَا مِنْ شَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا، وَزَخَارِفِ مَنَاظِرِهَا، وَلَذَهِلَتْ(2) بِالْفِکْرِ فِی اصْطِفَاقِ(3) أَشْجَارٍ غُیِّبَتْ عُرُوقُهَا فِی کُثْبَانِ(4) الْمِسْکِ عَلَی سَوَاحِلِ أَنْهَارِهَا».
وما أنّ فرغ الإمام علیه السلام من وصف الأشجار فی الجنّة، حتی تطرق إلی ثمارها فقال:
«وَفِی تَعْلِیقِ کَبَائِسِ(5) اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فِی عَسَالِیجِهَا(6) وَأَفْنَانِهَا(7) ، وَطُلُوعِ تِلْکَ الثِّمَارِ مُخْتَلِفَةً فِی غُلُفِ(8) أَکْمَامِهَا(9) ، تُجْنَی(10) مِنْ غَیْرِ تَکَلُّفٍ فَتَأْتی عَلَی مُنْیَةِ مُجْتَنِیهَا».
إنّ أحد معضلات أشجار الفاکهة فی الدنیا یکمن فی جنیها الذی ینطوی علی متاعب جمة، إلی درجة أنّ البعض یتسلق الشجرة لعملیة الجنی، فیفقد حیاته. هذه هی طبیعة الدنیا فی مزج اللذّة بالألم، أمّا فی الجنّة حیث لا موضع للألم وکل شیء علی ما یرام وطبق المراد فإنّ ثمار الأشجار فی متناول الجمیع، وعلی کل حال، سوی الوقوف أو الجلوس، بل علی أساس بعض الروایات أنّ غصون الشجرة تحضر بثمارها عند الشخص کلما اشتهاها: «قُطُوفُهَا دَانِیَةٌ»(11) ، وفی أیة أخری:
ص:280
«وَجَنَی الْجَنَّتَیْنِ دَانٍ»(1).
ثم خاض الإمام علیه السلام فی النعمة الأخری فی الجنّة فقال:
«وَیُطَافُ عَلَی نُزَّالِهَا فِی أَفْنِیَةِ(2) قُصُورِهَا بِالْأَعْسَالِ الْمُصَفَّقَةِ، وَالْخُمُورِ الْمُرَوَّقَةِ(3)». وقد أشار القرآن إلی الشراب الطهور اللذیذ فی الجنّة الذی لا یصیب الرأس بالصداع ولا یذهب بعقل الإنسان، ومن ذلک ما ورد فی سورة الدهر التی أشارت إلی هذا الشراب اللذیذ وأربع صور وطبائع: «إِنَّ الْأَبْرَارَ یَشْرَبُونَ مِنْ کَأْسٍ کَانَ مِزَاجُهَا کَافُوراً * عَیْناً یَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّهِ یُفَجِّرُونَهَا تَفْجِیراً... * وَیُسْقَوْنَ فِیهَا کَأْساً کَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِیلاً * عَیْناً فِیهَا تُسَمَّی سَلْسَبِیلاً... وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً»(4) وقال فی موضع أخر:
«لَّا یُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا یُنزِفُونَ»(5).
ثم أشار علیه السلام إلی أوصاف الجنّة فقال:
«قَوْمٌ لَمْ تَزَلِ الْکَرَامَةُ تَتَمَادَی بِهِمْ حَتَّی حَلُّوا دَارَ الْقَرَارِ، وَأَمِنُوا نُقْلَةَ(6) الْأَسْفَارِ». ویستفاد من هذه العبارة أنّ أصحاب الجنّة حفظوا قدسیتهم وطهارتهم وورعهم إلی آخر عمرهم ولم یخدشوا الکرامة الإنسانیة التی أشارت إلیها الآیة القرآنیة: «وَلَقَدْ کَرَّمْنَا بَنِی آدَمَ...»(7) فلقوا ربّهم علی الإیمان والعمل الصالح الذی ملأ کیانهم، کما تفید العبارة، التأکید علی حسن العاقبة وأنّ کل شیء یتوقف علی خاتمة الأمور والأعمال. وأخیراً یشعل فی قلوب الآخرین شعلة
ص:281
الشوق إلی لقاء اللطف الإلهی ونعمه التی لا تحصی فی ذلک العالم:
«فَلَوْ شَغَلْتَ قَلْبَکَ أَیُّهَا الْمُسْتَمِعُ بِالْوُصُولِ إِلَی مَا یَهْجُمُ عَلَیْکَ مِنْ تِلْکَ الْمَنَاظِرِ الْمُونِقَةِ(1) ، لَزَهِقَتْ(2) نَفْسُکَ شَوْقاً إِلَیْهَا، وَلَتَحَمَّلْتَ مِنْ مَجْلِسِی هذَا إِلَی مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْقُبُورِ اسْتِعْجَالاً بِهَا». أراد الإمام علیه السلام أن یؤکد فی هذا الکلام علی حقیقة هی أنّ عظمة نعم الجنّة أکبر من أن یحیطها وصف الإنسان، ولو تأملها الإنسان لذاب شوقاً إلیها وکأنّه یروم التحلیق إلیها، کما ورد ذلک فی خطبة المتقین:
«فَاِذَا مَرُّوا بِآیَةٍ فِیهَا تَشْوِیقٌ رَکَنُوا الَیْهَا طَمَعاً وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ الَیْهَا شَوْقاً»(3).
وهکذا اختتم الإمام علیه السلام الخطبة بهذا الدعاء:
«جَعَلَنَا اللّهُ وَإِیَّاکُمْ مِمَّنْ یَسْعَی بِقَلْبِهِ إِلَی مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ بِرَحْمَتِهِ». إشارة إلی أنّ الإنسان لا یبلغ شیئاً دون أن تشمله رحمة اللّه.
تفسیر بعض الکلمات الصعبة فی الخطبة (من جانب الشریف الرضی):
قال السید الشریف الرضی فی آخر هذه الخطبة:
قَوْلُهُ علیه السلام:
«یَؤُرُّ بِمَلَاقِحِهِ» الْأرُّ: کِنَایَةٌ عَنِ النِّکاح، یُقَالُ: أرّ الرّجُلُ المَرْأةَ یَؤُرّهَا، إِذَا نَکَحَهَا. وَقَوْلُهُ علیه السلام:
«کَأنَّهُ قَلْعُ دَارِیٍّ عَنَجَهُ نُوِتیّهُ» الْقَلْعُ: شِرَاعُ السَّفِینَةِ، وَدَارِیّ:
مَنْسُوبٌ إِلی دَارِینَ، وَهِیَ بَلْدَةٌ عَلَی الْبَحْرِ یُجْلَبُ مِنْهَا الطّیبُ. وَعَنَجَهُ: أَیْ عَطَفَهُ.
یُقَالُ: عَنَجْتُ النَّاقَةَ - کَنَصَرْتُ - أَعْنُجُهَا» عَنْجاً إِذَا عَطَفْتُهَا. وَالنُّوتِی: الْمَلَّاحُ.
وَقَوْلُهُ علیه السلام:
«ضَفّتَیْ جُفُونِهِ» أَرَادَ جَانِبَیْ جُفُونِهِ. وَالضّفّتَانِ: الجّانِبَانِ. وَقَوْلُهُ علیه السلام:
«وَفِلَذَ الزَّبَرْجَدِ» الْفِلَذُ: جَمْعُ فِلْذَة، وَهِیَ القِطْعَةُ. وَقَوْلُهُ علیه السلام:
«کَبَائِسِ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ» الْکِبَاسَة: الْعِذْقُ وَالْعَسَالِیجُ: الْغُصُونُ، وَاحِدُهَا عُسْلُوجٌ.
ص:282
تحدث الإمام علیه السلام بکل فصاحته وبلاغته المعهودة فی هذه الخطبة عن جمال هذا العالم أحیاناً، وأحیاناً أخری عن جمالیة العالم الآخر، لکنه ما أن یبلغ شرح نعم الآخرة حتی یشیر إلی هذه الحقیقة وهی أنّ ما یتعلق بذلک العالم یتعذر بیانه، بحیث لو یراه الإنسان لتمنی المسارعة إلیه. حقّاً أنّ آداب الحیاة الدنیا لا یسعها شرح الحیاة الآخرة، وذلک أشبه بأن یسجن الإنسان منذ ولادته فی غرفة ولما اکتمل عقله أرادوا أن یشرحوا له المناظر الجمیلة المتناثرة فی الحدائق والبساتین والشلالات ومختلف الأماکن الطبیعیة الرائقة، یحدثوه عن الطاووس وألوانه الجمیلة وأصوات الطیور العذبة، والفاکهة الذیذة وسائر المناظر الخلابة، فبالطبع لا تسعفه الآداب التی تعلمها فی تلک الغرفة المظلمة لأن یفهم ما یسمع. الجدیر بالذکر أنّ الإمام ینظر إلی نعم الآخرة من زوایا مختلفة، فتارة من زاویة حظ البصر وأخری من خلال الفواکه الذیذة والثمار الطبیعیة، وأحیاناً من خلال الضیافة المفعمة بالکرامة والاجلال، والأخری عن الأمن والسکینة التی تسود الجنّة. فلیس هنالک من مرض ولا تعب ولا إرهاق ولا موت ولا سلطان ظالم ولا خیانة ولا مکر ولا غدر ولا حرب وخراب ودمار. بل الحاکم هو الإمن والأمان والسلام.
عن أبی سعید الخدری أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال:
«اِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا حَوَّطَ حَائِطَ الْجَنَّةِ لَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَلَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَغَرَسَ غَرْسَهَا قَالَ لَهَا: تَکَلَّمِی فَقَالَتْ: قَدْ افْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، فَقَالَ: طُوبی لَکَ مَنْزِلَ الْمُلُوکِ»(1).
وعن عبد اللّه بن جابر الأنصاری أن رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال:
«اِذَا دَخَلَ اهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ لَهُمْ رَبَّهُمْ تَعَالَی: أَتُحِبُّونَ أَنْ لَذِیذَکُمْ فَیَقُولُونَ: وَهَلْ خَیْرٌ مِمَّا أَعْطَیْتَنَا؟ فَیَقُولُ: نَعَمْ رِضْوَانِی أَکْبَرُ»(2).
ص:283
ص:284
تتألف هذه الخطبة من ثلاثة أقسام: حثّ الإمام علیه السلام فی القسم الأول الناس علی احترام بعضهم البعض الآخر ویتبع الصغیر الکبیر ویراف الکبیر بالصغیر ولا یکونوا کجفاة الجاهلیة. وأخبر فی القسم الثانی عن مصیر بنی أمیة الذین یستولون علی کل شیء بفعل فرقة المسلمین وابتعادهم عن أصالتهم، وسیصلون إلی أقصی مناطق البلاد الإسلامیة، إلّاأنّهم لا یلبثون کثیراً حتی یفقدون کل شیء.
وأخبر فی القسم الثالث عن عوامل تخلف المسلمین فی آخر الزمان وفی مقدمتها عدم نصرة الحق والوقوف بجانب الإمام العادل.
ص:285
ص:286
لِیَتَأَسَّ صَغِیرُکُمْ بِکَبِیرِکُمْ، وَلْیَرْأَفْ کَبِیرُکُمْ بِصَغِیرِکُمْ؛ وَلَا تَکُونُوا کَجُفَاةِ الْجَاهِلِیَّةِ: لَافِی الدِّینِ یَتَفَقَّهُونَ، وَلَا عَنِ اللّهِ یَعْقِلُونَ؛ کَقَیْضِ بَیْضٍ فِی أَدَاحٍ یَکُونُ کَسْرُهَا وِزْراً، وَیُخْرِجُ حِضَانُهَا شَرّاً.
أورد الإمام فی هذه العبارات القصیرة العمیقة المعنی ثلاث وصایا أخلاقیة واجتماعیة مهمّة یؤدّی العمل بها إلی تماسک عری المجتمع، فقال فی الأولی:
«لِیَتَأَسَّ(1) صَغِیرُکُمْ بِکَبِیرِکُمْ». ذلک لأنّ الکبیر عادة سلسلة من التجارب وقد ذاق حلاوة الدنیا ومرارتها ووقف علی خیرها وشرّها، أضف إلی ذلک فقد اجتاز هذا الکبیر عصر الفتوة بنشاطه وحیویته ویشعر الآن بنوع من الاستقرار الأخلاقی وقد تعرف علی الآداب والأعراف الاجتماعیة، ولا یمکن التنکر لهذه الحقیقة، بالرغم من أنّ هذه لیست قاعدة کلیة ولا تخلو من الاستثناء.
الوصیة الثانیة
«وَلْیَرْأَفْ(2) کَبِیرُکُمْ بِصَغِیرِکُمْ» فیتلافی ضعفهم وینقل إلیهم تجاربه ویتغاضی قدر المستطاع عن أخطائهم ویقف فی کل الأحوال إلی جانبهم. ولو کان هناک التزام بهاتین الوصیتین لتوطدت العلاقات بین الجیل القدیم والحدیث بما یجعلهم یشکلون جبهة واحدة رصینة الصفوف. وإلّا فلیس هنالک سوی احتدام
ص:287
النزاع بینهما بما یعکر صفو المجتمع.
أمّا الوصیة الثالثة والتی تمثل فی الواقع تأکیداً للوصایا السابقة:
«وَلَا تَکُونُوا کَجُفَاةِ(1) الْجَاهِلِیَّةِ: لَافِی الدِّینِ یَتَفَقَّهُونَ، وَلَا عَنِ اللّهِ یَعْقِلُونَ». نعم، فالجهال لم ینفتحوا علی التربیة الدینیة ولم یستعینوا بعقولهم، فهم زمرة فضة متحللة تهد کیان المجتمع، لا ترحم الصغیر ولا تتعظ بنصائح الکبیر.
ثم خاض علیه السلام فی هذه الفئة فقال علی سبیل التمثیل:
«کَقَیْضِ(2) بَیْضٍ فِی أَدَاحٍ(3) یَکُونُ کَسْرُهَا وِزْراً، وَیُخْرِجُ حِضَانُهَا(4) شَرّاً». إشارة إلی الحذر من کون ظاهرکم الإسلام وباطنکم کجفاة العصر الجاهلی بحیث یشک الصالحون بکم حین التعامل، فلو عاملوکم بصدق وأمانة خشوا من باطنکم الذی تشم منه رائحة النفاق، وإن عاملوکم کمنافقین خشوا أن یکون باطنکم طاهراً. من المعروف أنّ النعامة تحفر الرمل وتبیض هناک وهکذا تفعل الحیة والأفعی، ومن هنا فإنّ الإنسان حین یری هذه البیضة لا یعلم هل هی للأفعی تعود أم النعامة؟ فیشک فی التعامل معها! وبعبارة أخری أنّ صورة الإنسان الجافی صورة إنسان إلّاأنّ باطنه مملوء بالشر والفساد، کالبیضة التی صورتها بیضة الطیور وباطنها حیة قاتلة. وعلی هذا الضوء فقد رسم الإمام علیه السلام بهذا التشبیه الرائع صورة واضحة للمشاکل التی تفرزها التعامل مع الفرد المنافق.
ص:288
افْتَرَقُوا بَعْدَ أُلْفَتِهِمْ، وَتَشَتَّتُوا عَنْ أَصْلِهِمْ. فَمِنْهُمْ آخِذٌ بِغُصْنٍ أَیْنَمَا مَالَ، مَالَ مَعَهُ. عَلَی أَنَّ اللّهَ تَعَالَی سَیَجْمَعُهُمْ لِشَرِّ یَوْمٍ لِبَنِی أُمَیَّةَ، کَمَا تَجْتَمِعُ قَزَعُ الْخَرِیفِ یُؤَلِّفُ اللّهُ بَیْنَهُمْ، ثُمَّ یَجْمَعُهُمْ رُکَاماً کَرُکَامِ السَّحَابِ؛ ثُمَّ یَفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَاباً. یَسِیلُونَ مِنْ مُسْتَثَارِهِمْ کَسَیْلِ الْجَنَّتَیْنِ، حَیْثُ لَمْ تَسْلَمْ عَلَیْهِ قَارَةٌ، وَلَمْ تَثْبُتْ عَلَیْهِ أَکَمَةٌ، وَلَمْ یَرُدَّ سَنَنَهُ رَصُّ طَوْدٍ، وَلَاحِدَابُ أَرْضٍ. یُذَعْذِعُهُمُ اللّهُ فِی بُطُونِ أَوْدِیَتِهِ، ثُمَّ یَسْلُکُهُمْ یَنَابِیعَ فِی الْأَرْضِ، یَأْخُذُ بِهِمْ مِنْ قَوْمٍ حُقُوقَ قَوْمٍ، وَیُمَکِّنُ لِقَوْمٍ فِی دِیَارِ قَوْمٍ. وَایْمُ اللّهِ، لَیَذُوبَنَّ مَا فِی أَیْدِیهِمْ بَعْدَ الْعُلُوِّ وَالتَّمْکِینِ، کَمَا تَذُوبُ الْأَلْیَةُ عَلَی النَّارِ.
أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی المصیر الباهر لأصحابه إلی جانب النهایة المفجعة فقال:
«افْتَرَقُوا بَعْدَ أُلْفَتِهِمْ، وَتَشَتَّتُوا عَنْ أَصْلِهِمْ» فمنهم من التحق بالخوارج وقف فی وجه الإمام علیه السلام ومنهم من أصابه الشک واعتزل عن الجماعة، ومع ذلک فإنّ هناک بعض أصحابه
«فَمِنْهُمْ آخِذٌ بِغُصْنٍ أَیْنَمَا مَالَ، مَالَ مَعَهُ». فهذه إشارة إلی طائفة ثبتت علی الحق وتمسکت بالثقلین (الکتاب والعترة) وتعلقوا بغصن شجرة النبوة المتمثل بأهل بیت العصمة والطهارة علیهم السلام فانطلقوا خلفهم لرضی اللّه. نعم؛ ذهب البعض إلی أنّ هذه العبارة إشارة إلی فئة منحرفة أیضاً، والحال تفید العبارات القادمة أنّ المعنی الأول هو الصحیح. لأنّ الإمام قال لاحقاً:
«عَلَی أَنَّ اللّهَ
ص:289
تَعَالَی سَیَجْمَعُهُمْ لِشَرِّ یَوْمٍ لِبَنِی أُمَیَّةَ، کَمَا تَجْتَمِعُ قَزَعُ(1) الْخَرِیفِ(2)». ثم قال:
«یُؤَلِّفُ اللّهُ بَیْنَهُمْ، ثُمَّ یَجْمَعُهُمْ رُکَاماً(3) کَرُکَامِ السَّحَابِ؛ ثُمَّ یَفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَاباً».
ثم واصل علیه السلام کلامه لیبین کیف سیواجه اتباع أهل البیت علیهم السلام ظلمة بنی أمیة فقال:
«یَسِیلُونَ مِنْ مُسْتَثَارِهِمْ(4) کَسَیْلِ الْجَنَّتَیْنِ، حَیْثُ لَمْ تَسْلَمْ عَلَیْهِ قَارَةٌ(5) ، وَلَمْ تَثْبُتْ عَلَیْهِ أَکَمَةٌ(6) ، وَلَمْ یَرُدَّ سَنَنَهُ(7) رَصُّ(8) طَوْدٍ(9) ، وَلَاحِدَابُ(10) أَرْضٍ». ما ورد فی هذه العبارة إشارة إلی قوم سبأ الذین عاشوا فی الیمن وبنوا سداً عظیماً بین جبلین یعرف بسد مارب منعوا السیول واستفادوا من ماء السد فی بناء جنتین عظیمتین علی جانبی نهر کان یجری هناک، فعاشوا حیاة مرفهة وادعة، إلّاأنّ جحودهم وبطر نعمتهم وغرورهم عرّضهم لألیم العقاب.
إنهار السد عند اللیل فأتی السیل علی جنّتیهم وأحال أرضهم خراباً فاضطر من تبقی منهم للهجرة. وسیکون أتباع أهل البیت علیهم السلام بمثابة السیل الذی یدمر ظلمة بنی أمیة ویخربون بیوتهم ویقضون علیهم ویهاجر من یبقی منهم.
ثم شبه الإمام علیه السلام هذه الجماعة المدافعة عن الحق فیما بعد زوال بنی أمیة بالماء المطمور فی الأرض والذی ینبع کعیون جاریة فی البناء والعمران، فقال:
«یُذَعْذِعُهُمُ(11) اللّهُ فِی بُطُونِ أَوْدِیَتِهِ(12) ، ثُمَّ یَسْلُکُهُمْ یَنَابِیعَ فِی الْأَرْضِ، یَأْخُذُ بِهِمْ مِنْ
ص:290
قَوْمٍ حُقُوقَ قَوْمٍ، وَیُمَکِّنُ لِقَوْمٍ فِی دِیَارِ قَوْمٍ». ذکر بعض شرّاح نهج البلاغة احتمالاً آخر لتفسیر العبارة المذکورة ومرجع الضمائر، ولا نری حاجة لذکره سیما لعدم انسجامه مع العبارات السابقة واللاحقة. نعم؛ فأتباع أهل البیت علیهم السلام ینطلقون بادیء الأمر کالسیل الذی یحطم قصور بنی أمیة کما حطم السیل عروش الظلمة فی سبأ، وسیطیحون بدولتهم، فیتفرقون فی کل مکان ویکونوا کعیون الماء فی إقامتهم للعدل والقسط.
وأخیراً أقسم الإمام علیه السلام قائلاً:
«وَایْمُ اللّهِ، لَیَذُوبَنَّ مَا فِی أَیْدِیهِمْ بَعْدَ الْعُلُوِّ وَالتَّمْکِینِ، کَمَا تَذُوبُ الْأَلْیَةُ(1) عَلَی النَّارِ». والتشبیه المذکور إشارة إلی أنّ بنی أمیة وإن ترهلوا علی عهد حکومتهم، إلّاأنّ أعداءَهم سیکونون علیهم کالنار فیذیبون أجسادهم کما یذاب الشحم فی النار، یذوب أولاً ثم یحترق ولا تبقی له باقیة. وقد اختلف شرّاح نهج البلاغة بشأن من یسلط علی بنی أمیة ویطیح بحکومتهم الظالمة وینتصر للمظلوم منهم؛ قیل المراد بهم بنو عباس، وقیل الشیعة الذین قاموا ضد بنی أمیة، والظاهر أنّ کلاهما یعود إلی معنی واحد، لأننا نعلم أنّ قیام بنی العباس انطلق باسم العلویین وإن انحرف عن مساره وجعلوه لبنی العباس خاصة فساروا علی نهج بنی أمیة حتی قضی علیهم.
دوّت أصداء شهادة الإمام الحسین علیه السلام وصحبه فی کربلاء فی أرجاء العالم الإسلامی وألبّت العدید من المسلمین علی بنی أمیة. وقد نال أغلبهم الشهادة بسبب
ص:291
سطوة بنی أمیة، بینما انتصر البعض الآخر لمدّة قصیرة. وقد ذکرنا هذه الثورات التی بلغ عددها خمسة عشر فی الجزء الثالث من هذا الکتاب،(1) وکان آخرها قیام أبو مسلم الخراسانی والذی أدّی إلی سقوط دولة بنی أمیة. وخلافاً لما یتصوره البعض فإنّ أبا مسلم وصحبه لم یثوروا لأجل بنی عباس، بل اجتمع بادیء الأمر عدد من زعماء الشیعة عند أبی مسلم - وکان رجلاً شجاعاً - فی خراسان وعزموا علی مواجهة آخر خلفاء بنی أمیة (مروان الحمار) وإقامة حکومة آل محمد وکان شعارهم
«الرضا لآل محمد» ولم تمض مدّة حتی سیطر أبو مسلم علی خراسان وأغلب مناطق إیران. ورغم محاولة إبراهیم الإمام وهو من بنی العباس للتقرب منه وکذلک عبد اللّه بن محمد المعروف بالسفاح وأبو جعفر المنصور - وکلاهما أخ لإبراهیم الإمام - إلّاأنّه لم یرض بذلک. ومن هنا قام عامله علی الکوفة أبو سلمة حین وصله الأخوة الثلاثة باخفائهم فی موضع لیتزعم المسلمین أحد أبناء علی علیه السلام فبعث بثلاثة کتب إلی المدینة؛ إلی الإمام الصادق علیه السلام وعبد اللّه بن الحسن وعمر بن علی بن الحسین وأوصی رسوله أن یبتدیء بالصادق علیه السلام فإن وافق لا یسلم الرسالتین. وحیث کان الإمام علیه السلام یعلم بالمؤامرات الخفیة حتی علی أبی مسلم فلم یجب الدعوة، وهکذا عبد اللّه وعمر تبعاً للإمام الصادق علیه السلام. لکن قبل أن یعود رسول أبی سلمة إلی الکوفة علم جماعة من أهل خراسان بموضع السفاح وأخویه فبایعوه، فما کان من أبی مسلم إلّاأن إلتحق بهم، حتی وصلت الحکومة لبنی العباس بعد قتال شدید بینهم وبین أتباع عبد اللّه بن علی عم المنصور، فوُلّیَ المنصور الخلافة بعد أبی العباس السفاح، فأحضر أبا مسلم إلی بغداد وقتله وفق خطة معدة سلفاً، لعله کان یعلم بأنّ أبا مسلم من أتباع آل علی علیه السلام لا بنی العباس، فکان یراه خطراً یهدد حکومتهم(2). ذکر العلّامة المجلسی روایة بهذا الخصوص عن الإمام علی علیه السلام أنّ جیش الشام هجم یوماً فی صفین علی جند العراق ففرقهم عن
ص:292
میمنتهم وکان مالک الأشتر (رضوان اللّه تعالی علیه) یدعوهم إلی الرجوع. فکان الإمام علیه السلام یصیح فی وجه جیش الشام: خذهم یا أبا مسلم ویکرر ذلک ثلاثاً. فقال الأشتر: أوَلیس أبو مسلم فی جیش الشام؟ قال الإمام علیه السلام: لا أقصد أبا مسلم الخولانی، بل أبا مسلم رجل یظهر من مشرق الأرض یهلک اللّه الأمویین علی یده ویطیح بدولتهم(1). طبعاً شخصیة أبی مسلم وإن کانت تعیش نوعاً من التعقید علی ضوء النظرة التاریخیة، إلّاأنّ هنالک من یراه من أتباع أهل البیت علیهم السلام ویکنون له الاحترام، وعلی العکس، هنالک من یراه من أعدائهم ویقول بجواز لعنه. والمسلّم به أنّ قیامه کان فی بادیء الأمر لنصرة آل محمد وکان أنصاره من الشیعة.
ص:293
ص:294
أَیُّهَا النَّاسُ، لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ، وَلَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِینِ الْبَاطِلِ، لَمْ یَطْمَعْ فِیکُمْ مَنْ لَیْسَ مِثْلَکُمْ، وَلَمْ یَقْوَ مَنْ قَوِیَ عَلَیْکُمْ. لکِنَّکُمْ تِهْتُمْ مَتَاهَ بَنِی إِسْرائِیلَ. وَلَعَمْرِی، لَیُضَعَّفَنَّ لَکُمُ التِّیهُ مِنْ بَعْدِی أَضْعَافاً بِمَا خَلَّفْتُمُ الْحَقَّ وَرَاءَ ظُهُورِکُمْ، وَقَطَعْتُمُ الْأَدْنی، وَوَصَلْتُمُ الْأَبْعَدَ. وَاعْلَمُوا أَنَّکُمْ إِنِ اتَّبَعْتُمُ الدَّاعِیَ لَکُمْ، سَلَکَ بِکُمْ مِنْهَاجَ الرَّسُولِ، وَکُفِیتُمْ مَؤُونَةَ الاِعْتِسَافِ، وَنَبَذْتُمُ الثِّقْلَ الْفَادِحَ عَنِ الْأَعْنَاقِ.
خاض الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة - الذی هو آخرها - بعد بیانه لمصیر بنی أمیة الأسود فی بیان مصیر فئة من أتباع الحق التی ضعفت عن نصرته فتسلط علیها عدوها فکانت عاقبتها کعاقبة بنی إسرائیل، فقال:
«أَیُّهَا النَّاسُ، لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ، وَلَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِینِ الْبَاطِلِ، لَمْ یَطْمَعْ فِیکُمْ مَنْ لَیْسَ مِثْلَکُمْ، وَلَمْ یَقْوَ مَنْ قَوِیَ عَلَیْکُمْ». هذا الکلام إشارة إلی حکومة معاویة وتسلطه وصحبه علی أصحاب الإمام علیه السلام علی عهده (بصورة محدودة) ومن بعده (دون حدود). وما ذکره الإمام علیه السلام فی هذه العبارة لا یختص بزمان ومکان معین، بل هو أصل کلّی للأعصار والأمصار کافة فی أن تنامی الباطل معلول لضعف أتباع الحق.
ثم واصل علیه السلام کلامه بتشبیه تلک الفئة ببنی إسرائیل أثر إبتعادهم عن الحق وتیههم
ص:295
(فی صحراء سیناء) فقال:
«لکِنَّکُمْ تِهْتُمْ(1) مَتَاهَ بَنِی إِسْرائِیلَ. وَلَعَمْرِی، لَیُضَعَّفَنَّ لَکُمُ التِّیهُ مِنْ بَعْدِی أَضْعَافاً(2) بِمَا خَلَّفْتُمُ الْحَقَّ وَرَاءَ ظُهُورِکُمْ، وَقَطَعْتُمُ الْأَدْنی، وَوَصَلْتُمُ الْأَبْعَدَ». ثم أوضح فی الختام سبیل النجاة وذکرهم بأنّ باب العودة إلی الحق مفتوح علی الدوام فقال:
«وَاعْلَمُوا أَنَّکُمْ إِنِ اتَّبَعْتُمُ الدَّاعِیَ لَکُمْ، سَلَکَ بِکُمْ مِنْهَاجَ الرَّسُولِ، وَکُفِیتُمْ مَؤُونَةَ الاِعْتِسَافِ(3) ، وَنَبَذْتُمُ الثِّقْلَ الْفَادِحَ(4) عَنِ الْأَعْنَاقِ».
...
شبه الإمام علیه السلام بالعبارة المذکورة طائفة من المسلمین الذین حادوا عن الحق واحتاروا کبنی إسرائیل الذین تاهوا فی الصحراء أثر عنادهم وعدم استجابتهم لنبیهم موسی علیه السلام، بجهاد غاصبی بیت المقدس. وقد نقل بعض شرّاح نهج البلاغة روایة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:
«لترکبنّ سنَنَ مَن کان قبلکم حذو النعل النعل، والقذّة بالقذّة، حتی لو دخلوا حُجر ضبّ ضبّ لدخلتموه، فقیل: یا رسول اللّه الیهود والنصاری؟ قال: فمن إذن»(5). وبغض النظر عن الإشکال الذی یرد علی اسناد الروایة، فإنّ تطبیقها علی الواقع لا یخلو من إشکال أیضاً، وعلی فرض صحة الروایة فإنّه یمکن حملها علی الغالب. إشارة إلی أنّ أغلب الحوادث المریرة التی شهدتها الأقوام السابقة سیشهدها المسلمون، ویعید التاریخ نفسه، ذلک لأنّ الأسباب المتشابهة تتطلب مسببات متشابهة.
ص:296
فِی أوائِلِ خِلَافَتِهِ(1)
تتضمن هذه الخطبة عدّة مواضع وإرشادات بحیث ربّما یُتصور عدم وجود الترابط بین أقسام الخطبة، ولعل المرحوم السید الرضی اقتطف هذه الخطبة من خطبة أطول خَطبها الإمام أوائل خلافته.
علی کل حال فإنّ الخطبة تتکون من خمسة أقسام رئیسیة:
القسم الأول: یتحدث عن عظمة القرآن الکریم وهدایته والتأکید علی اتّباعه.
القسم الثانی: التأکید علی إتیان الفرائض والعمل بالواجبات وترک المحرمات.
القسم الثالث: أهمیّة حقوق المسلمین وحفظ کرامتهم وترک أذاهم.
القسم الرابع: یوصی فیه الإمام علیه السلام بالاستعداد للموت والقیامة والتزود للآخرة.
القسم الخامس: التأکید علی التقوی وطاعة اللّه.
ص:297
ص:298
إِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ کِتَاباً هَادِیاً بَیَّنَ فِیهِ الْخَیْرَ وَالشَّرَّ؛ فَخُذُوا نَهْجَ الْخَیْرِ تَهْتَدُوا، وَاصْدِفُوا عَنْ سَمْتِ الشَّرِّ تَقْصِدُوا.
الْفَرَائِضَ الْفَرَائِضَ! أَدُّوهَا إِلَی اللّهِ تُؤَدِّکُمْ إِلَی الْجَنَّةِ. إِنَّ اللّهَ حَرَّمَ حَرَاماً غَیْرَ مَجْهُولٍ، وَأَحَلَّ حَلَالاً غَیْرَ مَدْخُولٍ، وَفَضَّلَ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ عَلَی الْحُرَمِ کُلِّهَا، وَشَدَّ بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِیدِ حُقُوقَ الْمُسْلِمِینَ فِی مَعَاقِدِهَا، «فَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَیَدِهِ» إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا یَحِلُّ أَذَی الْمُسْلِمِ إِلَّا بِمَا یَجِبُ.
أکد الإمام علی ضرورة الالتزام بالقرآن والعمل بتعالیمه بصفته المصدر الرئیسی للتعالیم الإسلامیة وتبیان کل خیر وإحسان، فقال:
«إِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ کِتَاباً هَادِیاً بَیَّنَ فِیهِ الْخَیْرَ وَالشَّرَّ؛ فَخُذُوا نَهْجَ(1) الْخَیْرِ تَهْتَدُوا، وَاصْدِفُوا(2) عَنْ سَمْتِ الشَّرِّ تَقْصِدُوا». فهذا الکلام یدل علی أنّ جمیع أصول الخیر والشر والواجبات والمحرمات والفضائل والرذائل والعقائد الصحیحة والمنحرفة إنّما بُیّنت فی القرآن الکریم، وهو فی الواقع تعبیر آخر عن
«تبیان کل شیء» الذی ورد فی القرآن وإن فوض شرحه إلی سنة المعصومین علیهم السلام.
ص:299
ثم أکد الإمام علیه السلام من بین کل الفضائل علی الفرائض والواجبات، فقال:
«الْفَرَائِضَ الْفَرَائِضَ! أَدُّوهَا إِلَی اللّهِ تُؤَدِّکُمْ إِلَی الْجَنَّةِ». إشارة إلی إن الخیرات التی دعی إلیها القرآن علی نوعین، واجبة وغیر واجبة (مستحبات وفضائل) وعلیکم قبل کل شیء بأداء الواجبات فإن شعرتم بقوّة فأتوا بالمستحبات؛ ذلک لأنّ ما یأخذ بید الإنسان قبل کل شیء إلی الجنّة، أداء الفرائض والواجبات. طبعاً الفرائض تشمل العبادات والواجبات الأخری التی أوجبها اللّه علی الإنسان فیما یتعلق بنفسه أو الآخرین.
ثم أشار الإمام علیه السلام إلی نقطة کأنّها دلیل علی العبارة السابقة، فقال:
«إِنَّ اللّهَ حَرَّمَ حَرَاماً غَیْرَ مَجْهُولٍ، وَأَحَلَّ حَلَالاً غَیْرَ مَدْخُولٍ(1)». إنّها عبارة لطیفة تشیر إلی مصالح ومفاسد الأحکام الشرعیة التی اعتبرها الحکیم فی الواجبات والمحرمات، بعبارة أخری، رغم وجوب طاعة أوامر اللّه فی الإتیان بالواجبات وترک المحرمات، إلّاأنّ هذه الطاعة لیست عمیاء، ذلک لأنّ جمیع الواجبات تشتمل علی مصالح، بینما تنطوی المحرمات علی مفاسد تعود علی نفس العباد: «یُحِلُّ لَهُمُ الطَّیِّبَاتِ وَیُحَرِّمُ عَلَیْهِمُ الْخَبَائِثَ»(2) ولما کانت رعایة حقوق المسلمین وحفظ حرمتهم لا تقل أهمیّة عن الفرائض والواجبات، فقد قال علیه السلام:
«وَفَضَّلَ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ عَلَی الْحُرَمِ(3) کُلِّهَا، وَشَدَّ بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِیدِ حُقُوقَ الْمُسْلِمِینَ فِی مَعَاقِدِهَا(4)».
إنّ أدنی نظرة إجمالیة علی الکتب الفقهیة کافة - من العبادات إلی الحدود والدیات - لتشهد علی صدق هذا المعنی فی أنّ الإسلام أولی أهمیّة عظیمة لحرمة
ص:300
المسلمین وحقوقهم، حتی وقف الإمام الکاظم علیه السلام أمام الکعبة، وقال:
«مَا أَعْظَمَ حَقَّکِ یا کَعْبَةُ وَاللّهِ إِنَّ حَقَّ الْمُؤْمِنِ لَاَعْظَمُ مِنْ حَقِّکَ»(1) وعبارة الإمام علیه السلام تشدّ بالإخلاص والتوحید حقوق المسلمین یمکن أن تکون إشارة إلی أنّ الإنسان الموحد والمخلص من یراعی حقوق المسلمین، وهذا ما قال به أغلب شرّاح نهج البلاغة، کما یحتمل أن یکون المراد ضرورة حرمة حقوق کل مسلم، لا إخلاصه وتوحیده (الإخلاص والتوحید فی التفسیر الأول صفة للمحافظین وصفة للمحفوظین فی التفسیر الثانی). التفسیر الثالث أن یکون احترام حقوق المسلمین فی مصاف الإخلاص والتوحید.
ثم أضاف علیه السلام کنتیجة
««فَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَیَدِهِ» إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا یَحِلُّ أَذَی الْمُسْلِمِ إِلَّا بِمَا یَجِبُ». فاستنتاج الإمام علیه السلام هذا یفید أنّ التفسیر الأول هو الأنسب للعبارة السابقة من التفاسیر الأخری، لأننا إن اعتبرنا حفظ حقوق المسلمین علامة إخلاص وتوحید الحافظین لهذه الحقوق فإنّ نتیجة ذلک ستکون:
المسلم من سلم الناس من لسانه ویده. جدیر بالذکر أنّ العبارة
«إِلَّا بِالْحَقِّ» والأخری
«إِلَّا بِمَا یَجِبُ» أن تکون الأولی: إشارة إلی عدم جواز أذی المسلمین ما لم یکن هنالک من مجوز من قبیل العقوبات والحدود الإسلامیة والتعزیرات، والثانیة: إشارة إلی الإکتفاء بالمقدار الذی أجازه اللّه من حیث الکمیة والکیفیة علی فرض الجواز. ورد فی بعض الروایات أنّ قنبراً ورغم مکانته عند الإمام علیه السلام غلط فی حدّ رجل فأضاف ثلاثاً، فأخذ الإمام علیه السلام بالقصاص منه:
«إِنَّ امِیرَالْمُؤْمِنِینَ امَرَ قَنْبراً أَنْ یَضْرِبَ رَجُلاً حَدّاً فَغَلِطَ قَنْبَرٌ فَزَادَهُ ثَلَاثَةَ أَسْواطٍ فَأقادَهُ عَلِیٌّ علیه السلام مِنْ قَنْبَرٍ بِثَلَاثَةِ أَسْواطٍ»(2).
ص:301
ص:302
بَادِرُوا أَمْرَ الْعَامَّةِ وَخَاصَّةَ أَحَدِکُمْ وَهُوَ الْمَوْتُ، فَإِنَّ النَّاسَ أَمَامَکُمْ، وَإِنَّ السَّاعَةَ تَحْدُوکُمْ مِنْ خَلْفِکُمْ، تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا، فَإِنَّمَا یُنْتَظَرُ بِأَوَّلِکُمْ آخِرُکُمْ.
اتَّقُوا اللّهَ فِی عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ، فَإِنَّکُمْ مَسْؤُولُونَ حَتَّی عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهائِمِ.
أَطِیعُوا اللّهَ وَلَا تَعْصُوهُ، وَإِذَا رَأَیْتُمُ الْخَیْرَ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا رَأَیْتُمُ الشَّرَّ فَأَعْرِضُوا عَنْهُ.
واصل الإمام علیه السلام مواعضه السابقة بتذکیر القوم بالموت والتأکید علی الورع والتقوی أفضل زاد إلی الآخرة فقال:
«بَادِرُوا أَمْرَ الْعَامَّةِ وَخَاصَّةَ أَحَدِکُمْ وَهُوَ الْمَوْتُ، فَإِنَّ النَّاسَ أَمَامَکُمْ، وَإِنَّ السَّاعَةَ تَحْدُوکُمْ(1) مِنْ خَلْفِکُمْ». المراد من الأمر العام والخاص الموت، لأننا إذا نظرنا إلی عامة المجتمع البشری نری الموت مصیر الجمیع، وعلیه فللموت بعد عام، وإن نظرنا لأنفسنا فقط فإننا نری الموت حاضراً آخر أعمارنا، فله علی هذا الأساس بعد خاص. واستناداً إلی تفسیر الإمام علیه السلام بقوله:
«وَهُوَ الْمَوْتُ»(2) فلا یبقی مجال للشک فی تفسیرنا، والعجیب ما ذهب إلیه بعض شرّاح نهج البلاغة من تفسیرهم للعبارة
«بَادِرُوا أَمْرَ الْعَامَّةِ» بإصلاح شؤون
ص:303
المجتمع. العبارات القادمة أیضاً تشیر إلی أنّ ما ورد فی هذه العبارة یتعلق بالموت ونهایة الحیاة، لا إصلاح المجتمع البشری والذی یعتبره مقولة أخری. نعم؛ هنالک دلیلان علی حقانیة الموت - علی أنّه قانون عام - أحدهما: إننا نری بأُم أعیننا الأفراد الذین کانوا سابقاً بیننا وقد التحقوا بهذه القافلة ونحمل أجسادهم الخالیة من الروح علی أکتافنا ونواریهم الثری ونعود، فهل من فارق بیننا وبینهم أنّهم یمضون ونبقی؟!
والآخر: إنّ علامات الحرکة باتجاه نهایة حیاتنا الواحد بعد الآخر واضحة من قبیل الشیخوخة والعجز والمشیب وکسل الاعضاء. فهل یسع عاقل بعد هذین الدلیلین أن یشعر باستثناء من هذا القانون؟
ثم خاض الإمام علیه السلام فی هذه النتیجة بناءً علی ما ورد فی السابق وطالما کان الأمر کذلک قال:
«تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا، فَإِنَّمَا یُنْتَظَرُ بِأَوَّلِکُمْ آخِرُکُمْ». أجل، إنّ سفر الآخرة سفر شاق ومتعب ولا یجتاز مطباته سوی المخفین، أولئک الذین قنعوا بالکفاف فی الحیاة الدنیا وغضوا الطرف عن جمع الثروة والعیش الرغید الملئ بالکمالیات، علی غرار المسافر الذی یحمل معه ما یکفیه من الطعام للسفر فیمر بسهولة، بینما لا یسع المثقل إلّاالتخلف عن الرکب والقافلة. روی المرحوم السید الرضی، العبارة الأخیرة باختلاف طفیف فی الخطبة 21 وقال: إنّ العبارة
«تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا» ما سمع کلام أقل منه مسموعاً ولا أکثر منه محصولاً، وما أبعد غورها من کلمة. وقد قدمنا من جانبنا شرحاً وافیاً بهذا الشأن(1). وحیث یتطلب سفر الآخرة زاداً ومتاعاً وخیره التقوی علی لسان القرآن: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزَّادِ التَّقْوَی»(2).
فقد واصل الإمام علیه السلام کلامه داعیاً الجمیع إلی التقوی فقال:
«اتَّقُوا اللّهَ فِی عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ، فَإِنَّکُمْ مَسْؤُولُونَ حَتَّی عَنِ الْبِقَاعِ(3) وَالْبَهائِمِ(4)».
ص:304
ومفهوم التقوی فی العباد واضح یتمثل فی ترک آذاهم وحفظ حقوقهم ورعایة حرماتهم، أمّا تقوی البلاد فالسعی لإعمارها واجتناب تخریبها وعدم تلویث محیطها. وأمّا المسؤولیة إزاء البهائم وعدم إیذائها عبثاً وتحمیلها فوق طاقتها وتوفیر متطلباتها من الغذاء والماء والدواء، وذهب بعض شرّاح نهج البلاغة فی تفسیرهم للمسؤولیة فی البقاع فی عدم السکن فی بلدان الکفر التی یتعذر فیها القیام بالوظائف الدینیة وعدم تشیید القصور الضخمة للتطاول علی الآخرین وحب الظهور. إلّاأنّ الصحیح ما أوردناه من تفسیر، والشاهد علی ذلک، الروایات التی سنذکرها فی المبحث القادم. ولما کان مفهوم التقوی ربّما یبدو معقداً للبعض فقد کشف الإمام علیه السلام عن حقیقته بوضوح، فقال:
«أَطِیعُوا اللّهَ وَلَا تَعْصُوهُ، وَإِذَا رَأَیْتُمُ الْخَیْرَ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا رَأَیْتُمُ الشَّرَّ فَأَعْرِضُوا عَنْهُ». والجدیر بالذکر أنّ بدایة ونهایة الخطبة تتحد فی خصوص الخیر والشر، حیث أشار فی مستهل الخطبة إلی مصدر الخیر الذی یکمن فی الرجوع إلی القرآن.
إنّ التطور الصناعی ورغم فوائده الجمّة للبشریة، إلّاأنّه أخذ یهدد بالصمیم سلامة البیئة وتلوثها، وهذا ما یهدد بدوره العدید من الکائنات ویعرضها إلی خطر الزوال، وإن استفید من الأسلحة الفتاکة ولا سیما أسلحة الدمار الشامل فإنّ حجم الکارثة یبدو مفجعاً، ومن هنا هبّ عالمنا المعاصر لأخذ التدابیر اللازمة بغیة الحفاظ علی سلامة البیئة والحیلولة دون انقطاع نسل الحیوانات، علی الرغم من العراقیل التی یضعها أصحاب رؤوس الأموال الذین لا یفکرون سوی فی التنمیة لثرواتهم فحدّوا من نشاطات الفرق القائمة علی أساس تطهیر البیئة ولا یعلم بعمق الفاجعة التی ستشهدها الأجیال القادمة. أمّا زعماء الإسلام وحماة الدین فقد أکدوا
ص:305
علی هذا الموضوع قبل ألف سنة، وکلام أمیر المؤمنین علیه السلام فی الخطبة المذکورة شاهد علی ذلک، کما وردت عدّة روایات عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام بهذا الخصوص حیث أکدوا علی هذه المسألة المهمّة، ومن تلک الروایات أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله رأی ناقة نائمة وجهازها علی ظهرها بینما قیدت رجلها (والحال یجب أن تستریح الدابة فلا یبقی شیء علی ظهرها) فقال:
«أَیْنَ صاحِبُهَا؟ مُرُوهُ فَلْیَسْتَعِدَّ غَداً لِلْخُصُومَةِ»(1).
وروی عنه صلی الله علیه و آله أنّه قال:
«لَا تَتَوَرَّکُوا عَلَی الدَّوَابِّ وَلَا تَتَّخِذُوا ظُهُورَهَا مَجالِسَ»(2) إشارة إلی أنّکم إن رأیتم أصحابکم وأنتم علی ظهر الدابة فأنزلوا لتتحدثوا معهم فإنّ تمّ حدیثکم فارکبوا(3).
وورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:
«لِلدَّابَّةِ عَلَی صاحِبِها سِتَّةُ حُقوقٍ لَایُحَمِّلُها فَوْقَ طاقَتِها وَلَا یَتَّخِذُ ظَهْرَها مَجالِسَ یَتَحَدَّثُ عَلَیْها وَیَبْدَأُ بِعَلْفِها اذا نَزَلَ وَلَا یَسِمُها وَلَا یَضْرِبُها فِی وَجْهِها فَإِنَّها تُسَبِّحُ وَیَعْرِضُ عَلَیْهَا الْمَاءَ إِذَا مَرَّ بِهِ»(4). فهذه الروایات وغیرها تفید مدی دقة الإسلام فی مجال حمایة الحیوانات ورعایة حقوقها، ولا نری دینا کالإسلام أوصی بهذه التعالیم. أمّا بشأن عدم تلویث البیئة فقد ورد النهی عن تلویث میاه الأنهار وکذلک تحت الأشجار المثمرة ومقابل أبواب الدور وموضع نزول القوافل وأطراف المساجد(5). کما ورد فی الوصایا الحربیة عدم قطع الأشجار أو حرقها أو ردم عیون الماء والنهی عن تلویث میاه الأعداء(6).
ص:306
بَعْدَما بُویِعَ بِالْخِلَافَةِ
وَقَدْ قَالَ لَهُ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: لَوْ عَاقَبْتَ قَوْماً مِمَّنْ أجْلَبَ علی عُثْمانَ؟ فقال علیه السلام:(1)
کما ورد آنفاً فإنّ قوماً من الصحابة طلبوا من الإمام علیه السلام بعد أن بویع بالخلافة أن یعاقب أولئک الذین ثاروا علی عثمان وقتلوه، فأقنعهم الإمام علیه السلام بأنّ ذلک لیس فی أوانه، لأنّهم متّحدون وخلفهم اناس کثیرون، یقفون بوجه کل من یقف ضدهم ولا یتحرجون من عمل.
ص:307
ص:308
یَا إِخْوَتَاهُ! إِنِّی لَسْتُ أَجْهَلُ مَا تَعْلَمُونَ، وَلکِنْ کَیْفَ لِی بِقُوَّةٍ وَالْقَوْمُ الْمُجْلِبُونَ عَلَی حَدِّ شَوْکَتِهِمْ، یَمْلِکُونَنَا وَلَا نَمْلِکُهُمْ! وَهَاهُمْ هؤُلَاءِ قَدْ ثَارَتْ مَعَهُمْ عِبْدَانُکُمْ، وَالْتَفَّتْ إِلَیْهِمْ أَعْرَابُکُمْ، وَهُمْ خِلَالَکُمْ یَسُومُونَکُمْ مَا شَاؤُوا؛ وَهَلْ تَرَوْنَ مَوْضِعاً لِقُدْرَةٍ عَلَی شَیْءٍ تُرِیدُونَهُ! إِنَّ هذَا الْأَمْرَ أَمْرُ جَاهِلِیَّةٍ، وَإِنَّ لِهوُلَاءِ الْقَوْمِ مَادَّةً. إِنَّ النَّاسَ مِنْ هذَا الْأَمْرِ - إِذَا حُرِّکَ - عَلَی أُمُورٍ: فِرْقَةٌ تَرَی مَا تَرَوْنَ، وَفِرْقَةٌ تَرَی ما لَاتَرَوْنَ، وَفِرْقَةٌ لَاتَرَی هذَا وَلَا ذَاکَ، فَاصْبِرُوا حَتَّی یَهْدَأَ النَّاسُ، وَتَقَعَ الْقُلُوبُ مَوَاقِعَهَا، وَتُؤْخَذَ الْحُقُوقُ مُسْمَحَةً؛ فَاهْدَؤُوا عَنِّی، وَانْظُرُوا مَاذَا یَأْتِیکُمْ بِهِ أَمْرِی، وَلَا تَفْعَلُوا فَعْلَةً تُضَعْضِعُ قُوَّةً، وَتُسْقِطُ مُنَّةً، وَتُورِثُ وَهْناً وَذِلَّةً. وَسَأُمْسِکُ الْأَمْرَ مَا اسْتَمْسَکَ. وَإِذَا لَمْ أَجِدْ بُدّاً فَآخِرُ الدَّواءِ الْکَیُّ.
هذه الخطبة، کما ذکر، ردّ علی بعض أصحاب الإمام علیه السلام الذین طالبوه بالقصاص من قتلة عثمان، حیث تطرق إلی هذا الموضوع علی ضوء تحلیل دقیق، فقال:
«یَا إِخْوَتَاهُ! إِنِّی لَسْتُ أَجْهَلُ مَا تَعْلَمُونَ، وَلکِنْ کَیْفَ لِی بِقُوَّةٍ». عادة ما یتصور البعض أنّه توصل إلی قضیة لو إهتم بها الحاکم لکانت لصالح المجتمع الإسلامی، والواقع أنّهم یرون شیئاً دون ملاحظة ملابساته، فهنالک حالة من الغموض فی القضیة یجهلونه. ومن هنا أردف الإمام علیه السلام عبارته السابقة بشرح للظروف الاجتماعیة
ص:309
القائمة آنذاک لیتضح لهم عدم عملیة اقتراحهم، فقال:
«وَالْقَوْمُ الْمُجْلِبُونَ(1) عَلَی حَدِّ شَوْکَتِهِمْ، یَمْلِکُونَنَا وَلَا نَمْلِکُهُمْ!». کیف یمکن الوقوف بوجه فئة متحدة وغاضبة أوائل الخلافة؟ وهل هناک سوی سفک المزید من الدماء دون جدوی؟! والشاهد علی ذلک ما رواه بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ الإمام علیه السلام جمع الناس ووعظهم.
ثم قال:
«لتقم قلتة عثمان» فقام الجمیع سوی قلة قلیلة(2). ثم أشار علیه السلام إلی نقطة أخری، فقال:
«وَهَاهُمْ هؤُلَاءِ قَدْ ثَارَتْ مَعَهُمْ عِبْدَانُکُمْ، وَالْتَفَّتْ إِلَیْهِمْ أَعْرَابُکُمْ، وَهُمْ خِلَالَکُمْ یَسُومُونَکُمْ(3) مَا شَاؤُوا». یستفاد من هذه العبارات أنّ الثورة ضد عثمان کانت متجذرة وقد أسهم المحرومون فیها بصورة واضحة.
ثم قال علیه السلام
«وَهَلْ تَرَوْنَ مَوْضِعاً لِقُدْرَةٍ عَلَی شَیْءٍ تُرِیدُونَهُ!». إشارة إلی أنّکم لا تستطیعون القیام بعمل فی ظل هذه الظروف ولا أنا. ومارس علیه السلام تحلیلاً آخر للتأکید علی هذا الأمر، فقال:
«إِنَّ هذَا الْأَمْرَ أَمْرُ جَاهِلِیَّةٍ، وَإِنَّ لِهوُلَاءِ الْقَوْمِ مَادَّةً». إشارة إلی أنّه إن وجب مؤاخذة عثمان لسوء تصرفه فی بیت مال المسلمین وتسلیطه فساق القوم علی رقاب المسلمین وإغداق المناصب علیهم، فلابدّ أن تتمّ من خلال الطرق الشرعیة وقضاة العدل، ونتیجة العمل غیر المدروس إنّما هو ضرب من ضروب الأنشطة الجاهلیة، وقوله: إنّ لهؤلاء القوم مادة، تأکید لتلک الحقیقة التی ذکرها فی العبارة السابقة من أنّ تلک الفئة لیست وحیدة فی الساحة، بل یقف خلفها الأعراب وطائفة من الساسة المحترفین المتعطشین للمناصب، وعلیه فلیس من المصلحة الإصطدام بها.
ص:310
کما واصل کلامه بأنّ الاشتباک مع قتلة عثمان یؤدّی إلی تفرقة صفوف المجتمع، فقال:
«إِنَّ النَّاسَ مِنْ هذَا الْأَمْرِ - إِذَا حُرِّکَ - عَلَی أُمُورٍ: فِرْقَةٌ تَرَی مَا تَرَوْنَ، وَفِرْقَةٌ تَرَی ما لَاتَرَوْنَ، وَفِرْقَةٌ لَاتَرَی هذَا وَلَا ذَاکَ، فَاصْبِرُوا حَتَّی یَهْدَأَ(1) النَّاسُ، وَتَقَعَ الْقُلُوبُ مَوَاقِعَهَا، وَتُؤْخَذَ الْحُقُوقُ مُسْمَحَةً(2)».
ثم أورد تأکیداً آخر:
«فَاهْدَؤُوا عَنِّی، وَانْظُرُوا مَاذَا یَأْتِیکُمْ بِهِ أَمْرِی، وَلَا تَفْعَلُوا فَعْلَةً تُضَعْضِعُ(3) قُوَّةً، وَتُسْقِطُ مُنَّةً(4) ، وَتُورِثُ وَهْناً وَذِلَّةً». إشارة إلی أنّ عدم التأنی فی القضایا الاجتماعیة ربّما یعطی نتائج معکوسة، فلا ینبغی القیام بفعل دون توفر شروطه، ذلک لأنّ الاخفاق فیه یؤدّی الذلة والهوان. کما ورد شبیه ذلک فی الخطبة الخامسة:
«وَمُجْتَنِی الثَّمَرَةِ لِغَیْرِ وَقْتِ إِیناعِها کَالزَّارِع بِغَیْرِ ارْضِهِ»(5).
وأخیراً اختتم الخطبة بهاتین العبارتین:
«وَسَأُمْسِکُ الْأَمْرَ مَا اسْتَمْسَکَ. وَإِذَا لَمْ أَجِدْ بُدّاً فَآخِرُ الدَّواءِ الْکَیُّ(6)». ربّما تکون هذه العبارة بفعل ضغوط طلبة الثأر لدم عثمان، حیث قال علیه السلام: سأصمد ولن ألجأ إلی السیف، لکن إن شعرت بغلق أبواب السلام فسأضطر إلی القوّة وأنهی التمرد. الاحتمال الآخر أنّ هذه العبارة إشارة إلی أولئک الذین تذرّعوا بدم عثمان لیقفوا بوجه الإمام علیه السلام کطلحة والزبیر. فصرّح الإمام علیه السلام بإنّه سیعاملهم بالطرق السلمیة وإلّا لجأ إلی القوة. طبعاً لا یبدو هذا الاحتمال منسجماً مع الخطبة، حیث لم ترد أدنی إشارة فی الکلام إلی طلحة والزبیر وأمثالهما، إلّاأن یکون السید الرضی قد حذف بعض الکلمات، وهذا أیضاً یبدو مستبعداً. أمّا العبارة
«فَآخِرُ الدَّواءِ الْکَیُّ» فهو مثل معروف ورد فی الأصل بشأن
ص:311
الجروح الخطیرة حیث کانوا یسلکون عدّة طرق لعلاجها فإن لم تنفع أحرقوا الجرح بحدید ساخن، ثم أصبحت هذه الجملة کنایة عن القضایا المشابهة، وعلیه تستعمل هذه العبارة حین تغلق الطرق السلمیة کافة(1).
ما أورده الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة مطلب جدی، لا کما تصور البعض أنّه یهدف إلی إسکات المقابل. حقّاً کان الثائرون علی عثمان آنذاک أشداء، حتی لم یجرأ علی مجابهتهم حین قتلهم لعثمان بعض الصحابة الموالین له. والأهم من ذلک أنّ معاویة حین تسلّم الخلافة وعبء کل طاقاته للمطالبة بدم عثمان، لم یستطع مواجهة قتلة عثمان فضلاً عن التعرف علیهم، بل لما ورد معاویة المدینة وسیطر علی الأوضاع اتّجه إلی دار عثمان، فصاحت بنته عائشة: أینک یا أبی؟ ومرادها الثأر من قتلة عثمان. فرد علیها معاویة بأنّ الناس قد استسلموا لنا وأعطیناهم الأمان وقد حملناهم علی الحلم وسیوفنا لم تغمد، فإن نقضنا عهدنا نقضوا عهدهم ولا ندری ینفعنا ذلک أم یضرنا (فالأولی أن نسکت ولا تضعف خلافتنا) وأنت بنت عمّ الخلیفة خیر لک أن تکونی من عوّام النساء، أی إن زالت خلافتی فسوف لن تکونی أکثر من امرأة عادیة(2).
لا شک فی أنّ الثورة التی قامت ضد عثمان کانت متجذرة، ذلک لأنّ أنصار عثمان وبطانته لم یکونوا قلائل فی المدینة. لم یتمکنوا من الوقوف بوجههم واکتفی
ص:312
المهاجرون والأنصار بالنظر إلی الأحداث. وسبب ذلک واضح، فقل من کان راضیاً بحکومة عثمان واقتصر هذا علی قرابته وبطانته التی عبثت ببیت المال وتسلطت علی رقاب الناس. وأنّ کل محقق منصف لا یری من مبرر لما وقع من أعمال علی عهد خلافة عثمان. فقد کان من الأجدر بکبار الصحابة من المهاجرین والأنصار أن یقتادوه إلی القضاء، تجنباً لغضب الأُمّة ومباشرتها لوضع حد لأعمال عثمان. وعلیه فالإشکال الرئیسی الذی یرد علی الثوار أنّهم تصرفوا بعیداً عن قوانین الإسلام القضائیة، وقد لمسنا دور الإمام علیه السلام إبان محاصرة عثمان وامتصاصه لنقمة غضب الناس وأمره الحسن والحسین بالدفاع عن عثمان. ونخلص ممّا سبق إلی أنّ جواب الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة کان دقیقاً ینسجم وروح الأحکام الشرعیة والقضائیة فی الإسلام.
ص:313
ص:314
تتألف هذه الخطبة من قسمین:
القسم الأول: دعوة الناس إلی طاعة الحکومة الإسلامیة عقب اتباع القرآن الکریم ونبذ البدع المضلة، ویحذرهم من أنّ اللّه یسلبهم النعمة إن لم یطیعوه، وبالتالی یعدهم لمواجهة الناکثین.
القسم الثانی: أشار فیه إلی اتحاد أعداء الحق رغم اختلافهم وإجماعهم علی الوقوف بوجه الإمام علیه السلام وأنّه سیصبر فإن أصرّوا علی غرضهم فی القضاء علی النظام الإسلامی فسأقف بوجههم بکل حزم.
ص:315
ص:316
إِنَّ اللّهَ بَعَثَ رَسُولاً هَادِیاً بِکِتَابٍ نَاطِقٍ وَأَمْرٍ قَائِمٍ، لَایَهْلِکُ عَنْهُ إِلَّا هَالِکٌ.
وَإِنَّ الْمُبْتَدَعَاتِ الْمُشَبَّهَاتِ هُنَّ الْمُهْلِکَاتُ إِلَّا مَا حَفِظَ اللّهُ مِنْهَا. وَإِنَّ فِی سُلْطَانِ اللّهِ عِصْمَةً لِأَمْرِکُمْ، فَأَعْطُوهُ طَاعَتَکُمْ غَیْرَ مُلَوَّمَةٍ وَلَا مُسْتَکْرَهٍ بِهَا.
وَاللّهِ لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَیَنْقُلَنَّ اللّهُ عَنْکُمْ سُلْطَانَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ لَایَنْقُلُهُ إِلَیْکُمْ أَبَداً حَتَّی یَأْرِزَ الْأَمْرُ إِلَی غَیْرِکُمْ.
أورد الإمام علیه السلام هذه الخطبة حین علم باتحاد الناکثین واقامتهم حکومة فی البصرة مناوئة لحکومته العادلة علیه السلام وقد انطلقوا إلی البصرة. وهدف الإمام علیه السلام من هذه الخطبة تعبئة الناس لمواجهتهم. دعاهم بادیء الأمر إلی التمسک بالقرآن، فقال:
«إِنَّ اللّهَ بَعَثَ رَسُولاً هَادِیاً بِکِتَابٍ نَاطِقٍ وَأَمْرٍ قَائِمٍ، لَایَهْلِکُ عَنْهُ إِلَّا هَالِکٌ(1)». ثم حذرهم قائلاً:
«وَإِنَّ الْمُبْتَدَعَاتِ(2) الْمُشَبَّهَاتِ(3) هُنَّ الْمُهْلِکَاتُ إِلَّا مَا حَفِظَ اللّهُ مِنْهَا».
إشارة إلی أنّ رؤوس الفتنة بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله یسعون إلی تحقیق أهدافهم الخبیثة
ص:317
تحت غطاء الإسلام، کأن یغفلوا نکثهم البیعة بالمطالبة بدم عثمان. وعلیه، ینبغی التحلی بالیقظة وعدم الانخداع بالظواهر والتوکل علی اللّه.
ثم دعاهم إلی الطاعة فقال:
«وَإِنَّ فِی سُلْطَانِ اللّهِ عِصْمَةً لِأَمْرِکُمْ، فَأَعْطُوهُ طَاعَتَکُمْ غَیْرَ مُلَوَّمَةٍ(1) وَلَا مُسْتَکْرَهٍ بِهَا. وَاللّهِ لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَیَنْقُلَنَّ اللّهُ عَنْکُمْ سُلْطَانَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ لَایَنْقُلُهُ إِلَیْکُمْ أَبَداً حَتَّی یَأْرِزَ(2) الْأَمْرُ إِلَی غَیْرِکُمْ».
نعم، إنّ هذه النعمة عقوبتها الزوال إن لم تُشکر، وهکذا شأن سائر النعم: «لَئِنْ شَکَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّکُمْ وَلَئِنْ کَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِی لَشَدِیدٌ»(3) وما یستفاد من العبادة المذکورة (بناءً علی أن «حتی» للغایة) أنّکم إن لم تطیعوا إمام الحق، فإنّ اللّه یسلبکم نعمة الحکومة الإسلامیة ولا تعود إلیکم، إلّاأنّ یسلط علیکم العدو وتزول حکومته ثم تعود إلیکم. وقد حیرت هذه العبارة الشرّاح، ذلک لأنّ الحکومة غیر الصالحة بعد الإمام کانت بید بنی أمیة ولم تعد الحکومة بعد بنی أمیة لأهل البیت علیهم السلام. قال البعض عادت إلی بنی العباس وهم من بنی هاشم وعلیه فقد عادت إلی أهل البیت، إلّا أنّ هذا التفسیر غیر مستقیم لأنّ ظلم بنی العباس لم یکن أقلّ من ظلم بنی أمیة.
واحتمل البعض الآخر أنّ عودة الحکومة إلی أهل البیت عند ظهور ولی العصر أرواحنا فداه. نعم، لیست هنالک من مشکلة إن کانت (حتی) عاطفة بمعنی الواو، لأنّ معنی العبارة سیکون: إن لم تطیعوا إمام الحق سیسلبکم اللّه الحکومة الإسلامیة ولا تعود إلیکم وسیکون الأمر لغیرکم (طبعاً المراد فی المستقبل القریب، وإلّا لیس من شک فی المستقبل البعید لحکومة صاحب العصر والزمان علیه السلام والتی تمثل عودة الحکومة العالمیة لأهل البیت علیهم السلام).
ص:318
إِنَّ هؤُلَاءِ قَدْ تَمَالَؤُوا عَلَی سَخْطَةِ إِمَارَتِی، وَسَأَصْبِرُ مَا لَمْ أَخَفْ عَلَی جَمَاعَتِکُمْ؛ فَإِنَّهُمْ إِنْ تَمَّمُوا عَلَی فَیَالَةِ هذَا الرَّأْیِ انْقَطَعَ نِظَامُ الْمُسْلِمِینَ، وَإِنَّمَا طَلَبُوا هذِهِ الدُّنْیَا حَسَداً لِمَنْ أَفَاءَهَا اللّهُ عَلَیْهِ، فَأَرَادُوا رَدَّ الْأُمُورِ عَلَی أَدْبَارِهَا. وَلَکُمْ عَلَیْنَا الْعَمَلُ بِکِتَابِ اللّهِ تَعَالَی وَسِیرَةِ رَسُولِ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - وَالْقِیَامُ بِحَقِّهِ، وَالنَّعْشُ لِسُنَّتِهِ.
بالنظر إلی ورود الخطبة فی أوائل خلافة الإمام علیه السلام وإبان السیر إلی البصرة لمواجهة أصحاب الجمل فقد حثّ الإمام علیه السلام أصحابه فی القسم الأول، علی الطاعة، وحذر هنا، العدو من مغبة مواصلة الفتنة وإلّا سیقف بوجههم بکل ما أوتی من قوّة فقال:
«إِنَّ هؤُلَاءِ قَدْ تَمَالَؤُوا(1) عَلَی سَخْطَةِ(2) إِمَارَتِی». إشارة إلی اختلافهم ففیهم المنافق والحسود والضیق الافق (کطلحة والزبیر) ولا یجمعهم سوی عدائهم لی.
ثم قال:
«وَسَأَصْبِرُ مَا لَمْ أَخَفْ عَلَی جَمَاعَتِکُمْ». فالعبارة تشیر إلی تحمل الإمام علیه السلام لذلک العدو، ویری عدم ضرورة المبادرة إلی السیف ما لم یکن هناک خطر یهدد الجماعة، وبالطبع، هذا لا یعنی أنّ الإمام علیه السلام کان یسکت تجاه کل أعمالهم.
ومن هنا قال علیه السلام
«فَإِنَّهُمْ إِنْ تَمَّمُوا عَلَی فَیَالَةِ(3) هذَا الرَّأْیِ انْقَطَعَ نِظَامُ الْمُسْلِمِینَ». ثم
ص:319
قال:
«وَإِنَّمَا طَلَبُوا هذِهِ الدُّنْیَا حَسَداً لِمَنْ أَفَاءَهَا اللّهُ عَلَیْهِ، فَأَرَادُوا رَدَّ الْأُمُورِ عَلَی أَدْبَارِهَا». فقد أخرج رسول اللّه صلی الله علیه و آله الحکومة من صورتها الدنیویة والمادیة ومنحها صبغة ربانیة بجهود الأولیاء والأصفیاء، إلّاأنّ أصحاب الجمل یظنون أنّ الحکومة لقمة سائغة وطعمة هنیئة فیصرون علی اقتناصها وتحقیق أغراضهم الدنیویة.
والعبارة
«حَسَداً لِمَنْ أَفَاءَهَا» بالنظر إلی أنّ أفاء من مادة فی بمعنی العودة فإنّها تشیر إلی أنّ الحکومة علی عهد النبی صلی الله علیه و آله کانت فی بنی هاشم وقد عادت إلیهم الآن. وإن سعی الحساد لاستعادتها واحیاء سنن الجاهلیة.
واختتم الإمام علیه السلام الخطبة بالإشارة إلی حقوق الناس علی الحکومة، فقال:
«وَلَکُمْ عَلَیْنَا الْعَمَلُ بِکِتَابِ اللّهِ تَعَالَی وَسِیرَةِ رَسُولِ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - وَالْقِیَامُ بِحَقِّهِ، وَالنَّعْشُ(1) لِسُنَّتِهِ». أی إن کان لی علیکم حق (وهو حق الطاعة والانقیاد التام) فلکم علی حق أیضاً هو إحیاء کتاب اللّه وسنّة رسوله صلی الله علیه و آله، ذلک لأنّ للحق طرفین، ولیس هنالک من حق ذی طرف واحد. جدیر ذکره أنّ الخطبة بدأت وانتهت بالتأکید علی أهمیّة القرآن.
ص:320
فِی وُجُوبِ اتِّباعِ الحَقِّ عِنْدَ قِیَامِ الحُجَّةِ(1)
کَلَّمَ بِهِ بَعْضَ العَرَبِ وَ قَدْ أرْسَلَهُ قَوْمٌ مِنْ أهْلِ البَصْرَةِ لَمّا قَرُبَ علیه السلام مِنْها لِیَعْلَمَ لَهُمْ مِنْهُ حَقِیقَةَ حَالِهِ مَع أصْحَابِ الجَمَلِ لِتَزُولَ الشُّبْهَةُ مِن نُفوسِهِم، فَبَیَّنَ لَهُ علیه السلام مِنْ أمْرِهِ مَعَهُمْ مَا عَلِمَ بِه أنَّهُ علی الحَقِّ، ثُمّ قالَ لَه: بَایِعْ، فَقالَ: إنِّی رَسُولُ قَوْمٍ، وَلا أُحْدِثُ حَدَثاً حَتّی أرْجِعَ إلَیْهِم فقالَ:
الخطبة، کما ورد، سابقاً، جواب واضح لرسول بعض قبائل أطراف الکوفة والبصرة حین طالبه الإمام علیه السلام بالبیعة وحاول التهرب منها.
ص:321
ص:322
فقال: أَرَأَیْتَ لَوْ أَنَّ الَّذِینَ وَرَاءَکَ بَعَثُوکَ رَائِداً تَبْتَغِی لَهُمْ مَسَاقِطَ الْغَیْثِ، فَرَجَعْتَ إِلَیْهِمْ وَأَخْبَرْتَهُمْ عَنِ الْکَلَإِ وَالْمَاءِ، فَخَالَفُوا إِلی الْمَعَاطِشِ وَالْمَجَادِبِ، مَا کُنْتَ صَانِعاً؟ قَالَ: کُنْتُ تَارِکَهُمْ وَمُخَالِفَهُمْ إِلی الْکَلَاءِ وَالْمَاءِ.
فَقَالَ - عَلَیْهِ السَّلَامُ -: فَامْدُدْ إذاً یَدَکَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: فَوَاللّهِ مَااسْتَطَعْتُ أَنْ أَمْتَنِعَ عِنْدَ قِیَامَالْحُجَّةِ عَلَیَّ، فَبَایَعْتُهُ عَلَیْهِ السَّلَامُ.
وَالرّجلُ یُعْرَفُ بِکُلَیْبٍ الجَرْمِیّ.
روی الواقدی فی کتاب الجمل عن (کلیب الجرمی) أنّه لما قتل عثمان ولم تمضی مدّة حتی قدم طلحة والزبیر إلی البصرة (لیمهدوا السبیل أمام حکومتهما) وحین علم علی علیه السلام قدم إلی منطقة ذی قار (لمنعهما). سألنی شخصان من أهل البصرة لأحملهما إلی علی، لنعلم ما هدفه؟ فلما بلغنا ذی قار وجدنا علیاً علیه السلام أعقل العرب، سألنی من زعیم قبیلة بنی راسب؟ قلت فلان. قال من زعیم قبیلة بنی قدامة؟ قلت فلان. قال: هل لک أن تحمل کتابی لهما؟ قلت: بلی. قال: ألا تبایعنی؟ وهنا بایع الرجلان، بینما لم أبایع، فالتفت إلیَّ عدد من الرجال الذین کان علیهم سیماء الصالحین فقالوا: بایع، بایع. قال علی علیه السلام: دعوه. فقلت: أنا رائد القوم فأعود إلیهم وأخبرهم فإن بایعوک أُبایعک وإن لم یبایعوا، تبعتهم، فأجابنی الإمام علیه السلام جواباً لم أجد بداً من البیعة. نعود الآن إلی النصّ لنری ماذا قال له علیه السلام لقد قال:
«أَرَأَیْتَ لَوْ
ص:323
أَنَّ الَّذِینَ وَرَاءَکَ بَعَثُوکَ رَائِداً(1) تَبْتَغِی لَهُمْ مَسَاقِطَ الْغَیْثِ، فَرَجَعْتَ إِلَیْهِمْ وَأَخْبَرْتَهُمْ عَنِ الْکَلَإِ(2) وَالْمَاءِ، فَخَالَفُوا إِلی الْمَعَاطِشِ(3) وَالْمَجَادِبِ(4) ، مَا کُنْتَ صَانِعاً؟ قَالَ: کُنْتُ تَارِکَهُمْ وَمُخَالِفَهُمْ إِلی الْکَلَاءِ وَالْمَاءِ».
فما کان هنا من الإمام علیه السلام إلّاأنّ ابتدره:
«فَقَالَ - عَلَیْهِ السَّلَامُ -: فَامْدُدْ إذاً یَدَکَ.
فَقَالَ الرَّجُلُ: فَوَاللّهِ مَااسْتَطَعْتُ أَنْ أَمْتَنِعَ عِنْدَ قِیَامَ الْحُجَّةِ عَلَیَّ، فَبَایَعْتُهُ عَلَیْهِ السَّلَامُ»
قال السید الرضی:
«وَالرّجلُ یُعْرَفُ بِکُلَیْبٍ الجَرْمِیّ».
فقد أشار الإمام علیه السلام فی جوابه المذکور إلی حقیقة مهمّة یحل الالتفات إلیها الکثیر من المشاکل. فکثیرون هم الأفراد الذین یفخرون بانصهارهم بالجماعة وتلونهم بلونها، فهم یفتقرون إلی الاستقلال الفکری بحیث لا یطیقون الانفصال عن الجماعة - وإن کانت ضالة - وهذا ما یؤدّی إلی انتقال الخرافات والمساویء من جیل إلی آخر. فالإمام علیه السلام یفند هذا اللون من التفکیر بمثال واضح حیث قال: لو کنت ضمن جماعة وبلغت موضعاً فی الصحراء حیث الماء والغذاء، بینما انحرفت الجماعة إلی موضع مجدب خالٍ من الماء والغذاء، فهل تبقی معهم أم ترجع إلی عقلک؟ فتنفصل عنهم وتسلک سبیل العافیة والسلامة، هل من عاقل یبقی فی هذه الحالة مصرّاً علی الجماعة؟! قطعاً لو کان الإنسان مستقلاً فکریاً فإنّه یسلک الطریق المستقیم أن تعرف علیه وإن سلکه لوحده. وهذا من قبیل ما أورده الإمام علیه السلام فی الخطبة 201 حین قال
«أَیُّها النَّاسُ لاتَستَوحِشُوا فِی طَرِیقِ الهُدی لِقِلَّةِ أَهلِهِ». نعم، مبایعة إمام کعلی بن أبی طالب علیه السلام مجادب، جمع مجدب، المکان الذی لم ینزل إلیه المطر فهو جاف لا نبات فیه. وقبول ولایته تمثل ماء الحیاة فی
ص:324
ذلک المجتمع الذی شهد فساد عصر عثمان، ولم یکد هذا الرجل یسمع کلام علی علیه السلام حتی بایعه.
یفید الکلام المذکور مدی عمق تأثیر کلام الإمام علیه السلام فی المستمع، والجدیر بالذکر أنّ هذا الأمر حدث بالنسبة لرسول عائشة ورسول طلحة والزبیر. ولما همّت عائشة ببعث رسولٍ إلی علی علیه السلام، سألت القوم أن یأتوها بأشد أعداء علی علیه السلام فأعطته عائشة کتابها وحذرته من تناول طعامه وشرابه ففیه سحر. فأتی بکتاب عائشة إلی علی علیه السلام، فلما أعطاه الکتاب قرأه ودعاه إلی بیته لیتناول الطعام حتی یکتب له الجواب، فأقسم الرجل علی عدم الذهاب. فقال له الإمام علی علیه السلام: هلا تجیبنی إن سألتک؟ قال: بلی. قال علیه السلام: ناشدتک اللّه حین أرادت عائشة أن تبعث برسولها ألم تسأل القوم عن رجل شدید العداوة لعلی، فأتوا بک إلیها وسألتک عن عدائی فأجبت کذا وکذا؟ قال: بلی. قال علیه السلام: ألم تحذرک من تناول الطعام فإنّ فیه سحر؟ قال: بلی. قال علیه السلام: أتکون رسولی؟ قال: بلی واللّه. لقد قدمت إلیک وأنت أبغض الخلق إلیَّ والآن أنت أحبّ الخلق إلیَّ. قال علیه السلام: إذهب بکتابی هذا إلی عائشة وقل لها: لقد عصیت اللّه وعصیت رسول اللّه صلی الله علیه و آله حیث خرجت من بیتک. وقل لطلحة والزبیر: حفظتم نساؤکم وأبرزتم زوج رسول اللّه صلی الله علیه و آله. فقدم الرجل وسلم عائشة الکتاب، وقال لها ما أوصاه الإمام علیه السلام، وقد قتل هذا الرجل فی صفین مع علی علیه السلام.
قالت عائشة: ما أرسلنا من رجل إلی علی إلّاعصانا وتمرد علینا(1). وقد حصل مثل هذا الأمر لرجل یدعی خداش رسول طلحة والزبیر، وقد ورد شرح ذلک فی
ص:325
کتاب الکافی للمرحوم الکلینی،(1) وخلاصته، أنّ هذا الرجل أتی بکتاب طلحة والزبیر إلی أمیر المؤمنین علی علیه السلام وقد حذراه سابقاً من بیان علی علیه السلام الذی یسحر العقول فلا ینبغی أن یجالسه ویتناول معه الطعام ولا یطیل النظر إلی وجهه وأن یقرأ عند رؤیته، آیة السحرة: «إِنَّ رَبَّکُمُ اللّهُ الَّذِی خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَی عَلَی الْعَرْشِ یُغْشِی اللَّیْلَ النَّهَارَ یَطْلُبُهُ حَثِیثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَکَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِینَ * ادْعُوا رَبَّکُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْیَةً إِنَّهُ لَایُحِبُّ الْمُعْتَدِینَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِیبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِینَ»(2).
لیأمن من سحره. فلما قدم إلی الإمام علیه السلام نظر إلیه وضحک ثم قال: أجلس. قال:
لا. قال علیه السلام: نأتیک الطعام ثم قل ما عندک. قال: لا حاجة بی إلی ذلک. قال علیه السلام: تعال نتحدث فی مجلس. قال لیس لدیَّ ما أُخفیه. قال علیه السلام: قل الصدق، ألم یأمرک الزبیر بذلک؟ قال: بلی. قال علیه السلام: أخبرک أن تقرأ آیة السحرة إن رأیتنی؟ قال: بلی. فأخذ یقرأها والإمام علیه السلام یقرأ معه، ثم قال علیه السلام: کرّرها، حتی کرّرها سبعین مرّة. قال علیه السلام: قل ما عندک؟ فقال له ما أوصاه طلحة والزبیر، فرد علیه السلام علی تناقضاتهما وجعل (خداش) یصدقه حتی قال لنفسه: لقد جئت بکتاب یبطل بعضه بعضاً؟ إلهی أبرء إلیک منهما؟ قال علیه السلام: قل لهما ما قلت لک، قال: خداش واللّه لا أبرح حتی تسأل اللّه أن یرجعنی إلیک. ففعل الإمام علیه السلام فرجع إلی طلحة والزبیر وأوصل کتاب الإمام علیه السلام إلیهما ثم عاد مسرعاً إلی الإمام علیه السلام حتی قتل بین یدیه فی الجمل.
ص:326
لَمَّا عَزَمَ علی لِقاءِ الْقَوْمِ بِصِفِّینِ(1)
هذه الکلمات لیست خطبة ولیست کلاماً عادیاً، بل هی دعاء عظیم المعنی لهج به الإمام علیه السلام حین عزم علی مواجهة القاسطین فی صفین معاویة ورهطه فی شهر صفر سنة 37 ه واختتمه بدعوة صحبه إلی الجهاد. ویتضمن کلامه قسمین:
الأول: دعاء یثنی فیه علی اللّه بما یرسخ الإیمان لدی الآخرین ویسأله تعالی التسدید إلی الحق والثبات إن انتصر علی عدوه، وأن ینعم علیه بالشهادة والإبتعاد عن الفتنة إن کانت الغلبة للعدو.
أمّا القسم الثانی: فقد دعی فیه صحبه لجهاد معاویة ورهطه من خلال عبارات قصیرة، لکنها تثیر الحماس والقوة.
ص:327
ص:328
اللَّهُمَّ رَبَّ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ، وَالْجَوِّ الْمَکْفُوفِ، الَّذِی جَعَلْتَهُ مَغِیضاً لِلَّیْلِ وَالنَّهَارِ، وَمَجْریً لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَمُخْتَلَفاً لِلنُّجُومِ السَّیَّارَةِ؛ وَجَعَلْتَ سُکَّانَهُ سِبْطاً مِنْ مَلَائِکَتِکَ، لَایَسْأَمُونَ مِنْ عِبَادَتِکَ؛ وَرَبِّ هذِهِ الْأَرْضِ الَّتِی جَعَلْتَهَا قَرَاراً لِلْأَنَامِ، وَمَدْرَجاً لِلْهَوَامِّ وَالْأَنْعَامِ، وَمَا لَایُحْصَی مِمَّا یُرَی وَمَا لَا یُرَی؛ وَرَبَّ الْجِبَالِ الرَّوَاسِی الَّتِی جَعَلْتَهَا لِلْأَرْضِ أَوْتَاداً، وَلِلْخَلْقِ اعْتِمَاداً، إِنْ أَظْهَرْتَنَا عَلَی عَدُوِّنَا، فَجَنِّبْنَا الْبَغْیَ وَسَدِّدْنَا لِلْحَقِّ؛ وَإِنْ أَظْهَرْتَهُمْ عَلَیْنَا فَارْزُقْنَا الشَّهَادَةَ، وَاعْصِمْنَا مِنَ الْفِتْنَةِ.
أَیْنَ الْمَانِعُ لِلذِّمَارِ، وَالْغَائِرُ عِنْدَ نُزُولِ الْحَقَائِقِ مِنْ أَهْلِ الْحِفَاظِ! العَارُ وَرَاءَکُمْ وَالْجَنَّةُ أَمَامَکُمْ!
کما ذکرنا سالفاً فإنّ الإمام علیه السلام استهل الخطبة بدعاء روحی عمیق المعانی لیعد نفسه وصحبه للقاء العدو، وحیث یحمد اللّه فی الدعاء بصفات تعد القلوب فإنّ الإمام علیه السلام حمد اللّه فی هذا الدعاء باسم ربّ السموات والأرض وربّ الجبال فقال علیه السلام:
«اللَّهُمَّ رَبَّ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ، وَالْجَوِّ(1) الْمَکْفُوفِ(2) ، الَّذِی جَعَلْتَهُ مَغِیضاً(3)
ص:329
لِلَّیْلِ وَالنَّهَارِ، وَمَجْریً لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَمُخْتَلَفاً لِلنُّجُومِ السَّیَّارَةِ؛ وَجَعَلْتَ سُکَّانَهُ سِبْطاً(1) مِنْ مَلَائِکَتِکَ، لَایَسْأَمُونَ(2) مِنْ عِبَادَتِکَ». العبارة
«السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ» إشارة إلی موضع النجوم التی تشاهد فی السماء بصورة سقف - وقد سحبت من الشرق والغرب والشمال إلی الجنوب - أو إشارة إلی جو الأرض، أی طبقة الهواء التی تحیط بالأرض بقطر طوله مئتی کیلومتر ویحفظها کسقف من الأشعة الکونیة القاتلة والصخور السماویة التائهة(3). إلّاأنّ التفسیر الأول أنسب، وعلیه فالسقف المرفوع محل نجوم العالم العلوی والتی تبدو لأهل الأرض کالسقف، ومفهوم مجری الشمس والقمر... بهذا المعنی.
«وَالْجَوِّ الْمَکْفُوفِ» طبقة الهواء المحیطة بالأرض موضع ظهور اللیل والنهار (فاللیل ظل الأرض ویظهر فی هذا الجو المکفوف وکذلک النهار موضع شروق الشمس).
وربّما تشیر العبارة مختلفا
«وَمُخْتَلَفاً لِلنُّجُومِ السَّیَّارَةِ» إلی جمیع نجوم السماء السابحة فی هذا الفضاء الواسع، حیث تطلع کل لیلة من أُفق المشرق تغیب فی أُفق المغرب، أمّا إن کانت (النجوم السیارة) إشارة إلی السیارات الخمس المعروفة للمنظومة الشمسیة فإنّ المفردة (مختلفاً) تشیر إلی حرکتها الخاصة فی السماء، وکأنّها تتقدم قلیلاً ثم تعود ثم تنطلق (وإن لم تکن کذلک فی الواقع). ضمناً، فإنّ الکلمات المذکورة علی غرار التعبیرات القرآنیة التی تنسجم وعلم الفلک المعاصر وتنفی نظریة بطلیموس، وذلک لأنّ معنی مجری الشمس والقمر، هاتین الکرتین مستقلتان فی حرکتهما فی السماء، وکذلک النجوم، لا أنّها مشدودة إلی أفلاک بلوریة وتتحرک معها.
ثم أشار علیه السلام إلی الأرض وکائناتها الحیة فقال:
«وَرَبِّ هذِهِ الْأَرْضِ الَّتِی جَعَلْتَهَا
ص:330
قَرَاراً لِلْأَنَامِ، وَمَدْرَجاً(1) لِلْهَوَامِّ(2) وَالْأَنْعَامِ، وَمَا لَایُحْصَی مِمَّا یُرَی وَمَا لَایُرَی».
إنّ هذه العبارات تفید احاطة الإمام علیه السلام العلمیة بجمیع الکائنات علی الأرض والتی تشمل الإنسان والحیوانات الأهلیة وغیر الأهلیة حتی الدیدان التی لا تری بالعین المجرّدة کأنواع المیکروبات والفیروسات. وذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ المراد من (ما لا یری) الأحیاء المتناثرة فی الصحراء والتی لا یراها أحد، وقالوا: لو أوقدت نار فی الصحراء فی لیلة مظلمة لاجتمعت حولها دیدان لم یرها الإنسان، ولکن بالنظر إلی الاکتشافات الحدیثة بشأن الأحیاء المجهریة التی لا تری بالعین المجرّدة لا تبدو هناک حاجة لمثل هذا التفسیر، فهناک طائفة من الأحیاء التی لا تری بأی شکل من الأشکال، وهذا الکلام من کرامات الإمام علیه السلام التی أماطت اللثام عن حقیقة کانت خفیة علی الجمیع آنذاک. وعبّر عن الإنسان بالقرار (موضع الإستقرار والإقامة) وعن الحیوانات بالمدرج (موضع السیر البطئ والتدریجی) ولعل الفارق فی التعبیرین، یعزی إلی الحرکة فی الحیوانات التی تفوق نظیرتها عند الإنسان.
ثم قال علیه السلام فی الصفة الثالثة للذات المقدّسة فی دعائه العظیم:
«وَرَبَّ الْجِبَالِ الرَّوَاسِی(3) الَّتِی جَعَلْتَهَا لِلْأَرْضِ أَوْتَاداً، وَلِلْخَلْقِ اعْتِمَاداً». فالعبارة کون الجبال للأرض أوتاداً اقتباس من القرآن الکریم بشأن الجبال: «وَالْجِبَالَ اوْتَاداً(4)»(5). أحیاناً یتصور أنّ حجم أضخم الجبال صغیر بالنسبة للکرة الأرضیة، بحیث لا یصح اطلاق الوتد علیه، لکن بالنظر إلی أنّ لهذه الجبال العظیمة جذور فی أعماق الأرض، وهذه الجذور متصلة مع بعضها کدرع أحاط بالأرض یحول دون الضغوط الداخلیة
ص:331
والخارجیة - والذی یفرزه جاذبیة القمر وجزره ومده - فإنّ الجبال تعتبر بمثابة الأوتاد التی تحول دون تصدع الأرض. أمّا قوله: إنّ اللّه جعلها للخلق اعتماداً، ذلک لأنّ الجبال تحطم الریاح الشدیدة العاتیة وتمنع العواصف الرملیة والسیول الخطیرة، أضف إلی ذلک فإنّ أغلب الأنهار والعیون تنحدر من الجبال وهی مرکز أکثر المعادن المفیدة، إلی جانب بناء البیوت والقلاع المحکمة فیها، سیما المناطق التی تکون عرضة للسیول إنّما تلجأ لبناء الدور هناک خلاصاً من هذا الخطر. والسؤال ما الذی أراد أن یطلبه الإمام علیه السلام من اللّه فی هذا الدعاء. قال علیه السلام
«إِنْ أَظْهَرْتَنَا عَلَی عَدُوِّنَا، فَجَنِّبْنَا الْبَغْیَ وَسَدِّدْنَا لِلْحَقِّ؛ وَإِنْ أَظْهَرْتَهُمْ عَلَیْنَا فَارْزُقْنَا الشَّهَادَةَ، وَاعْصِمْنَا مِنَ الْفِتْنَةِ».
فقد أشار الإمام علیه السلام بهذا الدعاء إلی هذه الحقیقة وهی أنّ الکثیر ربّما یفارق العدالة حین النصر والغلبة فی المعرکة ویمارس الظلم بحق العدو، ومن هنا یسأل اللّه فی حالة النصر ابعاده عن هذا العمل أولاً، وثانیاً، کثیرون هم الأفراد الذین ینشدون النصر ارضاء لغرورهم والسیطرة علی الآخرین. الإمام علیه السلام یدعو اللّه أن یسدده للحق وإقامة العدل إن کتب له النصر، وثالثاً، علی فرض کون الغلبة للأعداء فإنّه یسأل اللّه الشهادة والاعتصام من الفتنة. الفتنة هنا یمکن أن تکون إشارة إلی الامتحان، ذلک لأنّ ساحة القتال من میادین الامتحانات الصعبة وعلی الإنسان أن یسأل اللّه تثبیته فی القتال. فالفرد الذی یعتقد أنّه علی الحق ربّما ینقم حظه إن أصابه شیء، وینطلق لسانه بالشکوی وهذا فشل فی میدان الامتحان.
ثم دعی الإمام علیه السلام أصحابه لمواجهة العدو من خلال عباراته المؤثرة فی الدعاء فقال:
«أَیْنَ الْمَانِعُ لِلذِّمَارِ(1) ، وَالْغَائِرُ(2) عِنْدَ نُزُولِ الْحَقَائِقِ(3) مِنْ أَهْلِ الْحِفَاظِ!(4) العَارُ
ص:332
وَرَاءَکُمْ وَالْجَنَّةُ أَمَامَکُمْ!». وأخیراً یختتم کلامه بتشجیع المدافعین وتهدید الهاربین فیقول:
«العَارُ وَرَاءَکُمْ وَالْجَنَّةُ أَمَامَکُمْ!» فإن فررتم کان ذلکم عاراً علیکم وإن ثبتم فلکم الجنّة.
لقد شهد تاریخ البشریة نشوب العدید من الحروب العالمیة والأقلیمیة، ولکن غالباً ما یکون الهدف منها، الطمع وحب الاستعلاء والسیطرة والثأر، ومن هنا فإنّ النصر فی المعرکة إنّما یؤدّی إلی ارتکاب أفضع الجنایات، وذلک لغیاب الهدف المقدّس. نعم، یستثنی من ذلک حروب الأنبیاء والأولیاء، حیث الهدف منها إطفاء نار الفتنة، «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّی لَاتَکُونَ فِتْنَةٌ»(1) والدفاع والوقوف بوجه المهاجم: «فَإِنْ قَاتَلُوکُمْ فَاقْتُلُوهُمْ»(2) ولذلک فإنّ الأصول الإنسانیة لا تغیب قط فی المعرکة. ومن ذلک ما أوصی به أمیر المؤمنین علیه السلام جند الإسلام عند النصر بأنّ لا یتعقّبوا فاراً ولا یجهزوا علی جریح ولا یتهیجوا النساء بأذی وإن شتمن الأعراض وسببن الأمراء(3).
وتراه علیه السلام فی هذه الخطبة والدعاء الذی تقرب به إلی اللّه یسأله الثبات والتسدید إلی الحق عند ظهوره علی العدو، وهذا هو الفارق بین من یخوض الحرب من أهل الدنیا وأولئک الذین یعملون للآخرة.
ص:333
ص:334
استهل الإمام علیه السلام الخطبة بحمد اللّه والثناء علیه ثم أشار إلی بعض الأعمال والأقوال الطائشة لبعض الصحابة المعروفین. تتکون الخطبة من ثلاثة أقسام. أشار فی القسم الأول: إلی موقف عبدالرحمن بن عوف أو سعد بن أبی وقاص یوم الشوری (الشوری المؤلفة من ستة أفراد والتی شکلها عمر لاختیار الخلیفة من بعده)، حیث نسب إلی الإمام علیه السلام الحرص علی الخلافة فأجابه الإمام علیه السلام بجواب رائع. وشکی إلی اللّه.
فی القسم الثانی، قریشاً ومن اصطف معها ضده. وتطرق.
فی القسم الثالث، إلی قضیة طلحة والزبیر وموقعة الجمل وعملها القبیح الذی ارتکباه حین أخرجا عائشة (زوج النبی) إلی المعرکة ولم یحفظا حرمة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وما تبع ذلک من سفک للدماء.
ص:335
ص:336
الْحَمْدُللّهِِ الَّذِی لَاتُوَارِی عَنْهُ سَمَاءٌ سَمَاءً، وَلَا أَرْضٌ أَرْضاً.
منها: وَقَدْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّکَ عَلَی هذَا الْأَمْرِ یَابْنَ أَبِی طَالِبٍ لَحَرِیصٌ؛ فَقُلْتُ: بَلْ أَنْتُمْ وَاللّهِ لَأَحْرَصُ وَأَبْعَدُ، وَأَنَا أَخَصُّ وَأَقْرَبُ، وَإِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِی وَأَنْتُمْ تَحُولُونَ بَیْنِی وَبَیْنَهُ، وَتَضْرِبُونَ وَجْهِی دُونَهُ. فَلَمَّا قَرَّعْتُهُ بِالْحُجَّةِ فِی الْمَلَاءِ الْحَاضِرِینَ هَبَّ کَأَنَّهُ بُهِتَ لَایَدْرِی مَا یُجِیبُنِی بِهِ!
اللَّهُمَّ إِنِّی أَسْتَعْدِیکَ عَلَی قُرَیْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ! فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِی، وَصَغَّرُوا عَظِیمَ مَنْزِلَتِی، وَأَجْمَعُوا عَلَی مُنَازَعَتِی أَمْراً هُوَ لِی. ثُمَّ قَالُوا: أَلَا إِنَّ فِی الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ، وَفِی الْحَقِّ أَنْ تَتْرُکَهُ.
إستهل الإمام علیه السلام الخطبة بحمد اللّه والثناء علیه ورکز علی علم اللّه وسعته - بما یتناسب وأبحاث الخطبة - فقال:
«الْحَمْدُللّهِِ الَّذِی لَاتُوَارِی عَنْهُ سَمَاءٌ سَمَاءً، وَلَا أَرْضٌ أَرْضاً».
یبدو أنّ بعض شرّاح نهج البلاغة تکلفوا فی تفسیر العبارة
«وَلَا أَرْضٌ أَرْضاً» علی أساس عدم وجود أکثر من أرض، فذهبوا إلی أنّها تشیر إلی الأقالیم السبعة علی الأرض التی نراها محیطة بالأرض بسبب کرویتها حتی وإن نظرنا إلیها من خارج الکرة الأرضیة، ولا یمکن رؤیة جمیع المناطق فی الأرض فی لحظة معینة وإن نظرنا إلیها من مسافة بعیدة، إلّاأنّ الأمر لیس کذلک بالنسبة للّه الذی لا یغیب
ص:337
عن علمه شیء. وقیل: تشیر العبارة إلی طبقات الأرض، فالأرض تتألف من طبقات ولا نری سوی طبقة واحدة منها، أمّا اللّه فلا یغرب عنه شیء. وقیل: المراد، المخلوقات التی تعیش فی الأرضین، حیث ورد مثل هذا الکلام فی تفسیر الآیة الشریفة 12 من سورة الطلاق: «اللّهُ الَّذِی خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» وقد قال کل من الفخر الرازی والمرحوم العلّامة الطبرسی بأحد هذین التفسیرین المذکورین. الاحتمال الآخر فی تفسیر الآیة وکلام الإمام علیه السلام أنّ المراد، العوالم الواقعة فی الجانب الآخر من الکرة الأرضیة. توضیح ذلک، أننا نصطلح علی ما فوقنا بالسماء وما تحتنا بالأرض، ونعلم أنّ الکرة الأرضیة وسط مجموعة من الکواکب الثابتة والسیارة، وکما أنّ هناک عدداً هائلاً من تلک المجموعة فوقنا، کذلک لو تأملنا الجانب الآخر للکرة الأرضیة فإنّ فیها مجموعة من هذه العوالم التی تعد سماءاً بالنسبة لسکنتها بینما تعتبر أرضاً بالنسبة لنا، فالسماء لا تقتصر علی هذا النصف الکروی الذی فوقنا، بل هنالک النصف الآخر تحتنا والملیء بالکواکب والکرات السماویة (علیک بالتأمل).
ثم أشار الإمام علیه السلام فی الجانب الآخر من الخطبة إلی وقائع یوم الشوری المکونة من ستة أعضاء لاختیار الخلیفة الثالث فرد علی مقولة عبدالرحمن بن عوف أو سعد بن أبی وقاص فی حرص الإمام علیه السلام علی الخلافة فقال:
«وَقَدْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّکَ عَلَی هذَا الْأَمْرِ یَابْنَ أَبِی طَالِبٍ لَحَرِیصٌ؛ فَقُلْتُ: بَلْ أَنْتُمْ وَاللّهِ لَأَحْرَصُ وَأَبْعَدُ، وَأَنَا أَخَصُّ وَأَقْرَبُ». فالواقع أنّ عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبی وقاص ومن شاکلهما ینظرون من خلال أُفقهم الضیق علی أنّ الخلافة طعمة لذیذة لهم أو من یرونه مؤهلاً لها، فهم لا یعلمون أو لا یریدون أن یعلموا أنّ الخلافة لیست بذات قیمة لدی ابن أبی طالب سوی إحقاق الحق والانتصاف للمظلوم وزهق ودحر الظالم. والإمام علیه السلام لا یرید الخلافة لنفسه بقدر ما یریدها لبسط العدل والقسط وسلامة المجتمع الإسلامی.
ص:338
ثم قال علیه السلام
«وَإِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِی وَأَنْتُمْ تَحُولُونَ بَیْنِی وَبَیْنَهُ، وَتَضْرِبُونَ وَجْهِی دُونَهُ». إلّاأنّ حرصهم حال دون إذعانهم لهذه الحقیقة. لذلک واصل کلامه قائلاً:
«فَلَمَّا قَرَّعْتُهُ(1) بِالْحُجَّةِ فِی الْمَلَاءِ الْحَاضِرِینَ هَبَّ(2) کَأَنَّهُ بُهِتَ لَایَدْرِی مَا یُجِیبُنِی بِهِ!» قضیة الشوری التی شکلها عمر حین وفاته کانت ضجة ضخمة أفصحت عن الأحقاد والضغائن التی یکنّها بعض الصحابة لأمیر المؤمنین علی علیه السلام وتشیر إلی حجم المؤامرة المبیتة بغیة زحزحته عن مقامه وحقّه الاجتماعی حتی طالبوه بالتخلی عن حقّه وإلّا إتّهم بالحرص علی الخلافة. جدیر بالذکر أنّ ابن أبی الحدید قال: یعتقد الشیعة أنّ الإمام علیه السلام قال هذا الکلام فی أبی عبیدة الجراح فی سقیفة بنی ساعدة التی شکلت لاختیار الخلیفة بعد النبی صلی الله علیه و آله(3). والحال لم نر أحداً من علماء الشیعة قال بذلک، والمسلم لدینا أنّ الإمام علیه السلام لم یکن حاضراً فی السقیفة. وقد فرغنا من شرح هذه الأحداث فی الجزء الأول من هذا الکتاب ذیل الخطبة الثالثة المعروفة بالشقشقیة.
ثم تضرع الإمام علیه السلام إلی اللّه یشکو ما ألم به من ظلم فیستلهمه العون قائلاً:
«اللَّهُمَّ إِنِّی أَسْتَعْدِیکَ(4) عَلَی قُرَیْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ! فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِی، وَصَغَّرُوا عَظِیمَ مَنْزِلَتِی، وَأَجْمَعُوا عَلَی مُنَازَعَتِی أَمْراً هُوَ لِی. ثُمَّ قَالُوا: أَلَا إِنَّ فِی الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ، وَفِی الْحَقِّ أَنْ تَتْرُکَهُ». فهذه العبارة تکشف بوضوح أن أمیر المؤمنین علیه السلام کان یری الخلافة حقّه الطبیعی، وذلک لأنّه کان أجدر بها من غیره إلی جانب نص النبی الأکرم صلی الله علیه و آله علی ولایته فی الغدیر والذی أکده مراراً وتکراراً، إلّاأنّ عشاق المناصب اسقطوا نص رسول اللّه صلی الله علیه و آله وحکم العقل، ومارسوا الأعمال التی من شأنها
ص:339
قطع صلة الرحم، والأمر الغریب أنّهم یعترفون بهذا الحق، لکنهم یزعمون أنّها من الحقوق التی ینبغی الإغماض عنها، فالظروف لیست مناسبة لاستحصاله.
والتعبیر بقطع صلة الرحم إمّا لاستدلالهم بأولیتهم فی أمر الخلافة لقربهم من رسول اللّه صلی الله علیه و آله وقد رد علیهم الإمام علیه السلام بأنّه أخصّ منهم وأقرب (کما مرّ علینا فی عبارة الخطبة) أو (أنا) إشارة إلی أنّهم لم یأخذوا الخلافة وهی حقّی فحسب، بل لا یکفون عن ارتکاب الجنایات التی تعدّ مصداقاً بارزاً لقطع الرحم.
إنّ البعض وإن سعی المرور مرّ الکرام علی القضایا المتعلقة بالخلافة، إلّاأنّ الأمر لا یبدو بهذه السهولة والبساطة. لا شک فی أنّ علیاً علیه السلام شکی مراراً من سلبه حقّه المسلّم فی الخلافة (طبعاً لیس المراد من الحق، المقام الذی یختزن الفائدة والربح والمنفعة) بل یمثل المسؤولیة الشرعیة وهدفها - علی ضوء ما ذکره الإمام علیه السلام - إقامة العدل وإحقاق الحق وإجراء الحدود. ولعل الکلام المذکور هو أحد النماذج البارزة علی شکواه حتی قال: إنّهم اجمعوا علی منازعتی لیصادروا حقّی، وسنورد المزید بهذا الشأن فی شرحنا للخطبة رقم 217.
الجدیر بالذکر أنّ ابن أبی الحدید نقل هذا الکلام وحاول تبریره وتوجیهه بما لا یمکن قبوله بأی شکل من الأشکال. فقد صرّح قائلاً: أعلم أنّه وردت أخبار متواتر عنه علیه السلام ومنها هذه الخطبة أنّه قال:
«مَا زِلْتُ مَظْلُوماً مُنْذُ قَبَضَ اللّهُ رَسُولَهُ حَتَّی یَوْمَ النَّاسِ هَذا»، وقال أیضاً:
«اَللّهُمَّ اخْزِ قُرَیْشاً فَاِنَّهَا مَنَعْتَنِی حَقِّی وَغَصَبْتَنِی امْری» وسمع شخصاً یقول:
«أنَا مَظْلُومٌ» فقال علیه السلام:
«هَلُمَّ فَلْنَصْرَخْ مَعاً فَإِنِّی ما زِلْتُ مَظْلُوماً» وقال فی الخطبة الشقشقیة:
«وَإِنَّهُ لَیَعْلَمُ أَنَّ مَحَلّی مِنْها مَحَلَّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحی» وأضاف فی الخطبة المذکورة:
«أری تُراثی نَهبا» ولما فرغ ابن أبی
ص:340
الحدید من ذلک هب للدفاع عن الخلافة لیقول: أنّ أصحابنا یوجهون ذلک بأنّ مراد الإمام علیه السلام أنّه کان أفضلهم وأولاهم - وهذه حقیقة - لا أنّ مراده أنّ النبی صلی الله علیه و آله نص علیه، لأنّ ذلک یدعونا إلی تکفیر وتفسیق کبار المهاجرین والأنصار (ننسبهم للکفر أو الفسق) وأضاف أنّ الزیدیة والإمامیة یحملون هذا الکلام علی ظاهره (ویرون الخلفاء غاصبین للخلافة). ثم قال: والذی نفسی بیده أنّ مفهوم هذه العبارات وإن کان أغلب الظن ما یقوله هؤلاء، إلّاأنّ هذا الظن باطل ولیس أمامنا سوی اعتبار هذا الکلام من قبیل الآیات القرآنیة المتشابهة التی تطرح بعض الأمور التی لا نقرّها للّه(1). والعجیب کیف یتأول ابن أبی الحدید وأمثاله هذه الکلمات الواضحة بهذا الشکل، والأسوأ من ذلک أنّه قاس هذا الکلام بآیات القرآن المتشابهة، فالآیة القرآنیة: «یَدُ اللّهِ فَوْقَ أَیْدِیهِمْ»(2) یفهم کل فرد عاقل أنّ المراد منها قدرة اللّه، وإلّا فاللّه لیس بجسم لتکون له ید کیدنا. نعم، قال الإمام صراحة فی العبارة السابقة أنّ هؤلاء غصبونی حقّی، ولیس لهذه العبارة أکثر من تفسیر وتأبی التوجیه، لیت شعری ما الضیر فی قولنا إنّ طائفة من المهاجرین والأنصار أخطأت بشأن الخلافة بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله؟ أفکانوا معصومین؟ الحق أنّ الأحکام المسبقة والتعصّب للمذهب یؤدّی بالإنسان أحیاناً إلی أنّ یعصب عینیه عن رؤیة القضایا الواضحة والتشبث بالتوجیه غیر المنطقی.
تمسک غاصبوا الخلافة - کما ورد فی الخطبة - بضرورة استیفاء بعض الحقوق والتنازل عن بعضها الآخر علی ضوء بعض المصالح. ویرون خلافة أمیر المؤمنین علیه السلام من النوع الثانی. نعم، العبارة المذکورة تنطوی علی مفهوم صحیح
ص:341
وآخر باطل. فالإنسان ینبغی له التنازل عن جانب من حقّه الشخصی أو جمیعه بغیة الحیلولة دون نشوب النزاعات ومواصلة الخصومة ومراعاة للمحبة والمودة، أمّا بالنسبة للحقوق المتعلقة بالمجتمع ومصیره، فلا یحق لأحد التنازل عنه أو المساومة علی حسابه. وأصحاب هذه الحقوق هم وکلاء الأُمّة. ولیس للوکیل مثل هذا التنازل، والخلافة من هذا النوع من الحقوق، إلّاأنّ غاصبی الخلافة حاولوا خلط الأوراق. بمنطقهم الأجوف بغیة تحقیق أهدافهم ومآربهم. والعبارة المذکورة تشیر ضمنیاً إلی أنّ أعداء الإمام علیه السلام کانوا یعترفون بحقّه، أو بعبارة أخری فإنّ حقّه کان علی درجة من الوضوح بحیث لم یسعهم إنکاره، فعمدوا إلی الذرائع والحجج الواهیة.
ص:342
فَخَرَجُوا یَجُرُّونَ حُرْمَةَ رَسُولِ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - کَمَا تُجَرُّ الْأَمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا، مُتَوَجِّهِینَ بِهَا إِلَی الْبَصْرَةِ، فَحَبَسَا نِسَاءَهُمَا فِی بُیُوتِهِمَا، وَأَبْرَزَا حَبِیسَ رَسُولِ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - لَهُمَا وَلِغَیْرِهِمَا، فِی جَیْشٍ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَقَدْ أَعْطَانِی الطَّاعَةَ، وَسَمَحَ لِی بِالْبَیْعَةِ، طَائِعاً غَیْرَ مُکْرَهٍ، فَقَدِمُوا عَلَی عَامِلِی بِهَا وَخُزَّانِ بَیْتِ مَالِ الْمُسْلِمِینَ وَغَیْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا، فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً، وَطَائِفَةً غَدْراً. فَوَاللّهِ لَوْ لَمْ یُصِیبُوا مِنَ الْمُسْلِمِینَ إِلَّا رَجُلاً وَاحِداً مُعْتَمِدِینَ لِقَتْلِهِ، بِلَا جُرْمٍ جَرَّهُ، لَحَلَّ لِی قَتْلُ ذلِکَ الْجَیْشِ کُلِّهِ، إِذْ حَضَرُوهُ فَلَمْ یُنْکِرُوا، وَلَمْ یَدْفَعُوا عَنْهُ بِلِسَانٍ وَلَا بِیَدٍ. دَعْ مَا أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِینَ مِثْلَ الْعِدَّةِ الَّتِی دَخَلُوا بِهَا عَلَیْهِمْ!
شرح الإمام علیه السلام هنا الخطأ الفادح الذی ارتکبه أصحاب الجمل لیعلم الجمیع بأنّ الإمام علیه السلام إن قاتلهم وقتل طائفة منهم فهی مستحقة لذلک، فلا ینبغی التذرع بالأعذار ومواجهة هذا المنطق المتین، حیث أشار علیه السلام إلی ثلاث من جرائمهم الکبری، فقال فی الأُولی:
«فَخَرَجُوا یَجُرُّونَ حُرْمَةَ رَسُولِ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - کَمَا تُجَرُّ الْأَمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا، مُتَوَجِّهِینَ بِهَا إِلَی الْبَصْرَةِ». ثم قال:
«فَحَبَسَا نِسَاءَهُمَا فِی بُیُوتِهِمَا، وَأَبْرَزَا حَبِیسَ(1) رَسُولِ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - لَهُمَا وَلِغَیْرِهِمَا».
ص:343
کلّنا نعلم أنّ القرآن الکریم أوصی أزواج النبی صلی الله علیه و آله بأن یقرن فی بیوتهن وأن لا یتبرجن تبرج الجاهلیة فیتصفحن هذا وذاک: «وَقَرْنَ فِی بُیُوتِکُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِیَّةِ الْأُولَی»(1) وکأنّ بعض الأحداث کموقعة الجمل کانت منظورة من قبل، إلّا أنّ هؤلاء المتحللین أبقوا علی نسائهم فی بیوتهن وأخرجوا زوج النبی صلی الله علیه و آله خلاف نص القرآن لیجعلوها وسیلة لتحقیق مآربهم.
ثم قال علیه السلام فی جنایتهم الثانیة:
«فِی جَیْشٍ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَقَدْ أَعْطَانِی الطَّاعَةَ، وَسَمَحَ لِی بِالْبَیْعَةِ، طَائِعاً غَیْرَ مُکْرَهٍ». ولا یقتصر الالتزام بالبیعة علی الإسلام، بل کان یلتزم بها حتی قبل الإسلام، بینما نقض أصحاب الجمل هذه السنّة ونکثوا عهدهم علانیة واستعدوا لمواجهة الإمام علیه السلام. وأشار إلی جریرتهم الأخری فقال عند ما دخلوا البصرة:
«فَقَدِمُوا عَلَی عَامِلِی بِهَا وَخُزَّانِ بَیْتِ مَالِ الْمُسْلِمِینَ وَغَیْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا، فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً(2) ، وَطَائِفَةً غَدْراً». ذکر ابن أبی الحدید فی شرح لجنایات أهل الجمل أنّ طلحة والزبیر وأعوانهما تدرعوا وقدموا المسجد عند صلاة الصبح وکان فیه عامل علی علیه السلام عثمان بن حنیف. فتقدم للصلاة فدفعه أصحاب طلحة والزبیر وقدموا الزبیر. فتقدم
(السبابجة )(حماة بیت المال)(3) ودفعوا الزبیر خارج المسجد، فهجم علیهم أنصار الزبیر وقدموه واستمر النزاع حتی طلوع الشمس.
فصاح الناس: اتقوا اللّه یا أصحاب محمد صلی الله علیه و آله فالشمس تکاد تطلع، فغلبهم الزبیر وصلی بالناس. ثم أمر بالقبض علی ابن حنیف فضربوه حتی کاد یموت، کما قبضوا علی السبابجة وهم سبعون، حملوا عثمان بن حنیف إلی عائشة، فأمرت بقتله. فقال عثمان: إن قتلتمونی سیقتص منکم أخی (والی المدینة) فخافوا وترکوه. وأمرت
ص:344
الزبیر بقتل السبابجة فذبحهم ابنه عبداللّه کما تذبح الشاة. قال بعض المؤرخین کأبی مخنف کان السبابجة أربعمائة وقد نقض طلحة والزبیر عهدهم مع عثمان بن حنیف - بعدم التعرض لأحد - فکان السبابجة أول طائفة قتلت صبراً فی الإسلام(1). وهذا ما أشار إلیه الإمام علیه السلام بقوله:
«فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً، وَطَائِفَةً غَدْراً».
وأخیراً خلص الإمام علیه السلام إلی هذه النتیجة فقال:
«فَوَاللّهِ لَوْ لَمْ یُصِیبُوا مِنَ الْمُسْلِمِینَ إِلَّا رَجُلاً وَاحِداً مُعْتَمِدِینَ لِقَتْلِهِ، بِلَا جُرْمٍ جَرَّهُ، لَحَلَّ لِی قَتْلُ ذلِکَ الْجَیْشِ کُلِّهِ، إِذْ حَضَرُوهُ فَلَمْ یُنْکِرُوا، وَلَمْ یَدْفَعُوا عَنْهُ بِلِسَانٍ وَلَا بِیَدٍ. دَعْ مَا أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِینَ مِثْلَ الْعِدَّةِ الَّتِی دَخَلُوا بِهَا عَلَیْهِمْ!».
أثار هنا بعض شرّاح نهج البلاغة أسئلة وأجابوا عنها، نوردها بما یناسب البحث:
سؤال: کیف تفسر فقهیاً عبارة الإمام علیه السلام فی حلیة قتل الجیش کله وإن أصابوا واحداً فضلاً عن قتلهم لذلک العدد الکثیر؟
الجواب: أجاب البعض بأنّهم أباحوا قتل المسلمین وهذا نوع من انکار ضروریات الدین وعلیه فهم مرتدون. وقیل: إنّ قتلهم من باب النهی عن المنکر، ولو توقف النهی عن المنکر بذلک لکان جائزاً. الجواب الثالث: والأنسب، أنّهم کانوا مصداقاً للمفسدین فی الأرض، فقد جهزوا الجیوش ونکثوا البیعة وعاثوا فساداً فی بعض مناطق البلد الإسلامی، فهم مشمولون بالآیة الشریفة «إِنَّمَا جَزَاءُواْ الَّذِینَ یُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَیَسْعَوْنَ فِی الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ یُقَتَّلُوا...»(2) وعبارة الإمام علیه السلام أنّهم حضروا ولم ینکروا ولم یدفعوا بلسان ولا بیدهم فی الواقع مقدمة لاثبات کونهم من
ص:345
المحاربین والمفسدین.
الجواب الرابع: الذی یتبناه مذهب أتباع أهل البیت علیهم السلام فی أنّ الخارج عن الإمام المعصوم کافر، کما ذکر ذلک الخواجة الطوسی فی تجرید العقائد(1) فقال:
«ومُحارِبُو عَلیٍّ کَفَرَة» ذلک لأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال لعلی علیه السلام:
«حَرْبُکَ حَرْبِی». وقد فصلنا فجائع طلحة والزبیر وعائشة فی موقعة الجمل فی الجزء الأول من هذا الکتاب ذیل الخطبة الثالثة عشرة، والجزء الثانی فی تفسیر الخطبة 22 و 31، والجزء الخامس فی شرح الخطبة 137.
لو استحق أولئک، القتل لمجرّد قتلهم جماعة من المسلمین وقبل المعرکة، لماذا لم یقتص الإمام علیه السلام من أتباع طلحة والزبیر بعد أن انتصر علیهم فی المعرکة؟ بل حتی عائشة کانت تستحق القتل لخروجها علی أمام المسلمین والفساد فی الأرض، لکن الإمام علیه السلام أعادها بکل احترام إلی المدینة؟ والجواب علی هذا السؤال واضح، فالأوضاع کانت مضطربة والظروف معقدة بحیث لو قام الإمام علیه السلام بمثل هذا العمل لتمکن أعداء الإمام علیه السلام من تألیب عامة المسلمین علیه وتعبئتهم ضده. ومن هنا قال عمرو بن العاص لعائشة: لیتک قتلت فی الجمل. قالت: لم لا أم لک؟ فقال عمرو:
لدخلت الجنّة وحرضنا الناس علی علی بقتلک(2). علی کل حال، فإنّه لمن دواعی الفخر لعلی علیه السلام أنّه غضّ النظر عنهم وأراح المجتمع الإسلامی من شرّهم.
ص:346
فِی رَسُولِ اللّهِ صلی الله علیه و آله وَمَنْ هُوَ جَدِیرٌ بِأَنْ یَکُونَ لِلْخِلَافَةِ،
وَفِی هَوانِ الدُّنْیا(1)
تبدأ هذه الخطبة ببیان صفات النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بصورة مختصرة، کما یتعرّض الإمام علیه السلام فی القسم الثانی إلی خصائص الجدیر بخلافة رسول اللّه صلی الله علیه و آله فیؤدی حق الموضوع بعبارات قصیرة. ویتحدث فی القسم الثالث عن تقوی اللّه ویوصی صحبه بعدم العجلة فی الأعمال والتروی عند الإقدام. وأخیراً یذم الدنیا والتعلق بها والخداع بزخارفها.
ص:347
ص:348
أَمِینُ وَحْیِهِ، وَخَاتَمُ رُسُلِهِ، وَبَشِیرُ رَحْمَتِهِ وَنَذِیرُ نِقْمَتِهِ.
أَیُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِهذَا الْأَمْرِ أَقْوَاهُمْ عَلَیْهِ، وَأَعْلَمُهُمْ بِاَمْرِ اللّهِ فِیهِ.
فِإِنْ شَغَبَ شَاغِبٌ اسْتُعْتِبَ، فَإِنْ أَبَی قُوتِلَ. وَلَعَمْرِی، لَئِنْ کَانَتِ الْإِمَامَةُ لَا تَنْعَقِدُ حَتَّی یَحْضُرَهَا عَامَّةُ النَّاسِ، فَمَا إِلَی ذلِکَ سَبِیلٌ، وَلکِنْ أَهْلُهَا یَحْکُمُونَ عَلَی مَنْ غَابَ عَنْهَا، ثُمَّ لَیْسَ لِلشَّاهِدِ أَنْ یَرْجِعَ، وَلَا لِلْغَائِبِ أَنْ یَخْتَارَ. أَلَا وَإِنِّی أُقَاتِلُ رَجُلَیْنِ: رَجُلاً ادَّعَی مَا لَیْسَ لَهُ، وَآخَرَ مَنَعَ الَّذِی عَلَیْهِ.
کما ورد سابقاً فإنّ الإمام علیه السلام قد إستهل الخطبة ببیان جانب من خصائص رسول اللّه صلی الله علیه و آله حیث أشار إلی أربع منها، فقال:
«أَمِینُ وَحْیِهِ، وَخَاتَمُ رُسُلِهِ، وَبَشِیرُ رَحْمَتِهِ وَنَذِیرُ نِقْمَتِهِ» والواقع، إنّ أنشطة النبی صلی الله علیه و آله کافة یمکن إیجازها فی هذه الصفات الأربع؛ ذلک لأن الفعالیة الأولی للنبی، تلقّی الوحی وإیصاله وإبلاغه إلی الناس بکل أمانة والتخطیط لنشر مبادیء الدین إلی نهایة الدنیا ومن ثم التمهید لطاعة اللّه عن طریق البشارة بالرحمة والإنذار بالعذاب والجزاء. وقد أکّدت هذه الصفات الأربع من خلال الآیات القرآنیة حیث أشارت إلی بعضها من قبیل البشارة والإنذار.
ثم تطرق علیه السلام إلی شرائط خلیفة الأُمّة وإمامها لیوجزها فی أمرین:
«أَیُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِهذَا الْأَمْرِ أَقْوَاهُمْ عَلَیْهِ، وَأَعْلَمُهُمْ بِاَمْرِ اللّهِ فِیهِ».
فقد أشار الإمام علیه السلام فی الواقع إلی رکنین أساسیین، لأحدهما بُعد عملی، والآخر
ص:349
علمی، فعلی المستوی العلمی ینبغی أن یکون أعلم الجمیع، وفی الجانب العملی أقواهم فی أمور الإدارة، فکثیرون هم الأفراد العلماء، لکنهم یفتقرون إلی حسن الإدارة، أو أنّهم یتمتعون بحسن الإدارة إلّاأنّهم یفتقرون إلی العلم، ولا یمکن النهوض بزعامة الأُمّة دون توفر هذین الشرطین معاً. وقد أشار القرآن الکریم إلی هذا الموضوع فی قصة بنی إسرائیل أثر اختیار (طالوت) کزعیم وقائد فاعترض البعض علی أنّهم أولی بالزعامة منه علی أساس الثروة، فرد القرآن علیهم بأنّ طالوت أولی بها لعلمه وقدرته: «إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَیْکُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِی الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ»(1) ومن الواضح أنّ الإمام علیه السلام أراد أن یکشف عن أولویته من الجمیع بالتصدی لأمر الخلافة، ذلک لأنّ الجمیع یعلم بأنّه الأعلم فی أصول الدین وفروعه وهو الأقوی والأقدر علی الإدارة ومواجهة العدو.
لماذا لم یستدل الإمام علیه السلام بنص النبی الأکرم صلی الله علیه و آله علی خلافته؟ ألیس هذا دلیلاً علی أنّ الخلافة لم تکن علی أساس النص، بل علی ضوء انتخاب الناس لأکفأ الأفراد؟
قطعاً، لو استدل الإمام علیه السلام بالنص، لهب أغلبهم لإنکاره، وعلیه فمن الأفضل الاستناد إلی مسلماتهم وإلزامهم بمنطقهم (الأمر الذی یصطلح علیه فی المنطق بالجدل) والذی قال بشأنه القرآن: «وَجادِلهُم بِالَّتِی هِی أَحْسَنُ»(2). جدیر بالذکر أنّ ابن أبی الحدید حین یبلغ هذا الموضع من شرحه لنهج البلاغة، وخلافاً لأولئک الذین لا یصغون لصوت الضمیر یُقرّ بأنّ علیاً علیه السلام أعلم القوم، لکنه یری أنّ هذا لیس بدلیل علی نفی خلافة الآخرین، ذلک لأنّه یمکن أحیاناً تقدیم المفضول علی الأفضل(3). طبعاً، هذا منطق الأفراد الذین لا یفقهون قوانین العقل ولا یرون قبح
ص:350
ترجیح المرجوح علی الراجح، والحال، قبح هذا الأمر واضح للجمیع، إلّاأنّ التعصب الأعمی یحول عادةً دون رؤیة الواقع.
ثم قال علیه السلام: فإن تصدی مثل هذا الفرد، للأمر:
«فِإِنْ شَغَبَ(1) شَاغِبٌ اسْتُعْتِبَ(2) ، فَإِنْ أَبَی قُوتِلَ». وقال القرآن بهذا الخصوص «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَی الْأُخْرَی فَقَاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی حَتَّی تَفِیءَ إِلَی أَمْرِ اللّهِ...»(3).
ثم خاض الإمام علیه السلام فی الردّ علی بعض المتخرصین، حیث انبری البعض کمعاویة وعمرو بن العاص وطلحة والزبیر وأمثالهم وصرّحوا بأنّ الخلافة والإمامة لمن تنتخبه عامة الأُمّة. وعلیه، لا تکفی بیعة المدینة وأطرافها لعلی علیه السلام.
فقال علیه السلام:
«وَلَعَمْرِی، لَئِنْ کَانَتِ الْإِمَامَةُ لَاتَنْعَقِدُ حَتَّی یَحْضُرَهَا عَامَّةُ النَّاسِ، فَمَا إِلَی ذلِکَ سَبِیلٌ، وَلکِنْ أَهْلُهَا یَحْکُمُونَ عَلَی مَنْ غَابَ عَنْهَا». ثم واصل کلامه قائلاً:
«ثُمَّ لَیْسَ لِلشَّاهِدِ أَنْ یَرْجِعَ، وَلَا لِلْغَائِبِ أَنْ یَخْتَارَ». وأخیراً حذّرهم جمیعاً بالقول:
«أَلَا وَإِنِّی أُقَاتِلُ رَجُلَیْنِ: رَجُلاً ادَّعَی مَا لَیْسَ لَهُ، وَآخَرَ مَنَعَ الَّذِی عَلَیْهِ». یبدو أنّ العبارة الأُولی تشیر إلی معاویة الذی تخلف عن البیعة بذریعة المطالبة بدم عثمان، والحال، أن تتمّ المطالبة بدم عثمان من قبل أولیاء الدم أو إمام المسلمین، ومن بایعه الناس أی، علی بن أبی طالب علیه السلام. والثانیة إشارة إلی طلحة والزبیر وأمثالهما الذین بایعوا ثم نکثوا البیعة بما فیهم معاویة والآخرون. وأمّا ما قیل: إنّ المراد، ادّعاء الخلافة من قبل معاویة والذی لیس له حقّ، فلا ینسجم مع التواریخ، لأنّ معاویة لم یدع الخلافة علی عهد أمیرالمؤمنین علی علیه السلام، بل رکّز علی المطالبة بدم عثمان.
ص:351
لم یستدل الإمام علیه السلام فی حدیثه المذکور فی إثبات خلافته وإمامته علی نص النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بهذا الخصوص، ولم یتطرق إلی حدیث الغدیر وما شابهه، بل أکّد علی بیعة الأُمّة، وهذا فی الواقع إمضاء لخلافة من سبقه. لذلک قال ابن أبی الحدید، هنا، صراحةً: إنّ هذا الکلام من الإمام علیه السلام دلیل علی صحة مذهبنا، ولا یؤید مذهب الإمامیة، فکیف تُحلّ هذه الشبهة؟
لابدّ من الإلتفات إلی أمور:
الأول: أنّ الإمام علیه السلام استدل بمسلمات الخصم لإثبات حقّه، لأنّهم یرون کفایة قبول أهل الحل والعقد (علماء الأُمّة) لثبوت الخلافة والإمامة. وعلیه فقد أجابهم بمنطقهم (منطق الجدال بالتی هی أحسن)، ولو استدل بالنص لأنکروه.
الثانی: أنّ خلافة من سبقه لم تستند إلی قبول الناس، أمّا أبو بکر فقد انتخب من قبل أهل السقیفة حیث کانوا عدّة قلیلة من الناس، وأمّا عمر فقد انتخب بنص من أبی بکر، بینما لم تتمّ خلافة عثمان إلّامن قبل ثلاثة أو أربعة أفراد من الشوری.
الثالث: أضف إلی ذلک، فإنّ الوقوف علی رأی الإمام علیه السلام بشأن الخلافة لا یمکن من خلال خطبة أو خطبتین، بل لابدّ من دراسة شاملة لجمیع کلماته بهذا الخصوص، لنری کثرة ترکیزه فی نهج البلاغة علی النص فی الخلافة.
ص:352
أُوصِیکُمْ عِبَادَ اللّهِ بِتَقْوَی اللّهِ فَإِنَّهَا خَیْرُ مَا تَوَاصَی الْعِبَادُ بِهِ، وَخَیْرُ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ عِنْدَاللّهِ. وَقَدْ فُتِحَ بَابُ الْحَرْبِ بَیْنَکُمْ وَبَیْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَلَا یَحْمِلُ هذَا الْعَلَمَ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَرِ وَالصَّبْرِ وَالْعِلْمِ بِمَوَاضِعِ الْحَقِّ، فَامْضُوا لِمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ، وَقِفُوا عِنْدَ مَا تَنْهَوْنَ عَنْهُ؛ وَلَا تَعْجَلُوا فِی أَمْرٍ حَتَّی تَتَبَیَّنُوا، فَإِنَّ لَنَا مَعَ کُلِّ أَمْرٍ تُنْکِرُونَهُ غِیَراً.
أعدّ الإمام علیه السلام صحبه هنا لمواجهة الظلمة والطواغیت حیث أوصاهم بادیء الأمر بالتقوی فقال:
«أُوصِیکُمْ عِبَادَ اللّهِ بِتَقْوَی اللّهِ فَإِنَّهَا خَیْرُ مَا تَوَاصَی الْعِبَادُ بِهِ، وَخَیْرُ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ عِنْدَاللّهِ». القرآن الکریم من جانبه أکّد هذا المعنی حیث إنّ الأفراد الذین لا یصیبهم الخسران هم فقط الذین یتواصون بالحق والصبر: «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِی خُسْرٍ إِلَّا الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ». وقال: «وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَی»(1) وقال أیضاً: «وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ»(2).
ثم واصل علیه السلام کلامه قائلاً:
«وَقَدْ فُتِحَ بَابُ الْحَرْبِ بَیْنَکُمْ وَبَیْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَلَا یَحْمِلُ هذَا الْعَلَمَ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَرِ وَالصَّبْرِ وَالْعِلْمِ بِمَوَاضِعِ الْحَقِّ». ثم قال:
«فَامْضُوا لِمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ، وَقِفُوا عِنْدَ مَا تَنْهَوْنَ عَنْهُ؛ وَلَا تَعْجَلُوا فِی أَمْرٍ حَتَّی تَتَبَیَّنُوا، فَإِنَّ لَنَا
ص:353
مَعَ کُلِّ أَمْرٍ تُنْکِرُونَهُ غِیَراً(1)».
تشیر العبارة
«وَلَا یَحْمِلُ هذَا الْعَلَمَ» إلی أننا نضطر لأول مرّة فی الإسلام لأن نقاتل أفراداً یدّعون الإسلام، وأنّهم من أهل القبلة لبغیهم وطغیانهم، ویبدو هذا الأمر مستصعباً بالنسبة للأفراد السطحیین وضیقی الافق، وعلیه، فلا یستحق حمل هذا العلم سوی من تحلّی بالبصر والعلم والصبر.
والعبارة
«فَامْضُوا لِمَا تُؤْمَرُونَ...» إشارة إلی أنّ هذا الطریق مسؤولیة کبیرة، فینبغی المضی فیه بدقّة ورعایة النظم والانضباط. أمّا العبارة الأخیرة
«فَإِنَّ لَنَا مَعَ کُلِّ أَمْرٍ تُنْکِرُونَهُ غِیَراً» فتشیر إلی أنّ الأوامر التی تصدر أحیاناً من القیادة - الإمام علیه السلام - فی القضایا الحربیة وجزئیات الأعمال، بما لا ینسجم ورغبات أکثریة الناس، مثلاً، یرد الأمر بالهجوم علی العدو فی البصرة من شمالها، إلّاأنّ الأکثریة تری صعوبة ذلک وتود لو أنّها هجمت من جنوبها. فالإمام علیه السلام یوصی هنا بالتریث وعدم الاستعجال طالما لا تتضارب هذه الأوامر مع الشرع والمصلحة، فربّما نمارس بعض التغییرات ونحقق رغباتکم، کذلک إن شکی بعض الناس من بعض الولاة فلیس لدیّ من إصرار، کعثمان، علی بقائهم وما دام رأی الناس موافقاً للشریعة والمصلحة فهو مقبول لدیّ. ولعل إحدی خصائص الآمر والمدیر الناجح تتمثل فی احترامه لأفکار الآخرین والإنفتاح علیها ما لم تتعارض مع الأصول. أمّا ما ذکره بعض شرّاح نهج البلاغة من تفسیر لهذه العبارة فلا یبدو مناسباً؛ ففسّروا
(غیرا) مثلاً، بالمصالح، ولکن هذه المفردة؛ والاحتمالات الأخری التی وردت فی کلمات بعض الشرّاح لیست منسجمة مع ظاهر کلمات الإمام علیه السلام ومن هنا لا نری ضرورة الخوض فیها.
ص:354
لا شک فی أنّ أهل القبلة والمسلمین إن مارسوا بعض الأعمال التی تهدد کیان الإسلام أو قاموا ضد الحکومة الإسلامیة، فلابدّ من إرشادهم وإعادتهم إلی جادة الصواب من خلال الطرق السلمیة؛ لکن إن واصلوا غیهم وتمادوا فی أعمالهم، فلیس هنالک من سبیل سوی اللجوءالقوّة، ولا یبدوهذا العمل مستساغاً من قبل الأفراد السطحیین وضیقی الأُفق، لذلک قال الإمام علیه السلام:
«وَلَا یَحْمِلُ هذَا الْعَلَمَ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَرِ وَالصَّبْرِ وَالْعِلْمِ بِمَوَاضِعِ الْحَقِّ». ورد فی أحداث موقعة صفین: روی عن نصر بن مزاحم، قال: «حدثنی یحیی بن یعلی، قال: حدثنی صباح المزنی، عن الحارث حصن، عن رجاء بن یاسر، عن أسماء بن حکیم الفزاری، قال: کنّا بصفّین مع علیّ، تحت رایة عمار بن یاسر، ارتفاع الضحی، وقد استظللنا برداء أحمر، إذ أقبل رجل یستقری الصف حتی انتهی إلینا فقال: أیّکم عمار بن یاسر، فقال عمار:
أنا عمار، قال: أبوالیقظان؟ قال: نعم، قال: إنّ لی إلیک حاجة أفأنطق بها سرّاً أو علانیة؟ قال: اختر لنفسک، أیّهما شئت، قال: لا بل علانیة، قال: فانطق، قال: إنّی خرجت من أهلی مستبصراً فی الحقّ الذی نحن علیه، لا أشک فی ضلالة هؤلاء القوم، وأنّهم علی الباطل، فلم أزل علی ذلک مستبصراً، حتی لیلتی هذه، فإنّی رأیت فی منامی منادیاً تقدّم، فأذّن وشهد أن لا إله إلّااللّه وأنّ محمداً رسول اللّه صلی اللّه علیه وسلم، ونادی بالصلاة ونادی منادیهم مثل ذلک، ثم أقِیمت الصلاة، فصلّینا صلاة واحدة، وتلونا کتاباً واحداً، ودعونا دعوةً واحدة، فأدرکنی الشک فی لیلتی هذه، فبتّ بلیلة لا یعلمها إلّااللّه تعالی، حتی أصبحت، فأتیت أمیر المؤمنین، فذکرت ذلک له فقال: هل لقِیت عمار بن یاسر! قلت: لا، قال علیه السلام فالقه، فانظر ماذا یقول لک عمار، فاتبعه، فجئتک لذلک، فقال عمار: تعرف صاحب الرایة السوداء المقابلة لی! فإنّها رایة عمرو بن العاص، قاتلتُها مع رسول اللّه صلی اللّه علیه وسلم
ص:355
ثلاث مرات، وهذه الرابعة فما هی بخیرهنّ، ولا أبرِّهن، بل هی شرّهن وأفجرهُنّ.
أشهد بدراً وأحداً یوم حُنین، أو شهدها أب لک فیخبرک عنها؟ قال: لا، قال: فإنّ مراکِزنا الیوم علی مراکز رایات رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله وسلم یوم بدر، ویوم أحد ویوم حنین، وإنّ مراکز رایات هؤلاء علی مراکز رایات المشرکین من الأحزاب، فهل تری هذا العسکر ومَن فیه! واللّه لوددت أن جمیع مَن فیه ممن أقبل مع معاویة ویرید قتالنا، مفارقاً للذی نحن علیه، کانوا خَلقاً واحداً، فقطّعته وذبحته، واللّه لدماؤهم جمیعاً أحلُّ من دم عصفور، أفتری دم عصفور حراماً؟ قال: لا بل حلال، قال: فإنّهم حلال کذلک، أترانی بینت لک، قال: قد بینت لی، قال علیهما السلام فاختر أیّ ذلک أحببت»(1). فهذه الواقعة وأمثالها تفید أنّ ارتداء ثوب الإسلام من قبل تلک الفرق المنحرفة إنّما کان یخدع البعض من السذج، وهذا ما دفع الإمام علیه السلام لتحذیرهم من الفتنة.
ص:356
أَلَا وَإِنَّ هذِهِ الدُّنْیَا الَّتِی أَصْبَحْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهَا وَتَرْغَبُونَ فِیهَا، وَأَصْبَحَتْ تُغْضِبُکُمْ وَتُرْضِیکُمْ، لَیْسَتْ بِدَارِکُمْ، وَلَا مَنْزِلِکُمُ الَّذِی خُلِقْتُمْ لَهُ وَلَا الَّذِی دُعِیتُمْ إِلَیْهِ. أَلَا وَإِنَّهَا لَیْسَتْ بِبَاقِیَةٍ لَکُمْ وَلَا تَبْقُونَ عَلَیْهَا؛ وَهِیَ وَإِنْ غَرَّتْکُمْ مِنْهَا فَقَدْ حَذَّرَتْکُمْ شَرَّهَا. فَدَعُوا غُرُورَهَا لِتَحْذِیرِهَا، وَأَطْمَاعَهَا لِتَخْوِیفِهَا؛ وَسَابِقُوا فِیهَا إِلَی الدَّارِ الَّتِی دُعِیتُمْ إِلَیْهَا، وَانْصَرِفُوا بِقُلُوبِکُمْ عَنْهَا؛ وَلَا یَخِنَّنَّ أَحَدُکُمْ خَنِینَ الْأَمَةِ عَلَی مَا زُوِیَ عَنْهُ مِنْهَا، وَاسْتَتِمُّوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَیْکُمْ بِالصَّبْرِ عَلَی طاعَةِ اللّهِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَی مَا اسْتَحْفَظَکُمْ مِنْ کِتَابِهِ. أَلَا وَإِنَّهُ لَا یَضُرُّکُمْ تَضْیِیعُ شَیْءٍ مِنْ دُنْیَاکُمْ بَعْدَ حِفْظِکُمْ قَائِمَةَ دِینِکُمْ. أَلَا وَإِنَّهُ لَا یَنْفَعُکُمْ بَعْدَ تَضْیِیعِ دِینِکُمْ شَیْءٌ حَافَظْتُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَمْرِ دُنْیَاکُمْ. أَخَذَ اللّهُ بِقُلُوبِنَا وَقُلُوبِکُمْ إِلَی الْحَقِّ، وَأَلْهَمَنَا وَإِیَّاکُمُ الصَّبْرَ!
أشار الإمام علیه السلام فی هذا الموضوع من الخطبة إلی تقلّب الدنیا وعدم ثباتها وحذّر الجمیع من زخرفها وزبرجها، ذلک لأنّ الإنحراف الذی طال أصحاب الجمل إنّما یُعزی إلی تهافتهم علی الدنیا وحطامها، فلا ینبغی لهم السیر علی خطاهم، وعلیهم أن یسلکوا سبیل الحق وإن انتهی بهم إلی الشهادة، فقال:
«أَلَا وَإِنَّ هذِهِ الدُّنْیَا الَّتِی أَصْبَحْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهَا وَتَرْغَبُونَ فِیهَا، وَأَصْبَحَتْ تُغْضِبُکُمْ وَتُرْضِیکُمْ، لَیْسَتْ بِدَارِکُمْ، وَلَا مَنْزِلِکُمُ الَّذِی خُلِقْتُمْ لَهُ وَلَا الَّذِی دُعِیتُمْ إِلَیْهِ».
ص:357
فالعبارة، إشارة لما تأکد مراراً فی نهج البلاغة والقرآن أنّ الدنیا لیست خالدة وأنّها لیست بدار إقامتنا، بل هی ممرّ مؤقت نجتازه فی سفرنا إلی الآخرة حیث مقرّنا ومقامنا بعد التزود من هذه الدنیا لتلک الحیاة الحقیقیة التی قال عنها القرآن:
«لَهِیَ الْحَیَوَانُ لَوْ کَانُوا یَعْلَمُونَ»(1).
ثم أکّد الإمام علیه السلام أکثر فقال:
«أَلَا وَإِنَّهَا لَیْسَتْ بِبَاقِیَةٍ لَکُمْ وَلَا تَبْقُونَ عَلَیْهَا».
کما ردّ علی أولئک الذین یصفون الدنیا دائماً بالخداع والغرور، فقال:
«وَهِیَ وَإِنْ غَرَّتْکُمْ مِنْهَا فَقَدْ حَذَّرَتْکُمْ شَرَّهَا. فَدَعُوا غُرُورَهَا لِتَحْذِیرِهَا، وَأَطْمَاعَهَا لِتَخْوِیفِهَا».
صحیح أنّ أغلب مظاهر الدنیا تثیر الغرور والغفلة، لکنها ترینا إلی جانب ذلک بعض المشاهد التی توقظ کل غافل من نوم غفلته. فاللحظة التی ینال فیها أحدهم السلطة ویستولی علی العرش، هی ذاتها التی یسقط فیها أخیراً، وفی الوقت الذی یرث فیه شخص الآلاف المؤلفة من الثروة، هو نفس الوقت الذی یحمل فیه جثمان صاحب تلک الثروة لیوسّد التراب، وحین یولد طفل وتطالعنا مظاهر الفرح والسرور علی سیماء وجوه أُسرته، ترتفع إلی جانبه أصوات أُسرة بالعویل لفقدهم أحد أعزتهم، فلم نرکز علی الصورة الأُولی ونتناسی الصورة الثانیة؟! حاول الإمام علیه السلام بهذه العبارات العمیقة المعنی أن یلفت الانتباه إلی هذه الحقیقة وقد أکّدها فی سائر خطب نهج البلاغة وقصار الکلمات.
ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه قائلاً:
«وَسَابِقُوا فِیهَا إِلَی الدَّارِ الَّتِی دُعِیتُمْ إِلَیْهَا، وَانْصَرِفُوا بِقُلُوبِکُمْ عَنْهَا»، کما قال:
«وَلَا یَخِنَّنَّ أَحَدُکُمْ خَنِینَ الْأَمَةِ عَلَی مَا زُوِیَ(2) عَنْهُ مِنْهَا، وَاسْتَتِمُّوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَیْکُمْ بِالصَّبْرِ عَلَی طاعَةِ اللّهِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَی مَا اسْتَحْفَظَکُمْ مِنْ کِتَابِهِ».
ص:358
فقد شبه الإمام علیه السلام الأفراد الضعاف الذین لا یکادون یفقدون نعمة من نعم الدنیا حتی یعیشوا حالة من العزاء وکأنّهم فقدوا عزیزاً من أعزتهم بتلک الأُمّة التی یرتفع صوتها بالبکاء لأدنی مُلمّة، وربّما دوی صوت البکاء أثر شدّة الجزع. نعم، هذا فعل العبید الضعاف؛ ضعاف الدنیا وأسری مظاهرها، والحال، لو فکروا بصورة صحیحة لأدرکوا أنّ ما فقدوه مهما کان مهمّاً فلا قیمة له، لأنّهم یفقدونه عاجلاً أم آجلاً، وإن لم یفقدوه الیوم فسیفقدونه ویفقد کل شیء عندما یموت غداً.
أضف إلی ذلک فإنّ أغلب النعم التی تزول إنّما تعود فیما بعد بفضل اللّه ولطفه، وعلیه فلا داعی للتأوه والشعور بالألم والحسرة. ویستفاد من العبارة الأخیرة أنّ أحد عوامل بقاء نِعم اللّه ودیمومتها طاعة اللّه واتباع أوامره والإلتزام بالقرآن والعمل بأحکامه.
وأشار الإمام علیه السلام فی ختام الخطبة إلی نقطة مهمّة أخری، تتمثل فی ضرورة حفظ الدین حین یکون هنالک مفترق طرق وتضاد بین حفظ الدنیا بزینتها وزخرفها وحفظ الدین، فلیس هنالک من ضرر یطیل الإنسان إن ذهبت دنیاه، بینما لا ینفعه شیء إن ذهب دینه:
«أَلَا وَإِنَّهُ لَایَضُرُّکُمْ تَضْیِیعُ شَیْءٍ مِنْ دُنْیَاکُمْ بَعْدَ حِفْظِکُمْ قَائِمَةَ دِینِکُمْ. أَلَا وَإِنَّهُ لَایَنْفَعُکُمْ بَعْدَ تَضْیِیعِ دِینِکُمْ شَیْءٌ حَافَظْتُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَمْرِ دُنْیَاکُمْ».
إشارة إلی أنّ الغنی الحقیقی، فی حفظ الدین والإیمان الذی یشکل مفتاح حیاة الإنسان الأبدیة، لا النعم المادیة العابرة، فهی عناصر ثانویة تغادر سریعاً کالفقاعات التی تطفو علی سطح الماء. نقل المرحوم الکلینی أنّ أحد أصحاب الإمام علیه السلام کان یقدم کل عام إلی الحج ویری الإمام علیه السلام، لکنه غاب مدّة. فسأل الإمام علیه السلام أحد أصحابه المعروفین عن ذلک الشخص، فلم یشأ أن یخبر الإمام علیه السلام بوضعه المالی الصعب. فقال علیه السلام وکیف دینه وإیمانه؟ قال: هو واللّه کما تحبّ. فقال علیه السلام: هو واللّه الغنی(1).
ص:359
وأخیراً اختتم علیه السلام الخطبة بهذا الدعاء:
«أَخَذَ اللّهُ بِقُلُوبِنَا وَقُلُوبِکُمْ إِلَی الْحَقِّ، وَأَلْهَمَنَا وَإِیَّاکُمُ الصَّبْرَ!» لقد قلنا مراراً إنّ الإمکانات المادیة إن استعملت کوسیلة لتحقیق الأهداف المعنویة فهی لیست مذمومة، بل هی من أفضل الوسائل لتطور الإنسان، ولما کان عصر الإمام علیه السلام والأئمّة من بعده قد شهد إقبال المسلمین علی الدنیا أثر الفتوحات وما جلبت إلی البلاد من أموال طائلة وثروات، فقد جهد الإمام علیه السلام علی ذم الدنیا وتحذیر الآخرین من الخداع بها، والخطبة المذکورة نموذج لذلک.
ص:360
فِی مَعْنی طَلْحَةَ بْنِ عُبَیدِاللّهِ وَقَدْ قَالَهُ حِینَ بَلَغَهُ خُروجُ
طَلْحَةَ وَالزُّبَیْرِ إلی البَصْرَةِ لِقِتَالِهِ(1)
خطب الإمام علیه السلام هذه الخطبة حین بلغه خروج طلحة والزبیر إلی البصرة للإستیلاء علیها وقتال الإمام علیه السلام. فأراد الإمام علیه السلام بهذه الخطبة رفع معنویات صحبه وکشف حقیقة طلحة والزبیر، وتتألف الخطبة من قسمین:
الأول: الذی قال فیه الإمام علیه السلام إنّه لم یهدد من قبل شخص بالحرب لحدّ الآن، فقد لمس الجمیع شجاعتی فی میدان القتال، وعلیه فتهدید طلحة والزبیر هراء.
والآخر: یستدل فیه الإمام بالبرهان والمنطق أنّ المطالبة بدم عثمان - التی یتذرع بها طلحة والزبیر من أجل إشعال فتیل الحرب - کذبة فارغة، ذلک لأنّ ید طلحة ملطخة قبل أی أحد بدم عثمان.
ص:361
ص:362
قَدْ کُنْتُ وَمَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ، وَلَا أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ؛ وَأَنَا عَلَی مَا قَدْ وَعَدَنِی رَبِّی مِنَ النَّصْرِ. وَاللّهِ مَا اسْتَعْجَلَ مُتَجَرِّداً لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمَانَ إِلَّا خَوْفاً مِنْ أَنْ یُطَالَبَ بِدَمِهِ، لَأَنَّهُ مَظِنَّتُهُ، وَلَمْ یَکُنْ فِی الْقَوْمِ أَحْرَصُ عَلَیْهِ مِنْهُ، فَأَرَادَ أَنْ یُغَالِطَ بِمَا أَجْلَبَ فِیهِ لِیَلْتَبِسَ الْأَمْرُ وَیَقَعَ الشَّکُّ. وَوَاللّهِ مَا صَنَعَ فِی أَمْرِ عُثْمَانَ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ: لَئِنْ کَانَ ابْنُ عَفَّانَ ظَالِماً - کَمَا کَانَ یَزْعُمُ - لَقَدْ کَانَ یَنْبَغِی لَهُ أَنْ یُوَازِرَ قَاتِلِیهِ، وَأَنْ یُنَابِذَ نَاصِرِیهِ. وَلَئِنْ کَانَ مَظْلُوماً لَقَدْ کَانَ یَنْبَغِی لَهُ أَنْ یَکُونَ مِنَ الْمُنَهْنَهِینَ عَنْهُ، وَالْمُعَذِّرِینَ فِیهِ وَلَئِنْ کَانَ فِی شَکٍّ مِنَ الْخَصْلَتَیْنِ، لَقَدْ کَانَ یَنْبَغِی لَهُ أَنْ یَعْتَزِلَهُ وَیَرْکُدَ جَانِباً، وَیَدَعَ النَّاسَ، مَعَهُ، فَمَا فَعَلَ وَاحِدَةً مِنَ الثَّلَاثِ، وَجَاءَ بِأَمْرٍ لَمْ یُعْرَفْ بَابُهُ، وَلَمْ تَسْلَمْ مَعَاذِیرُهُ.
أشار الإمام علیه السلام فی بدایة الخطبة إلی تهدید طلحة والزبیر فقال:
«قَدْ کُنْتُ وَمَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ، وَلَا أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ».
إشارة إلی أنّ الجمیع یعلم بشدّة وقع سیفی فی المعارک الإسلامیة قد جندلت صنادید العرب حتی اقترن اسمی بالشجاعة لدی الدانی والقاصی. وأنّه لمن دواعی العجب أن یجرأ طلحة والزبیر علی تهدیدی بالحرب وقد شهدوا صولاتی فی الحروب.
ص:363
ثم قال علیه السلام:
«وَأَنَا عَلَی مَا قَدْ وَعَدَنِی رَبِّی مِنَ النَّصْرِ». یمکن أن تکون هذه العبارة إشارة إلی الوعد الإلهی للمؤمنین بالنصر والذی نصت علیه الآیة الشریفة «إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِینَ آمَنُوا فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَیَوْمَ یَقُومُ الْأَشْهَادُ»(1) کما یمکن أن تکون إشارة إلی وعد خاص وعده به رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی ظهوره علی الناکثین، وقد أطلعه علی موقعة الجمل وأخبر عائشة بها صراحة ونهاها عن الخروج، وقد ورد هذا الأمر فی التواریخ(2).
ثم تطرق علیه السلام إلی نیّة طلحة والزبیر من هذه الفعلة القبیحة فقال:
«وَاللّهِ مَا اسْتَعْجَلَ مُتَجَرِّداً(3) لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمَانَ إِلَّا خَوْفاً مِنْ أَنْ یُطَالَبَ بِدَمِهِ، لَأَنَّهُ مَظِنَّتُهُ، وَلَمْ یَکُنْ فِی الْقَوْمِ أَحْرَصُ عَلَیْهِ مِنْهُ، فَأَرَادَ أَنْ یُغَالِطَ بِمَا أَجْلَبَ(4) فِیهِ لِیَلْتَبِسَ الْأَمْرُ وَیَقَعَ الشَّکُّ. وَوَاللّهِ مَا صَنَعَ فِی أَمْرِ عُثْمَانَ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ: لَئِنْ کَانَ ابْنُ عَفَّانَ ظَالِماً - کَمَا کَانَ یَزْعُمُ - لَقَدْ کَانَ یَنْبَغِی لَهُ أَنْ یُوَازِرَ(5) قَاتِلِیهِ، وَأَنْ یُنَابِذَ(6) نَاصِرِیهِ. وَلَئِنْ کَانَ مَظْلُوماً لَقَدْ کَانَ یَنْبَغِی لَهُ أَنْ یَکُونَ مِنَ الْمُنَهْنَهِینَ(7) عَنْهُ، وَالْمُعَذِّرِینَ فِیهِ وَلَئِنْ کَانَ فِی شَکٍّ مِنَ الْخَصْلَتَیْنِ، لَقَدْ کَانَ یَنْبَغِی لَهُ أَنْ یَعْتَزِلَهُ وَیَرْکُدَ(8) جَانِباً، وَیَدَعَ النَّاسَ، مَعَهُ».
ثم قال علیه السلام:
«فَمَا فَعَلَ وَاحِدَةً مِنَ الثَّلَاثِ، وَجَاءَ بِأَمْرٍ لَمْ یُعْرَفْ بَابُهُ، وَلَمْ تَسْلَمْ مَعَاذِیرُهُ(9)».
ص:364
وهکذا یکشف الإمام علیه السلام النقاب عن کذب طلحة ومؤامرته بهذا الأسلوب المنطقی ویشیر إلی أنّه سیاسی محتال ومحترف، ذلک لأنّ وضعه إزاء عثمان - طبق الحصر العقلی - لا یتجاوز إحدی ثلاث حالات: إمّا، کان یعتبره ظالماً أو مظلوماً أو شاکاً فیه؛ وکل حالة تتطلب تعامل مناسب، لکنه وقف یوماً خلف الکوالیس یؤلب الآخرین علی قتل عثمان، وما أن قتل عثمان حتی هبّ للدفاع عنه والمطالبة بدمه.
هذه هی طریقة الساسة المحترفین الذین یغیرون مسیرتهم بین لیلة وضحاها أحیاناً.
ولا تبدو سیاسة معاویة - وإن حاول الإبتعاد عن هذه الأحداث - مختلفة عن سیاسة طلحة. فقد تخلی عن عثمان حتی قتل، ثم طالب بدمه. کان هؤلاء راضیین فی الواقع بقتل عثمان، أملاً فی نیل الخلافة. وقد صرح الإمام علی علیه السلام بأنّ طلحة لم یتعاون مع قتلة عثمان، والحال، یفید التاریخ أنّه ساعدهم. طبعاً، مراد الإمام علیه السلام أنّه لم یرد المیدان علناً، لکنه کان ینسّق بعیداً عن الأنظار - ما یجدر ذکره أنّ ابن قتیبة ذکر فی کتابه (الامامة والسیاسة) أنّ عائشة خطبت الناس فی البصرة ودعتهم للطلب بدم عثمان، فأبرز رجل من أشراف البصرة کتابا کتبه إلیه طلحة یحثّه فیه علی قتل عثمان. فقال لطلحة: أتعرف هذا الکتاب؟ قال طلحة: بلی. قال: فما الذی حدث؟ بالأمس ترید قتل عثمان، والیوم تدعوا إلی المطالبة بدمه؟ وقد قلت: إنّ علیاً علیه السلام دعاک لیولیک الناس الخلافة لکبر سنک، فأبیت وبایعته حیث قلت: هو أقرب للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله وسوابقه فی الإسلام مقدمة، فلمَ نقضت بیعتک؟ أجاب طلحة: لقد قال ذلک بعد أن بایعه الناس وولّیَ الخلافة، وکنت أعلم أنّه لا یفعل، وإن فعل لم یرض بخلافة المهاجرین والأنصار، فخفت إن لم أبایع أُقتل فبایعت مکرها؟ فقال له الرجل: وکیف تغیّر موقفک من عثمان؟ قال طلحة: إنّ قومنا عابوا علینا عدم نصرته، والیوم نطالب بدمه(1) ویتضح من هذا، أنّ الناس آنذاک کانوا یدرکون عدم
ص:365
صدق طلحة فی مزاعمه. ومن عجائب التاریخ الإسلامی ما رواه المدائنی فی کتاب مقتل عثمان أنّ طلحة منع دفن عثمان ثلاثة أیّام، حتی استعان بعض الصحابة بعلی علیه السلام لدفنه. وقد أمر طلحة بعض الأفراد بإطلاق الحجر علی الجنازة، حتی دفنوه فی المدینة فی موضع یدفن فیه الیهود، یدعی (حش کوکب)، ثم رماه البعض بالحجر. فبعث علی علیه السلام مَن منعهم عن هذا العمل(1).
ص:366
فِی المَوْعِظَةِ وَبَیانِ قُرْبَاهُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلی الله علیه و آله(1)
تتکون هذه الخطبة من ثلاثة أقسام: ذکر الإمام علیه السلام فی القسم الأول: مواعظ قیمة لجمیع مخاطبیه - الذین یمثلون فی الواقع، الناس علی مر العصور - بعبارات مؤثرة توقظ الغافل من غفلته.
وأشار فی القسم الثانی إلی علمه بالأحداث القادمة وأنّ ذلک ممّا علّمه إیّاه رسول اللّه صلی الله علیه و آله حیث صرح بأنّه یستطیع أن یخبر کل أحد منهم بتفاصیل حیاته، لکنه یتحفظ ذلک خشیة الغلو والکفر.
أمّا القسم الثالث - الذی یمثل آخر الخطبة - فقد أشار فیه إلی سبقه الجمیع فی الأوامر والنواهی، فلایأمر بشیء حتی یأتمر هو به ولا ینهی عنه حتی ینتهی هو عنه.
ص:367
ص:368
أَیُّهَا النَّاسُ غَیْرُ الْمَغْفُولِ عَنْهُمْ، وَالتَّارِکُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ. مَا لِی أَرَاکُمْ عَنِ اللّهِ ذَاهِبِینَ، وَإِلَی غَیْرِهِ رَاغِبِینَ! کَأَنَّکُمْ نَعَمٌ أَرَاحَ بِهَا سَائِمٌ إِلَی مَرْعیً وَبِیٍّ، وَمَشْرَبٍ دَوِیٍّ، وَإِنَّمَا هِیَ کَالْمَعْلُوفَةِ لِلْمُدَی لَاتَعْرِفُ مَاَذا یُرَادُ بِهَا! إِذَا أُحْسِنُ إِلَیْهَا تَحْسَبُ یَوْمَهَا دَهْرَهَا، وَشِبَعَهَا أَمْرَهَا. وَاللّهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْبِرَ کُلَّ رَجُلٍ مِنْکُمْ بِمَخْرَجِهِ وَمَوْلِجِهِ وَجَمِیعِ شَأْنِهِ لَفَعَلْتُ، وَلکِنْ أَخَافُ أَنْ تَکْفُرُوا فِیَّ بِرَسُولِ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ.
إستهل الإمام علیه السلام خطبته بخطاب جمیع الناس قائلاً:
«أَیُّهَا النَّاسُ غَیْرُ الْمَغْفُولِ عَنْهُمْ، وَالتَّارِکُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ».
ثم أضاف علیه السلام:
«مَا لِی أَرَاکُمْ عَنِ اللّهِ ذَاهِبِینَ، وَإِلَی غَیْرِهِ رَاغِبِینَ! کَأَنَّکُمْ نَعَمٌ أَرَاحَ(1) بِهَا سَائِمٌ(2) إِلَی مَرْعیً وَبِیٍّ(3) ، وَمَشْرَبٍ دَوِیٍّ(4)».
رغم أنّ جمیع المسلمین یتحدثون عن اللّه، إلّاأنّ عمل البعض یشیر إلی أنّه
ص:369
تولی عن اللّه والتصق بالدنیا وهوی النفس، فقد شبّه الإمام علیه السلام مثل هؤلاء بالحیوانات التی حملها الراعی الجاهل أو المغرض إلی مرعی لیس فیه ماء ولا کلاء سوی المرض والموت. هذا الراعی، هو الشیطان وهذه الحیوانات، هم الناس الذین لا یصغون لنداء العقل وقد استغرقوا فی هوی أنفسهم، وهذا المرعی الممیت هو وادی اللذات والشهوات الذی یفرز الذنوب والمعاصی وبالتالی یقتل روح الإنسان ومعنویته.
ثم قال علیه السلام:
«وَإِنَّمَا هِیَ کَالْمَعْلُوفَةِ لِلْمُدَی(1) لَاتَعْرِفُ مَاَذا یُرَادُ بِهَا! إِذَا أُحْسِنُ إِلَیْهَا تَحْسَبُ یَوْمَهَا دَهْرَهَا، وَشِبَعَهَا أَمْرَهَا».
فقد شبّه الإمام علیه السلام بهذین التشبیهین أصحاب الدنیا، بالحیوانات التی لا همّ لها سوی شبعها وأنّ من یقدّم لها العلف یحسن إلیها، ولا تعلم أنّ علفها وسقیها مقدمة لذبحها، وهذا حالهم حین ینغمسون فی لذات الدنیا وشهواتها.
وأخیراً أشار إلی جانب من علمه بأسرار الغیب وحوادث المستقبل لیقفوا علی جدیته ومعرفته بما یصلحهم:
«وَاللّهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْبِرَ کُلَّ رَجُلٍ مِنْکُمْ بِمَخْرَجِهِ وَمَوْلِجِهِ(2) وَجَمِیعِ شَأْنِهِ لَفَعَلْتُ، وَلکِنْ أَخَافُ أَنْ تَکْفُرُوا فِیَّ بِرَسُولِ اللّهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ».
ورد فی الحدیث أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان جالساً فدخل علیه علی علیه السلام فقال:
«إِنَّ فِیکَ شَبَهاً مِنْ عِیسَی بْنَ مَرْیَمَ وَلَوْ لَاأَنْ تَقُولَ فِیکَ طَوَائِفٌ مِنْ أُمَّتِی ما قَالَتِ النَّصاری فِی عَیسَی بْنَ مَرْیَمَ لَقُلْتُ فِیکَ قَوْلاً لَاتَمُرُّ بِمَلَأٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا اخَذُوا التُّرَابَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَیْکَ یَلْتَمِسُونَ بِذلِکَ الْبَرَکَةَ»(3).
ص:370
أَلَا وَإِنِّی مُفْضِیهِ إِلَی الْخَاصَّةِ مِمَّنْ یُؤْمَنُ ذلِکَ مِنْهُ. وَالَّذِی بَعَثَهُ بِالْحَقِّ، وَاصْطَفَاهُ عَلَی الْخَلْقِ، مَا أَنْطِقُ إِلَّا صَادِقاً، وَقَدْ عَهِدَ إِلَیَّ بِذلِکَ کُلِّهِ، وَبِمَهْلِکِ مَنْ یَهْلِکُ، وَمَنْجَی مَنْ یَنْجُو، وَمَآلِ هذَا الْأَمْرِ. وَمَا أَبْقَی شَیْئاً یَمُرُّ عَلَی رَأْسِی إِلَّا أَفْرَغَهُ فِی أُذُنَیَّ وَأَفْضَی بِهِ إِلَیَّ.
أَیُّهَا النَّاسُ، إِنِّی، وَاللّهِ، مَا أَحُثُّکُمْ عَلَی طَاعَةٍ إِلَّا وَأَسْبِقُکُمْ إِلَیْهَا، وَلَا أَنْهَاکُمْ عَنْ مَعْصِیَةٍ إِلَّا وَأَتَنَاهَی قَبْلَکُمْ عَنْهَا.
بالنظر إلی أنّ الإمام علیه السلام أشار فی السابق إلی علمه بأسرار الغیب وإخبار کل شخص عن تفاصیل حیاته، إلّاأنّه یخشی منهم الغلو والکفر، لیشیر هنا إلی أمرین؛ الأول: إنی أطلع علی هذه الأسرار بعض الخواص من المؤمنین ممن یتحمّلون الأسرار ویحفظونها، والآخر، ما أقوله إنّما سمعته من رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال:
«أَلَا وَإِنِّی مُفْضِیهِ(1) إِلَی الْخَاصَّةِ مِمَّنْ یُؤْمَنُ ذلِکَ مِنْهُ». هذه الخاصة، مثل، کمیل بن زیاد، ورشید الهجری، والأصبغ بن نباتة، ومیثم التمار، وحبیب بن مظاهر، الذی یسع کل واحد منهم حفظ بعض الأسرار. وقد حفلت حیاتهم بالتعرّض لبعض الأسرار فی المواقع الحساسة؛ فإذا کان التلامذة یحملون مثل هذه الأسرار ولهم مثل هذه
ص:371
المقامات، فما ظنک بالأسرار المودعة لدی الأستاذ، والمقام الذی هو علیه؟!!
ثم خاض فی الأمر الثانی فقال:
«وَالَّذِی بَعَثَهُ بِالْحَقِّ، وَاصْطَفَاهُ عَلَی الْخَلْقِ، مَا أَنْطِقُ إِلَّا صَادِقاً، وَقَدْ عَهِدَ إِلَیَّ بِذلِکَ کُلِّهِ، وَبِمَهْلِکِ مَنْ یَهْلِکُ، وَمَنْجَی مَنْ یَنْجُو، وَمَآلِ هذَا الْأَمْرِ. وَمَا أَبْقَی شَیْئاً یَمُرُّ عَلَی رَأْسِی إِلَّا أَفْرَغَهُ(1) فِی أُذُنَیَّ وَأَفْضَی بِهِ إِلَیَّ».
تری هل کان تعلیم النبی صلی الله علیه و آله لهذه الأسرار بصورة بیان جزئی وشرح لکل واقعة، أم أنّه علّم علیّاً علیه السلام أصول وکلیات، وأن کل باب یفتح ألف باب، أم کانت الموارد مختلفة فتارة من خلال الأصول الکلیة وأخری من خلال التفاصیل؟ یبدو الإحتمال الثالث، هو الأقرب. نعم، هذه الأمور لیست واضحة لدینا، واللّه ورسوله أعلم، إلّاأننا نعلم أنّه أخبر عن حوادث جمة ووقعت کما أخبر، وقد بینت فی خطب متعددة من نهج البلاغة، ولو جمعت لکانت کتاباً رائعاً. وبالطبع فإنّ أی من ذلک لیس من علم الغیب الذاتی - الذی یختص باللّه تعالی - بل کما قال علیه السلام فی الخطبة 128
«إِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِی عِلْمٍ»(2) ولما کان الإمام علیه السلام قد أفرد جانباً مهمّاً من الخطبة فی دعوة الناس إلی ترک الانغماس فی الدنیا عاد فی ختام الخطبة لیشیر إلی هذه النقطة المهمّة فی سبقه للعمل بما یأمر فقال:
«أَیُّهَا النَّاسُ، إِنِّی، وَاللّهِ، مَا أَحُثُّکُمْ عَلَی طَاعَةٍ إِلَّا وَأَسْبِقُکُمْ إِلَیْهَا، وَلَا أَنْهَاکُمْ عَنْ مَعْصِیَةٍ إِلَّا وَأَتَنَاهَی قَبْلَکُمْ عَنْهَا». فالشرائط اللازمة للأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وإن لم تتضمن ضرورة عمل الأمر والناهی.
کما روی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:
«مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوهُ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْکَرِ وَإِنْ لَمْ تَجْتَنِبُوهُ کُلُّهُ»(3). ولکنّ الآمر والناهی إذا کان عاملاً قبل الآخرین بما
ص:372
یأمر به وینهی عنه فسیکون لکلامه أبلغ الأثر فی نفوسهم، لأنّ تأثیر الکلام إنّما ینبع من القلب، فإن خرج من القلب استقر لا محالة فی القلب. ومن هنا کان هذا هو الأسلوب الذی اعتمده رسول اللّه صلی الله علیه و آله والائمة المعصومین علیهم السلام وأتباعهم وأنصارهم، فإن نشبت الحرب، کانوا فی خطوطها الأمامیة وإن حل وقت العبادة تغیّرت ألوانهم، حتی حذر القرآن الکریم رسول اللّه صلی الله علیه و آله من إجهاد نفسه فی العبادة: «طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَی»(1). وقال أمیرالمؤمنین علی علیه السلام بشأن سبق رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی القتال:
«کُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَیْنَا بِرَسُولِ اللّهِ فَلَمْ یَکُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبُ إِلَی الْعَدُوِّ مِنْهُ»(2). ونعلم جمیعاً أنّ علیاً علیه السلام إن حثّ الناس فی هذه الخطبة وسائر الخطب علی الزهد فی الدنیا وعدم التعلق بزخارفها، فقد کان أزهد العباد، وحیاته خیر شاهد علی زهده الفرید، والحق لو انطلق زعماء البلدان الإسلامیة من هذه المفاهیم فی أن یلتزموا هم وبطانتهم بالعمل بالقوانین قبل غیرهم، لکان لکلماتهم أعظم التأثیر فی نفوس الآخرین.
ص:373
ص:374
وَفِیهَا یَعِظُ وَیُبَیِّنُ فَضْلَ القُرْآنِ وَیَنْهی عَنِ الْبِدْعَةِ(1)
هذه خطبة طویلة تتحدث عن مسائل مهمّة وتتضمن وصایا حیة وبناءة لحیاتنا المعاصرة وتتألف من ثمانیة أقسام: القسم الأول، الذی یتضمن مواعظ قیّمة یؤکد فیها الإمام علیه السلام أنّ جهنم حُفّت بالشهوات، والجنّة بمقاومة هذه الشهوات. وشرح فی القسم الثانی، أهمیّة القرآن مع ذکر بعض التفاصیل الظریفة التی تضاعف من شوق القلوب إلی آیات القرآن. وتطرّق علیه السلام فی القسم الثالث، إلی العمل بالأحکام والاستقامة.
ثم عاود النصح والوعظ فی القسم الرابع، مؤکّداً علی مراقبة اللسان الذی یمثل
ص:375
أولی مراحل إصلاح الذات والمجتمع. وأکّد فی القسم الخامس، علی حفظ أصالة التعالیم الإسلامیة، ونبذ البدع، کما تعرض فی القسم السادس، إلی أهمیّة القرآن وخصائصه. وأوضح فی القسم السابع، أقسام ظلم النفس والآخرین. أمّا القسم الثامن (والأخیر فی الخطبة) فهو بیان مختصر عمیق المعنی بشأن إصلاح الذات.
ص:376
انْتَفِعُوا بِبَیَانِ اللّهِ، وَاتَّعِظُوا بِمَوَاعِظِ اللّهِ، وَاقْبَلُوا نَصِیحَةَ اللّهِ، فَإِنَّ اللّهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَیْکُمْ بِالْجَلِیَّةِ، وَاتَّخَذَ عَلَیْکُمُ الْحُجَّةَ، وَبَیَّنَ لَکُمْ مَحَابَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَمَکَارِهَهُ مِنْهَا، لِتَتَّبِعُوا هذِهِ، وَتَجْتَنِبُوا هذِهِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - کَانَ یَقُولُ: «إِنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَکَارِهِ، وَإِنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ».
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اللّهِ شَیْءٌ إِلَّا یَأْتِی فِی کُرْهٍ، وَمَا مِنْ مَعْصِیَةِ اللّهِ شَیْءٌ إِلَّا یَأْتِی فِی شَهْوَةٍ. فَرَحِمَ اللّهُ امْرَاً نَزَعَ عَنْ شَهْوَتِهِ، وَقَمَعَ هَوَی نَفْسِهِ، فَإِنَّ هذِهِ النَّفْسَ أَبْعَدُ شَیْءٍ مَنْزِعاً وَإِنَّهَا لَاتَزَالُ تَنْزِعُ إِلَی مَعْصِیَةٍ فِی هَویً.
إستهل الإمام علیه السلام خطبته قائلاً:
«انْتَفِعُوا بِبَیَانِ اللّهِ، وَاتَّعِظُوا بِمَوَاعِظِ اللّهِ، وَاقْبَلُوا نَصِیحَةَ اللّهِ» یمکن اعتبار هذه العبارات الثلاث تبیاناً لحقیقة واحدة بجمل مختلفة، ویحتمل أن تکون کل عبارة مُبیِّنة لمطلب معیّن. فقد أوصی علیه السلام بادیء الأمر بالإنتفاع ببیان اللّه والمراد به الأوامر والنواهی، ومن ثم الإتعاظ بمواعظ اللّه، أی الترغیب والترهیب والبشارة والإنذار التی تشکل دوافع الطاعة وترک المعصیة، والمرحلة الأخیرة مرحلة الخیر التی تتضمن برکات الطاعة وهجر المعصیة، فالمراحل الثلاث هی السبیل إلی القرب الإلهی. جدیر ذکره أنّ لفظ الجلالة تکرر فی العبارات الثلاث، وذلک لبیان أهمیّة المواعظ والنصائح والشعور بمراقبة اللّه.
ص:377
ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه من خلال الدلیل والبرهان، فقال:
«فَإِنَّ اللّهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَیْکُمْ بِالْجَلِیَّةِ، وَاتَّخَذَ عَلَیْکُمُ الْحُجَّةَ، وَبَیَّنَ لَکُمْ مَحَابَّهُ(1) مِنَ الْأَعْمَالِ، وَمَکَارِهَهُ مِنْهَا، لِتَتَّبِعُوا هذِهِ، وَتَجْتَنِبُوا هذِهِ».
فالإمام علیه السلام لا یری من مبّرر للتوانی فی قبول المواعظ والإتیان بالواجبات وترک المحرمات، ذلک لأنّ اللّه أتمّ الحجة علی الجمیع ووضع بما لا یقبل الشک، سبیل قبح العقاب بلا بیان. وخاض علیه السلام فی الرد علی إشکالات مقدرة فقال:
«فَإِنَّ رَسُولَ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - کَانَ یَقُولُ: «إِنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ(2) بِالْمَکَارِهِ، وَإِنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ».
وواصل علیه السلام کلامه فی بیان حدیث الرسول صلی الله علیه و آله، فقال:
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اللّهِ شَیْءٌ إِلَّا یَأْتِی فِی کُرْهٍ، وَمَا مِنْ مَعْصِیَةِ اللّهِ شَیْءٌ إِلَّا یَأْتِی «فِی شَهْوَةٍ. فَرَحِمَ اللّهُ امْرَاً نَزَعَ(3) عَنْ شَهْوَتِهِ، وَقَمَعَ(4) هَوَی نَفْسِهِ، فَإِنَّ هذِهِ النَّفْسَ أَبْعَدُ شَیْءٍ مَنْزِعاً وَإِنَّهَا لَا تَزَالُ تَنْزِعُ إِلَی مَعْصِیَةٍ فِی هَویً».
فهذه حقیقة، وهی أنّ الإنسان لابدّ له من اجتیاز الطرق الصعبة الوعرة فی مسیرته العبادیة وکسب الفضائل ودفع الرذائل، وعلیه مراقبة الأخطار التی تکمن فی طریقه وتعیقه عن الوصول إلی هدفه، أمّا فی مسیرة المعصیة فکأن هذه النفس الجامحة تسلک سبیلاً سهلاً لا ینطوی علی أیّة صعوبات، وهذا هو سر ثواب الطاعة وعقوبة المعصیة.
نقرأ فی حدیث لطیفة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله:
«أنّ اللّه حین خلق الجنّة أمر جبریل
ص:378
بالنظر إلیها، فأقسم بعزّة اللّه وجلاله أنّ کل من سمع عنها یود دخولها، ثم حفّها اللّه بالمکاره وأمره بالنظر إلیها، فنظر إلیها وقال أخشی أن لا یرغب فیها أحد، وحین خلق النار أمر جبریل بالنظر إلیها، فلما نظر إلیها أقسم بعزّة اللّه وجلاله أنّ کل من سمع عنها سوف لن یدخلها، ثمّ حفّها بالشهوات، وأمره بالنظر إلیها، فأقسم بعزّة اللّه وجلاله أنّه یخشی أن یدخلها الجمیع»(1).
ما ورد فی هذه الخطبة حکم غالب، لا دائم، بعبارة أخری أنّ أکثر الطاعات مصحوبة بالمشاکل وأغلب المعاصی محفوفة باللذة. والجدیر بالذکر أنّ هذا الحکم الغالب یختص بعامّة الناس، وإلّا فإنّ أولیاء اللّه ودعاة الحق إنّما یبلغون درجة تجعلهم یتلذّذون بکل طاعة ویذوبون فیها ویتنفّرون من کل معصیة، حیث ورد فی الروایة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:
«أَفْضَلُ النَّاسِ مَنْ عَشِقَ الْعِبادَةَ فَعَانَقَها»(2) وقد اعتمد الإمام علیه السلام تلک العبادة لأنّ مخاطبیه عامة الناس لا الخواص والأولیاء. وصدر الخطبة یشهد علی هذا الأمر. القرآن الکریم من جانبه یقول بشأن الصوم والصلاة:
«وَإِنَّهَا لَکَبِیرَةٌ إِلَّا عَلَی الْخَاشِعِینَ»(3) سؤال: قیل فی تفسیر الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، أنّ المعروف ما عُرِف؛ لأنّ روح الإنسان متعرّفة علی المحاسن، والمنکر ما لم یُعرَف، وروح الإنسان لا تعرف المساویء، ألیس العبارة المذکورة فی الخطبة، تتعارض مع هذا التفسیر المشهور؟
یتضح من التأمل أن لیس هنالک من تعارض، لأنّ معرفة المعروف ومجهولیة
ص:379
المنکر لا تتنافی من حیث الإدراک الکلّی مع جاذبة المعصیة ودافعة الطاعة، مثلاً نلتذّ جمیعاً بالعلم ونتنفّر من الجهل، إلّاأنّ تحصیل العلم ینطوی علی عدّة مصاعب، بحیث یزهد فیه بعض الأفراد، وینزعون إلی الجهل، حیث الکسل والخمول.
ص:380
وَاعْلَمُوا - عِبَادَاللّهِ - أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَایُصْبِحُ وَلَا یُمْسِی إِلَّا وَنَفْسُهُ ظَنُونٌ عِنْدَهُ، فَلَا یَزَالُ زَارِیاً عَلَیْهَا وَمُسْتَزِیداً لَهَا. فَکُونُوا کَالسَّابِقِینَ قَبْلَکُمْ، وَالْمَاضِینَ أَمَامَکُمْ. قَوَّضُوا مِنَ الدُّنْیَا تَقْوِیضَ الرَّاحِل، وَطَوَوْهَا طَیَّ الْمَنَازل.
أعطی الإمام علیه السلام هنا دعاة الحق والسالکین إلی اللّه درساً معنویاً مهمّاً فقال:
«وَاعْلَمُوا - عِبَادَ اللّهِ - أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَایُصْبِحُ وَلَا یُمْسِی إِلَّا وَنَفْسُهُ ظَنُونٌ(1) عِنْدَهُ، فَلَا یَزَالُ زَارِیاً(2) عَلَیْهَا وَمُسْتَزِیداً لَهَا».
فإننا نعلم أن أحد حجب تکامل الإنسان، هو حبّ الذات الذی یبدی له عیوبه محاسن وضعفه قوة، وعلیه فإن أراد الإنسان سلوک طریق السمو والتکامل، لابدّ أن یتّهم نفسه ویعرضها للنقد لیطرح عنها حجب حب الذات ویریها الواقع کما هو. وقد بین الإمام علیه السلام هذا الأمر بثلاث عبارات قصیرة، قال فی الأولی بوجوب إساءة الظن بالنفس ومن ثم انتقادها وأخیراً إیصالها إلی الکمال المطلوب. وقد أشار فی خطبة المتقین التی تضمنت مائة وعشرة دروس أخلاقیة إلی هذه القضیة المهمّة:
«فَهُمْ
ص:381
لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ».
ثم رغّب مخاطبیه - الإنسانیة جمعاء - فی ترک التعلق بالدنیا وقد عرض لهم نماذج السلف الصالح فقال:
«فَکُونُوا کَالسَّابِقِینَ قَبْلَکُمْ، وَالْمَاضِینَ أَمَامَکُمْ.
قَوَّضُوا(1) مِنَ الدُّنْیَا تَقْوِیضَ الرَّاحِل، وَطَوَوْهَا(2) طَیَّ الْمَنَازل».
1. ورد الحثّ فی الإسلام والتأکید علی حسن الظن، فما معنی تأکید الإمام علیه السلام هنا علی إساءة الظن؟ سبب ذلک واضح فی أنّ حسن الظن یتعلق بالآخرین، أمّا بالنسبة للذات التی تعیش طبیعیاً حسن الظن المفرط إلی درجة رؤیة الضعف قوّة، والرذیلة فضیلة، ورد الحثّ علی إساءة الظن لإیجاد حالة من التوازن. فلابدّ للإنسان من نقد ذاته وتقییم أعماله وسلوکه دون تهاون لینفتح علی الکمال. فهو کذاک الذی یجتاز طریقاً خطراً، فإن اطمأن للطریق، هوی وإن احتاط وحذر، نجی.
جدیر بالذکر أنّ نقد الذات لا یتنافی والثقة بالنفس، فالثقة بالنفس من قبیل وجود قوّة عظیمة لدی الإنسان وهو عالم بها، وهذا لا یمنع من الحذر فی مواضع الخطر وعدم نسیان الإحتیاط حین الإستعانة بتلک القوّة.
2. أورد الإمام علیه السلام لمخاطبیه نموذجین (کالسابقین من قبلکم) و (الماضین أمامکم) لانطواء حیاة کل فئة منهما علی الدروس والعبر.
3. اختتم الإمام علیه السلام الخطبة بأمرهم بالنظر إلی الدنیا کمَن قوض عماد الخیمة وجمعها وسلک سبیله یطوی المنازل دون الإقامة فی الدنیا والإستقرار فیها، ویبدو أنّ جمیع مشاکل أهل الدنیا تنبعث من هنا، فی أنّهم نسوا الموت تماماً وظنوا بخلودهم فی الدنیا، وکأنّهم لا یرون الزلازل والسیول التی تضرب بعض المناطق
ص:382
فتحیلها خلال ثوانٍ، خراباً کأنّها لم تسکن من قبل، وتأتی علی مزارع وحقول لتحطم کل محاصیلها التی استغرقت مئات السنین(1).
ص:383
ص:384
وَاعْلَمُوا أَنَّ هذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِی لَایَغُشُّ، وَالْهَادِی الَّذِی لَایُضِلُّ، وَالْمُحَدِّثُ الَّذِی لَایَکْذِبُ. وَمَا جَالَسَ هذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِیَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ: زِیَادَةٍ فِی هُدیً، أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمیً. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَیْسَ عَلَی أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ، وَلَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنیً؛ فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِکُمْ، وَاسْتَعِینُوا بِهِ عَلَی لَأْوَائِکُمْ، فَإِنَّ فِیهِ شِفَاءً مِنْ أَکْبَرِ الدَّاءِ: وَهُوَ الْکُفْرُ وَالنِّفَاقُ، وَالْغَیُّ وَالضَّلَالُ، فَاسْأَلُوا اللّهَ بِهِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَیْهِ بِحُبِّهِ، وَلَا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ، إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَی اللّهِ تَعَالَی بِمِثْلِهِ.
بیّن الإمام علیه السلام هنا أهمیّة القرآن الکریم بصفته الکتاب السماوی الشافی فی خمسة أوصاف فقال:
«وَاعْلَمُوا أَنَّ هذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِی لَایَغُشُّ، وَالْهَادِی الَّذِی لَایُضِلُّ، وَالْمُحَدِّثُ الَّذِی لَایَکْذِبُ. وَمَا جَالَسَ هذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِیَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ: زِیَادَةٍ فِی هُدیً، أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمیً. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَیْسَ عَلَی أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ، وَلَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنیً». فقد أشار بالعبارة الأُولی والثانیة والثالثة إلی هذه الحقیقة و هی أنّ الناصح الأمین والهادی من لا یکذب أو یغش أو یغدر أو یضل حتی لا یکون سبباً لانحراف الآخرین، فلعل هناک من یعرف السبیل إلّاأنّه لا یصدق الآخرین أو یخدعهم، کما یمکن أن یکون صادقاً لکنه لا یعرف الطریق، والحال، لیس القرآن کذلک، فالوحی إنّما یستند إلی علم اللّه المطلق
ص:385
الذی لا یتسلل إلیه الکذب والغش والخیانة، فهو کتاب اللّه الغنی عن الجمیع والمشفق بهم.
ومن هنا خلص الإمام علیه السلام إلی نتیجتین مهمتین لهدایة القرآن؛ الأُولی، أنّ من یجالس القرآن فهو دائماً فی إزدیاد ونقصان؛ زیادة فی الهدی، ونقصان، من العمی والضلال، والأخری أنّ القرآن مصدر عظیم، والفرد أو المجتمع الذی یلتزم بأحکامه ویعمل بتعالیمه، لا یصیبه فقر معنوی، ولا مادی، وعلی العکس من فارقه شهد الفقرین. طبعاً قد لا یکون الفرد فی زمرة أتباع القرآن الکریم إلّاأنّ أعماله تنسجم مع تعالیمه، کأن لا یکذب ولا یغش ولا یهضم الآخرین حقوقهم فذلک له نصیبه من النجاح والتوفیق، وهذا ما أکده الإمام علیه السلام فی وصیته
«اَللّهَ اللّهَ فِی الْقُرآنِ لَایَسْبِقُکُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَیْرُکُمْ»(1) وقد اختلف شرّاح نهج البلاغة فی کلمة (بعد) فی العبارة (بعد القرآن) هل معناها، بعد نزول القرآن، أم بعد العمل به؟ ویبدو المعنی الثانی هو الصواب، لأنّ العمل بالقرآن یزیل الفقر المعنوی والمادّی، لا النزول دون العمل.
ویستفاد ضمنیا من هذه العبارة أنّ ما یشهده العالم الإسلامی من ضعف وفقر فی الجانب المعنوی والمادی إنّما یُعزی لابتعاده عن القرآن، علی غرار من جلس عند عین ماء صافیة ویشکو العطش.
ثم خلص إلی نتیجة أخری فقال علیه السلام
:«فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِکُمْ، وَاسْتَعِینُوا بِهِ عَلَی لَأْوَائِکُمْ(2) ، فَإِنَّ فِیهِ شِفَاءً مِنْ أَکْبَرِ الدَّاءِ: وَهُوَ الْکُفْرُ وَالنِّفَاقُ، وَالْغَیُّ(3) وَالضَّلَالُ». فالإمام علیه السلام یعتبر القرآن وسیلة لحلّ المشاکل والشفاء من جمیع الأمراض الأخلاقیة والإجتماعیة والمعنویة، ویوجز هذه الأمراض فی أربعة: الکفر والنفاق والجهل والضلال؛ ذلک لأنّ القرآن یقذف نور الإیمان والإخلاص فی القلب
ص:386
ویهتک حجاب الجهل ویهدی الإنسان من الضلالة. قطعاً، لیس هنالک من مرض یهدد المجتمع القرآنی المعروف بالإیمان والإخلاص.
ثم خلص الإمام علیه السلام إلی نتیجة أخری:
«فَاسْأَلُوا اللّهَ بِهِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَیْهِ بِحُبِّهِ، وَلَا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ، إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَی اللّهِ تَعَالَی بِمِثْلِهِ». ویستفاد من هذا التعبیر أنّ القرآن أهمّ وسیلة للنجاة ونیل العنایة الإلهیة، والعبارة
«وَلَا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ» إشارة إلی عدم جعل القرآن وسیلة لإلفات انتباه الآخرین بهدف تحقیق بعض الأطماع الدنیویة. روی عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:
«إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ یَقْرَأُ الْقُرْآنَ لِیُقَالَ فُلانٌ قارِیءٌ وَمِنْهُمْ مَنْ یَقْرَأُ الْقُرْآنَ لِیَطْلُبَ بِهِ الدُّنْیَا وَلَا خَیْرَ فِی ذلِکَ وَمِنْهُمْ مَنْ یَقْرَأُ الْقُرْآنَ لِیَنْتَفِعَ بِهِ فِی صَلَاتِهِ وَلَیْلِهِ وَنَهَارِهِ»(1).
صحیح أنّ عدّة روایات تحدّثت عن تأثیر القرآن فی شفاء أمراض البدن أیضاً، ولا یستبعد من کلام اللّه حتی إحیاء الموتی به فضلاً عن شفاء الأمراض، إلّاأنّ ما رکز علیه الإمام علیه السلام فی الخطبة، شفاء القرآن للأمراض المعنویة والخلقیة التی أوجزها فی أربعة؛ الکفر والنفاق والجهل والضلال، کما أکّد علیه السلام علی ضرورة الإستغاثة بالقرآن وتعزیز العلاقة به وحبّه. ویتضح أنّ المراد من التوسل والحب، ما لیس ببعید عن العمل. وبالطبع فإنّ الاستشفاء بالقرآن من الأمراض الخلقیة والإجتماعیة والعقائدیة یتم من خلال الوقوف علی مضامین الآیات والإلتزام بها علی صعید العمل، علی غرار مافعله النبی صلی الله علیه و آله حین نهض بذلک المجتمع المریض لیجعله من أقوی وأفضل المجتمعات.
ص:387
ص:388
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ، وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ یَوْمَ الْقِیَامَةِ شُفِّعَ فِیهِ، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ یَوْمَ الْقِیَامَةِ صُدِّقَ عَلَیْهِ، فَإِنَّهُ یُنَادِی مُنَادٍ یَوْمَ الْقِیَامَةِ: «أَلَا إِنَّ کُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلیً فِی حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ، غَیْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ». فَکُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَاسْتَدِلُّوهُ عَلَی رَبِّکُمْ، وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلَی أَنْفُسِکُمْ، وَاتَّهِمُوا عَلَیْهِ آرَاءَکُمْ، وَاسْتَغِشُّوا فِیهِ أَهْوَاءَکُمْ.
واصل الإمام علیه السلام حدیثه هنا عن برکات القرآن وآثاره، مع هذا الفارق فی أنّ الکلام فی السابق عن البرکات المعنویة والمادّیة للقرآن فی هذه الدنیا، وهنا عن برکاته فی الآخرة، وقد أکّد علی شفاعته، فقال:
«وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ، وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ یَوْمَ الْقِیَامَةِ شُفِّعَ فِیهِ، وَمَنْ مَحَلَ(1) بِهِ الْقُرْآنُ یَوْمَ الْقِیَامَةِ صُدِّقَ عَلَیْهِ». لا شک فی أنّ شفاعة القرآن بلسان الحال أو القال لمن عمل به، وشکواه ممن هجره ولم یحط به علماً.
ثم وضح علیه السلام أکثر فقال:
«فَإِنَّهُ یُنَادِی مُنَادٍ یَوْمَ الْقِیَامَةِ: «أَلَا إِنَّ کُلَّ حَارِثٍ(2) مُبْتَلیً
ص:389
فِی حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ، غَیْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ». فَکُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ». وتشیر هذه العبارة إلی الحدیث المعروف
«الدُّنیا مَزْرَعَةُ الآخرَةِ» فالإمام علیه السلام یوصی بزرع بذور الآیات القرآنیة فی هذه المزرعة، فلا بذور مثمرة سوی هذه، وکل ما سواها ضرر وخسران. فمن طابقت أعماله تعالیم القرآن کانت بذوره آیاته، ومن خالف سلوکه القرآن، فلا یحصد سوی الخیبة والخسران.
ثم اختتم علیه السلام بالإشارة إلی هذه الحقیقة وهی کون القرآن بمعیار والمیزان لکل الأشیاء، فقال:
«وَاسْتَدِلُّوهُ عَلَی رَبِّکُمْ، وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلَی أَنْفُسِکُمْ، وَاتَّهِمُوا عَلَیْهِ آرَاءَکُمْ، وَاسْتَغِشُّوا(1) فِیهِ أَهْوَاءَکُمْ». حیث أشار علیه السلام بهذه العبارات القصیرة إلی ثلاثة أمور مهمّة، الأول: ضرورة أخذ العقائد الصحیحة من القرآن، والثانی: کسب الفضائل الخلقیة عن طریق القرآن، والثالث: جعل القرآن، الفرقان بین الحق والباطل، فما وافق القرآن صحیح وحق وما خالفه خاطئ وباطل. وهذه العبارة، تأکید آخر علی بطلان التفسیر بالرأی وتحمیل الأفکار علی المفاهیم القرآنیة.
جاء فی الروایة
«مَنْ فَسَرَّ بِرَأْیِهِ آیَةً مِنْ کِتَابِ اللّهِ فَقَدْ کَفَرَ»(2).
وورد فی روایة أخری أنّ اللّه تعالی قال:
«ما آمَنَ بِی مَنْ فَسَرَّ بِرَأْیِهِ کَلَامِی»(3).
جدیر بالذکر أنّ الاستدلال بالقرآن لمعرفة اللّه یتمّ تاره عن طریق أدلة التوحید - الواضحة فی القرآن بأسره - وتارة أخری عن طریق ذات القرآن، حیث هذا الکتاب العظیم هو دلیل النبوة من جانب، وذاته المقدّسة من جانب آخر. ویصدق هذا الکلام علی جمیع المعجزات بخصوص القرآن.
أمّا الفارق بین الآراء والأهواء التی وردت فی العبارة. أنّ الآراء إشارة إلی
ص:390
العقائد المخالفة للقرآن، والأهواء، الرغبات النفسانیة المضادة له.
الْعَمَلَ الْعَمَلَ، ثُمَّ النِّهَایَةَ النِّهَایَةَ، وَالْاِسْتِقَامَةَ الاِسْتِقَامَةَ، ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ، وَالْوَرَعَ الْوَرَعَ! «إِنَّ لَکُمْ نِهَایَةً فَانْتَهُوا إِلَی نِهَایَتِکُمْ»، وَإِنَّ لَکُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِکُمْ، وَإِنَّ لِلْإِسْلَامِ غَایَةً فَانْتَهُوا إِلی غَایَتِهِ، وَاخْرُجُوا إِلَی اللّهِ بِمَا افْتَرَضَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَقِّهِ، وَبَیَّنَ لَکُمْ مِنْ وَظَائِفِهِ. أَنَا شَاهِدٌ لَکُمْ، وَحَجِیجٌ یَوْمَ الْقِیَامَةِ عَنْکُمْ.
أشار الإمام علیه السلام بعد الفراغ من بیان أهمیّة القرآن، إلی هذه الحقیقة وهی أنّ الهدف النهائی من نزول القرآن، العمل به، لا الاقتصار علی تلاوته:
«الْعَمَلَ الْعَمَلَ، ثُمَّ النِّهَایَةَ النِّهَایَةَ، وَالْاِسْتِقَامَةَ(1) الاِسْتِقَامَةَ، ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ، وَالْوَرَعَ الْوَرَعَ!». حقّاً أنّ هذه المراحل الخمس التی ذکرها الإمام علیه السلام هی فی الحقیقة عصارة السمو والتکامل والسیر إلی اللّه. فالإنسان ینبغی أن یتجه بادیء الأمر إلی العمل ومن ثم لا یتهاون فی إتمامه، ویراقب نفسه خلال ذلک حذراً من الانحراف عن جادة الصواب ویتحلی بالصبر إزاء أهواء النفس ووساوس الشیطان، حتی یصل المرحلة الأسمی، الورع عند الشبهة حتی یصل الهدف.
ص:391
ذکر بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ العبارة الثانیة والرابعة عطفت بالحرف ثم والثالثة والخامسة، بالواو، لأنّ بلوغ الهدف یکون بعد العمل، ولما کانت الإستقامة هی کیفیة العمل فقد عطفت بالواو، وحیث الصبر إزاء المعصیة وما ورد قبله، فی الطاعة فقد عطفت بالحرف ثم، وعطف الصبر والورع بالواو لأنّهما متلازمان(1). طبعاً هنالک تفاسیر أخری واردة بشأن العبارة.
ثم أشار علیه السلام إلی هدف المراحل المذکورة وعلامة بلوغ الهدف، فقال:
«إِنَّ لَکُمْ نِهَایَةً فَانْتَهُوا إِلَی نِهَایَتِکُمْ، وَإِنَّ لَکُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِکُمْ، وَإِنَّ لِلْإِسْلَامِ غَایَةً فَانْتَهُوا إِلی غَایَتِهِ».
فقد أشار الإمام علیه السلام إلی قضیة مهمّة هی هدفیة حیاة الإنسان إلی جانب هدفیة التعالیم الدینیة، فاللّه لم یخلقنا عبثاً، والشریعة تنشد هدفاً هاماً هو سعادة الإنسان فی الدنیا والآخرة. وقد أوصی الإمام علیه السلام بالسعی لنیل هذا الهدف وحذّر من الغفلة والتوقف فی الطریق، فعلاماته واضحة. وربّما کان المراد من العلم وجوده علیه السلام والأنبیاء والأولیاء فی کل عصر ومصر، الذین أضاءوا الطریق للجمیع، أو المراد، القرآن المجید، بعبارة أخری، الکتاب والسُنّة، أو جمیع ذلک.
وخلص فی الختام إلی هذه النتیجة
«وَاخْرُجُوا(2) إِلَی اللّهِ بِمَا افْتَرَضَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَقِّهِ، وَبَیَّنَ لَکُمْ مِنْ وَظَائِفِهِ. أَنَا شَاهِدٌ لَکُمْ، وَحَجِیجٌ(3) یَوْمَ الْقِیَامَةِ عَنْکُمْ».
المقصود بالشاهد أنّه علیه السلام یشهد فی القیامة علی الأعمال الصالحة للناد وأداء الحقوق واستقامتهم فی سبیل الوصول إلی الهدف وصبرهم وورعهم وتقواهم، والمراد من الحجیج، أنّی سأدافع عنکم وأجیب الملائکة فی محکمة العدل الإلهی.
ص:392
فهذه العبارات اقتباس من القرآن الکریم وقوله: «یَوْمَ نَدْعُوا کُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ»(1) وقال بشأن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله: «وَجِئْنَا بِکَ شَهِیداً عَلَی هَؤُلَاءِ»(2).
ص:393
ص:394
أَلَا وَإِنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ قَدْ وَقَعَ، وَالْقَضَاءَ الْمَاضِیَ قَدْ تَوَرَّدَ؛ وَإِنِّی مُتَکَلِّمٌ بِعِدَةِ اللّهِ وَحُجَّتِهِ. قَالَ اللّهُ تَعَالَی: «إِنَّ الَّذِینَ قَالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَیْهِمُ الْمَلَائِکَةُ أَنْ لَاتَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِی کُنْتُمْ تُوعَدُونَ»، وَقَدْ قُلْتُمْ: «رَبُّنَا اللّهُ»، فَاسْتَقِیمُوا عَلَی کِتَابِهِ، وَعَلَی مِنْهَاجِ أَمْرِهِ، وَعَلَی الطَّرِیقَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادَتِهِ ثُمَّ لَاتَمْرُقُوا مِنْهَا، وَلَا تَبْتَدِعُوا فِیهَا، وَلَا تُخَالِفُوا عَنْهَا. فَإِنَّ أَهْلَ الْمُرُوقِ مُنْقَطَعٌ بِهِمْ عِنْدَاللّهِ یَوْمَ الْقِیَامَةِ.
أشار الإمام علیه السلام هنا إلی الأحداث السابقة، فقال:
«أَلَا وَإِنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ قَدْ وَقَعَ، وَالْقَضَاءَ الْمَاضِیَ قَدْ تَوَرَّدَ(1)». وردت عدّة احتمالات من قبل بعض شرّاح نهج البلاغة بشأن المراد من القضاء والقدر فی العبادة، ولکن بالنظر إلی العبارات القادمة فلا یستبعد أن تکون إشارة إلی الأمور المرتبطة بزعامته علیه السلام - التی أخبر عنها رسول اللّه صلی الله علیه و آله ومواجهته للناکثین - والمفروغ منه أنّ القضاء والقدر - کما شرحناه فی محله - لا یعنی إجبار العباد وسلب اختیارهم، بل إنّ آثار الأفعال الإختیاریة للإنسان نوع من القضاء والقدر؛ مثلاً، إنّ اللّه قدّر نجاح من یسعی ویجد ویجتهد، وفشل من یتوانی ویکسل، فهذه الأمور وإن جرت باختیار الإنسان إلّاأنّ اللّه مسببّ الأسباب جعل لذلک آثاراً تعتبر من القضاء والقدر، طبعاً، هناک القضاء والقدر
ص:395
الإلزامی الخارج عن حدود الأفعال الإنسانیة(1).
ثمّ بیّن علیه السلام وظیفة الناس بالنسبة للمستقبل، فقال:
«وَإِنِّی مُتَکَلِّمٌ بِعِدَةِ اللّهِ وَحُجَّتِهِ.
قَالَ اللّهُ تَعَالَی : «إِنَّ الَّذِینَ قَالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَیْهِمُ الْمَلَائِکَةُ أَنْ لَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِی کُنْتُمْ تُوعَدُونَ»».
ثم خلص إلی نتیجة واضحة، فقال:
«وَقَدْ قُلْتُمْ : «رَبُّنَا اللّهُ»
،فَاسْتَقِیمُوا عَلَی کِتَابِهِ، وَعَلَی مِنْهَاجِ أَمْرِهِ، وَعَلَی الطَّرِیقَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادَتِهِ».
إشارة إلی أنّ القول بلا عمل لا یؤدّی إلی الهدف ولا یوجب دخول الجنّة والفوز بالسعادة الأبدیة، فما دمتم أظهرتم الإیمان فعلیکم بالعمل لتشملون بوعد اللّه.
ثم بیّن علیه السلام الأخطار التی تکمن فی طریق المؤمنین، فقال:
«ثُمَّ لَاتَمْرُقُوا مِنْهَا، وَلَا تَبْتَدِعُوا فِیهَا، وَلَا تُخَالِفُوا عَنْهَا. فَإِنَّ أَهْلَ الْمُرُوقِ(2) مُنْقَطَعٌ(3) بِهِمْ عِنْدَاللّهِ یَوْمَ الْقِیَامَةِ». فقد أشار علیه السلام فی هذه العبارة إلی ثلاث فرق من المنحرفین وحذّر من السیر علی نهجهم، الفئة الأُولی: التی تمرق من الدین وتری نفسها علی الدین بینما هی بعیدة عنه کل البعد، کخوارج النهروان الذین نعتتهم الروایات والتواریخ بالمارقین، فقد بلغوا درجة من التعبد والتمسک بقشور الدین بحیث یحسبهم الجاهل من المتدینین الحقیقیین، والحال، لیس لهم حظ من الدین سوی ظاهره ولا یعلمون عن حقیقة الدین شیئاً.
الفئة الثانیة: أهل البدع الذین یُحمّلون الدین ما لیس منه، والواقع أنّهم یقدمون أهواءَهم وأفکارهم علی أحکام الدین ولم یکونوا قلائل علی عهد الخلفاء. الفئة الثالثة: التی تخالف الأحکام الشرعیة عامدة وتترک ما لا ینسجم مع مصالحها
ص:396
ومنافعها، وأفضل نموذج علی ذلک، معاویة حین ظهر ودخل الکوفة خطب الناس، فقال: «واللّه لم أقاتلکم لتصوموا وتصلوا وتحجوا وتزکوا فأنتم تفعلون ذلک، ولکن قاتلتکم لأتأمر علیکم» (وقیل علی روایة، لأتسلّط علی رقابکم)(1). نعم، من جانَبَ هذه الطرق المنحرفة ولم یصغِ لوساوس الشیطان وهوی النفس فهو الذی قال:
«قَالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَیْهِمْ الْمَلَائِکَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِی کُنْتُمْ تُوعَدُونَ»(2).
ورد فی بعض الروایات فی تفسیر العبارة
«ثُمَّ اسْتَقَامُوا» (المقتبسة من الآیة 30 من سورة فصلت) أنّها إشارة إلی الولایة. فقد أجاب الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام مَن سأله عن الإستقامة فی الآیة المذکورة، فقال:
«هِیَ وَاللّهِ ما أنْتُم عَلِیهِ»(3). طبعاً الإستقامة والثبات علی الصراط لهما مفهوم واسع، واحد مصادیقه البارزة، ولایة أهل البیت علیهم السلام.
سؤال: متی هذه البشارة التی تزفها الملائکة للمؤمنین، عند الموت أم فی الحیاة الدنیا أم القیامة؟ هل یلمس المؤمنون هذه البشارة، أم لا؟
الجواب: ممّا لا شک فیه أنّ نجدة الملائکة - طبق صریح الآیات القرآنیة - للمؤمنین فی الظروف الحساسة مبذولة فی هذه الحیاة الدنیا، ونموذج ذلک ما حصل
ص:397
فی موقعة بدر والأحزاب(1) ؛ طبعاً لم یرهم المؤمنون إلّاأنّهم شاهدوا إمداداتهم الغیبیة علی صعید نصرتهم فی میدان القتال. وما یستفاد من الروایات أنّ بشارة الملائکة المذکورة فی الآیة السابقة، والتی أشارت إلیها الآیة 31 من سورة فصلت، تتعلق بلحظة الموت أو الحشر وقد فسّرت العبارة
«نَحْنُ أَوْلِیَاؤُکُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا...» بصیغة «ونحن کنّا أولیاءَکم فی الحیاة الدنیا»، أی، کنّا أولیاءَکم فی الحیاة الدنیا وسنتولاکم لحظة الإحتضار والقیامة. روی صاحب مجمع البیان عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:
«أَلَّا تَخافُوا ما تَقْدِمُونَ عَلَیْهِ وَلَا تَحْزَنُوا مَا خَلَّفْتُمْ وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِی کُنْتُمْ تُوعَدُونَ فِی الدُّنْیَا»(2).
ص:398
ثُمَّ إِیَّاکُمْ وَتَهْزِیعَ الْأَخْلَاقِ وَتَصْرِیفَهَا، وَاجْعَلُوا اللِّسَانَ وَاحِداً، وَلْیَخْزُنِ الرَّجُلُ لِسَانَهُ، فَإِنَّ هذَا اللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِ. وَاللّهِ مَا أَرَی عَبْداً یَتَّقِی تَقْوَی تَنْفَعُهُ حَتَّی یَخْزُنَ لِسَانَهُ. وَإِنَّ لِسَانَ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ، وَإِنَّ قَلْبَ الْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ: لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ یَتَکَلَّمَ بِکَلَامٍ تَدَبَّرَهُ فِی نَفْسِهِ، فَإِنْ کَانَ خَیْراً أَبْدَاهُ، وَإِنْ کَانَ شَرّاً وَارَاهُ. وَإِنَّ الْمُنَافِقَ یَتَکَلَّمُ بِمَا أَتَی عَلَی لِسَانِهِ لَایَدْرِی مَاذَا لَهُ، وَمَاذَا عَلَیْهِ. وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ -: «لَا یَسْتَقِیمُ إِیمَانُ عَبْدٍ حَتَّی یَسْتَقِیمُ قَلْبُهُ. وَلَا یَسْتَقِیمُ قَلْبُهُ حَتَّی یَسْتَقِیمَ لِسَانُهُ». فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْکُمْ أَنْ یَلْقَی اللّهَ تَعَالَی وَهُوَ نَقِیُّ الرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِینَ وَأَمْوَالِهِمْ، سَلِیمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ، فَلْیَفْعَلْ.
بیّن الإمام علیه السلام فی هذا الجانب من الخطبة بعض المسائل المهمّة المرتبطة بتهذیب الأخلاق وتطهیر الروح من الرذائل الخلقیة، وأشار إلی الأمور المهمّة التی تشکل مفتاح الإصلاح الأخلاقی، فقال:
«ثُمَّ إِیَّاکُمْ وَتَهْزِیعَ الْأَخْلَاقِ وَتَصْرِیفَهَا(1)». بالنظر إلی أنّ تهزیع، من مادة هزع، علی وزن نظم، بمعنی التکبیر، وکأنّ الإمام علیه السلام یری أنّ الفضائل الأخلاقیة کالبناء الشامخ والجوهر الثمین الذی یمثل أی انحراف فیه کسره وتغییر شکله، ولا یقتصر هذا البناء علی الفرد، بل حتی المجتمعات البشریة إن
ص:399
فقدت الفضائل الاخلاقیة تنحدر نحو الفساد والانحراف والزوال:
إنَّما الأمَمُ الأَخلاقُ ما بَقِیتْ
فَإنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخلاقُهُم ذَهَبُوا
ثم رکّز الإمام علیه السلام علی واحدة من أهم المسائل الأخلاقیة التی لا یتسنی تهذیب النفس إلّامن خلالها والتی تتمثل بإصلاح اللسان، قائلاً:
«وَاجْعَلُوا اللِّسَانَ وَاحِداً» حیث تقابل هذه العبارة تلک العبارة
«ذواللسانین» بحق المنافق، الذی یقول شیئاً فی حضور الإنسان وآخر فی غیابه، «وَإِذَا لَقُوا الَّذِینَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَی شَیَاطِینِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَکُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون»(1) ومن الطبیعی أن تغیب کل معانی المحبّة والمواساة التی تشکل الرکن الأساس للحیاة الإجتماعیة فی المجتمع الذی یمتاز أفراده بالنفاق والإبتعاد عن الصدق، ولیس هنالک سوی سوء الظن الذی یسود المجتمع.
ثم قال فی الوصیة الثانیة:
«وَلْیَخْزُنِ الرَّجُلُ لِسَانَهُ، فَإِنَّ هذَا اللِّسَانَ جَمُوحٌ(2) بِصَاحِبِهِ». فتشبیه اللسان بالفرس الجموح تشبیه رائع ولطیف، ذلک لأنّ اللسان أسهل عضو لدی الإنسان یحرکه دون عناء، إلّاأنّ أهواء النفس ووساوس الشیطان قد تغلب الإنسان بحیث لا یستطیع السیطرة علیها، فیصبح کالفرس الجموح الذی یغلب فارسه فیوشک أن یطرحه فی المهلکة. ولعل أفضل وسیلة لحفظه من الخطر أن یقلّل الإنسان من کلامه، وهذا هو المراد من حفظ اللسان، ولیس بعدم الکلام قط، ذلک لأنّ اللسان أهم وسیلة فی التربیة والتعلیم ونقل العلوم والمعارف والتجارب وذکر اللّه تعالی.
ثم أکّد علیه السلام ذلک، فقال:
«وَاللّهِ مَا أَرَی عَبْداً یَتَّقِی تَقْوَی تَنْفَعُهُ حَتَّی یَخْزُنَ لِسَانَهُ».
فهذا التأکید المقرون بالقسم إشارة إلی المرحلة الأُولی التی قال بها أرباب السیر والسلوک إلی اللّه والتی تتمثل بإصلاح اللسان، وما لم یجتز الإنسان هذه العقبة فلن
ص:400
یقف علی حقیقة التقوی والقرب من اللّه.
ثم تطرّق الإمام علیه السلام إلی أهمیّة حفظ اللسان فی أنّ إحدی فوارق المؤمن عن المنافق إنّما تکمن فی هذا الموضوع فقال:
«وَإِنَّ لِسَانَ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ، وَإِنَّ قَلْبَ الْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ: لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ یَتَکَلَّمَ بِکَلَامٍ تَدَبَّرَهُ فِی نَفْسِهِ، فَإِنْ کَانَ خَیْراً أَبْدَاهُ، وَإِنْ کَانَ شَرّاً وَارَاهُ. وَإِنَّ الْمُنَافِقَ یَتَکَلَّمُ بِمَا أَتَی عَلَی لِسَانِهِ لَایَدْرِی مَاذَا لَهُ، وَمَاذَا عَلَیْهِ».
طبعاً، لسان کل شخص فی فیه، والقلب - سواء العضو الواقع فی وسط الصدر أو المراد به العقل - مفصول عن اللسان، ولا فرق فی هذا بین المؤمن والمنافق، لکن هناک کنایة لطیفة فی العبارة، أنّ المؤمن یفکّر ثم یتکلّم، أمّا المنافق فیتکلّم ثم یفکّر، الأمر الذی فسره الإمام علیه السلام فی العبارات القادمة.
جدیر ذکره أنّ هذا المعنی ورد بصورة أخری فی قصار کلمات الإمام علیه السلام ومنها:
«لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ وَقَلْبُ الْأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسانِهِ»(1). وقال:
«قَلْبُ الْأَحْمَقِ فِی فِیهِ وَلِسَانُ الْعَاقِلِ فِی قَلْبِهِ» وکل هذه العبارات تشیر إلی حقیقة واحدة هی أنّ المؤمن والعاقل یفکّر وینطق والمنافق والأحمق ینطقان ولا یفکّران.
سؤال: یمتاز المنافقون عادة بالذکاء والخطط الجهنمیة فی مشاریعهم الهدّامة فکیف یوصفون بأنّهم لا یدرون ماذا لهم وماذا علیهم؟!
الجواب: تمکن الإجابة عن هذا السؤال من خلال الآیات القرآنیة الواردة بشأن المنافقین وهو أنّ المنافق وإن کانت له بادیء الأمر بعض الخطط الشیطانیة والذکیة حتی یری نفسه عاقلاً والمؤمن سفیهاً، إلّاأنّ المنافق فی خاتمة المطاف هو السفیه الحقیقی، قال القرآن الکریم: «وَإِذَا قِیلَ لَهُمْ ءَامِنُوا کَمَا ءَامَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ کَمَا ءَامَنَ السُّفَهَاءُ أَلَآ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَکِنْ لَّایَعْلَمُونَ»(2). وعلیه تتضح فطنة المؤمن
ص:401
وبلادة المنافق من خلال التأمل الدقیق، والمنافق شاء أم أبی فهو مفضوح فی الدنیا والآخرة.
ثم استدل علیه السلام بحدیث عمیق المعنی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله:
«وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ -: «لَا یَسْتَقِیمُ إِیمَانُ عَبْدٍ حَتَّی یَسْتَقِیمُ قَلْبُهُ. وَلَا یَسْتَقِیمُ قَلْبُهُ حَتَّی یَسْتَقِیمَ لِسَانُهُ».
فالعلاقة القائمة بین إصلاح اللسان والقلب والإیمان فی هذا الحدیث هی علاقة جدلیة واضحة. وقد دلّت التجربة علی أنّ سوء اللسان وتلوثه بالذنوب والکلمات العبثیة الفارغة، یسود القلب ویخلی الروح من المعنویة، ومن الطبیعی أنّ القلب إذا اسودَّ لن یجد بصیص نور الإیمان. قال القرآن الکریم فی تعبیر دقیق وبعید: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِیداً * یُصْلِحْ لَکُمْ أَعْمَالَکُمْ»(1) وعلیه فالعلاقة بین إصلاح اللسان وإصلاح القلب وإصلاح الإیمان علاقة لازم وملزوم، وإن تکلّف بعض الشرّاح فی تفسیر العبارة. طبعاً، لا یمکن إنکار صدق عکس هذا المعنی، أی أنّ قوة الإیمان تؤدی إلی نورانیة القلب والذی یؤدّی إلی إصلاح اللسان، وبعبارة أخری، تؤثر هذه الأمور الثلاثة فی بعضها البعض الآخر تأثیراً متبادلاً، إلّاأنّ الأبرز، ما ورد فی حدیث النبی الأکرم صلی الله علیه و آله.
ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی ثلاثة مواضیع مهمّة أخری، فقال:
«فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْکُمْ أَنْ یَلْقَی اللّهَ تَعَالَی وَهُوَ نَقِیُّ الرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِینَ وَأَمْوَالِهِمْ، سَلِیمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ، فَلْیَفْعَلْ» قطعاً، أنّ مثل هذا الفردعلی درجة رفیعة من الورع والتقوی التی تجعله مشمولاً بعنایة اللّه ورحمته. وأیّ تقوی أعظم من کفّ الأذی عن الناس واحترام أموالهم وأعراضهم وأنفسهم. ویبدو هذا الموضوع علی قدر من الأهمیّة بحیث کانت رعایته دلیلاً علی کون الفرد مسلماً وهجره دلیلاً علی بعده عن
ص:402
الإسلام. ورد فی الحدیث الشریف أن رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال:
«اَلْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَیَدِهِ»(1) وأبعد من ذلک ما روی عن الإمام الصادق علیه السلام الذی أوسعه لیشمل الناس، فقال:
«اَلْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ یَدِهِ وَلِسَانِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنِ ائْتَمَنَهُ النَّاسَ عَلَی امْوَالِهِمْ وَاَنْفُسِهِمْ»(2).
لهذه القطعة البسیطة من اللحم والتی نسمّیها (اللسان) مسؤولیات خطیرة علی مستوی الظاهر والباطن. ولو تأملنا نطق الآخرین لرأینا أنّ اللسان یتحرک بسرعة مذهلة فی الفم فیرتب الحروف سریعاً لینطلق ببعض الکلمات، ولا یکل أبداً. ولو أخطأ قلیلاً فی الحرکة لصدرت منه الکلمات المهملة والمضحکة أحیاناً، کما یقوم بدور فرید حین تناول الطعام حیث یدفع الغذاء بسرعة فائقة إلی الاسنان وینسحب قلیلاً بغیة طحنه. ووظیفته الأخری تتمثل فی جمع الطعام الممضوغ ودفعه إلی البلعوم، ولولا اللسان لتعذر علینا ابتلاع الماء والغذاء؛ هذا من حیث الظاهر. وأمّا من حیث القضایا المعنویة والأخلاقیة، فدور اللسان واضح وجلیّ؛ فهو أبسط وسیلة عبادیة وأهم وسیلة للمعصیة؛ فأفضل العبادات (الصلاة، تلاوة القرآن، التربیة والتعلیم، الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر و...) إنّما تتمّ باللسان، کما قیل بأنّ ثلاثین کبیرة (من قبیل الغیبة، التهمة، أذی المؤمن، الحکم بالباطل، إیجاد الفساد، والإختلاف و...) ترتکب بواسطة اللسان، فاللسان أفضل وسائل الطاعة کما أنّه أخطر وسائل الذنب، ذلک لأنّه مستعد فی کافة الأزمنة والأمکنة والظروف ودون أدنی تکالیف لارتکاب الذنب،، والأدهی من ذلک أنّ ذنوب اللسان أثر کثرتها وسعتها لم تعد قبیحة لدی عوامّ الناس، ومن هنا کانت الخطوة الأُولی لإصلاح
ص:403
الذات تکمن فی إصلاح اللسان. هنالک طریقان مهمّان للنجاة من معاصی اللسان أشار إلیهما الإمام علیه السلام؛ الأول: قلّة الکلام واجتناب الفضول للخلاص من آفات اللسان. الثانی: أن یفکر کلما أراد الکلام، کما قال الإمام علیه السلام أن یکون لسانه وراء قلبه، لا أن یکون قلبه وراء لسانه کالمنافق والأحمق. ویبدو الکلام بهذا الشأن کثیر، نختصره ونختتمه بالحدیث النبوی الشریف عن الإمام الصادق علیه السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال:
«یُعَذِّبُ اللّهُ اللِّسَانَ بِعَذَابٍ لَایُعَذِّبُ بِهِ شَیْئاً مِنَ الْجَوَارِحِ فَیَقُولُ: ایْ رَبِّ عَذَّبْتَنِی بِعَذَابٍ، لَمْ تُعَذِّبْ بِهِ شَیْئاً فَیُقَالُ لَهُ: خَرَجَتْ مِنْکَ کَلِمَةٌ فَبَلَغْتَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَسُفِکَ بِهَا الدَّمُ الْحَرامُ وَانْتُهِبَ بِهَا الْمالُ الْحَرامُ وَانْتُهِکَ بِهَا الْفَرْجُ الْحَرامُ، وَعِزَّتِی (وَجَلَالِی) لَأُعَذِّبَنَّکَ بِعَذَابٍ لَااُعَذِّبُ بِهِ شَیْئاً مِنْ جَوَارِحَکَ»(1).
إنّ رصید الإنسان ثلاثة أشیاء: النفس والمال والعرض، ولعل العرض یتقدم علی الجمیع حیث یستعد الإنسان للتضحیة بنفسه من أجله، ثم النفس والأموال. وقد أولی الإسلام هذه الأمور الثلاثة أهمیّة فائقة، وکما ورد فی الخطبة فإنّ النجاة یوم القیامة لمن سلمت یده من دماء الناس وأموالهم ولم یتعرض لأعراضهم. ویری الإسلام حرمة الأموال کحرمة الأنفس، وأنّ حرمة إنسان کحرمة البشریة جمعاء، وأنّ انتهاک حرمة مؤمن بغیبته کمن یأکل لحم أخیه میتاً. ورد فی الحدیث النبوی فی حجة الوداع فی منی، (التی یقصدها الناس من مختلف مناطق العالم) أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله خطب الناس بعد أداء مناسک الحج فقال: أیّ یوم أفضل أیّام السنة؟ قالوا:
هذا الشهر. قال: وأیّ أرض؟ قالوا هذه الأرض. فقال صلی الله علیه و آله:
«إِنَّ دِماءَکُمْ وَاَمْوَالَکُمْ
ص:404
عَلَیْکُمْ حَرامٌ لَحُرْمَةِ یَوْمِکُمْ هذا فِی شَهْرِکُمْ هذا فِی بَلَدِکُمْ هذا إِلَی یَوْمِ تَلْقُونَهُ فَیَسْئَلُکُمْ عَنْ اعْمَالِکُمْ»، ثم قال: هل بلّغت؟ قالوا: بلی. قال صلی الله علیه و آله:
«اللّهم فاشْهَد»(1).
ص:405
ص:406
وَاعْلَمُوا عِبَادَاللّهِ أَنَّ الْمُؤمِنَ یَسْتَحِلُّ الْعَامَ مَا اسْتَحَلَّ عَاماً أَوَّلَ، وَیُحَرِّمُ الْعَامَ مَا حَرَّمَ عَاماً أَوَّلَ؛ وَأَنَّ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ لَایُحِلُّ لَکُمْ شَیْئاً مِمَّا حُرِّمَ عَلَیْکُمْ، وَلکِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّ اللّهُ، وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللّهُ. فَقَدْ جَرَّبْتُمُ الْأُمُورَ وَضَرَّسْتُمُوهَا، وَوُعِظْتُمْ بِمَنْ کَانَ قَبْلَکُمْ، وَضُرِبَتِ الْأَمْثَالُ لَکُمْ، وَدُعِیتُمْ إِلَی الْأَمْرِ الْوَاضِحِ؛ فَلَا یَصَمُّ عَنْ ذلِکَ إِلَّا أَصَمُّ، وَلَا یَعْمَی عَنْ ذلِکَ إِلَّا أَعْمَی. وَمَنْ لَمْ یَنْفَعْهُ اللّهُ بِالْبَلَاءِ وَالتَّجَارِبِ لَمْ یَنْتَفِعْ بِشَیْءٍ مِنَ الْعِظَةِ، وَأَتَاهُ التَّقْصِیرُ مِنْ أَمَامِهِ، حَتَّی یَعْرِفَ مَا أَنْکَرَ، وَیُنْکِرَ مَا عَرَفَ. وَإِنَّمَا النَّاسُ رَجُلَانِ: مُتَّبِعٌ شِرْعَةً وَمُبْتَدِعٌ بِدْعَةً، لَیْسَ مَعَهُ مِنَ اللّهِ سُبْحَانَهُ بُرْهَانُ سُنَّةٍ، وَلَا ضِیَاءُ حُجَّةٍ.
أشار الإمام علیه السلام هنا إلی آفة دینیة واجتماعیة أخری لیکمل ما ذکره من آفات، وتلک الآفة هی البدعة وتغییر أحکام اللّه علی ضوء الرغبات والأهواء النفسیة، فقال:
«وَاعْلَمُوا عِبَادَاللّهِ أَنَّ الْمُؤمِنَ یَسْتَحِلُّ الْعَامَ مَا اسْتَحَلَّ عَاماً أَوَّلَ، وَیُحَرِّمُ الْعَامَ مَا حَرَّمَ عَاماً أَوَّلَ».
لا یُخضع الأحکام الشرعیة لهوی نفسه ویُغیرها بأفکاره الناقصة، فلو فتح باب البدع فی الأحکام لغیّر الظلمة والطواغیت کل ما لا ینسجم مع مصالحهم ومنافعهم، فلا تمضی مدّة حتی تندرس أصول الدین وفروعه ویمحق محتواه. والعبارة تشیر
ص:407
إلی البدع التی وردت إلی الدین عقب وفاة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، ولم یکتف القوم بالقیاس عند عدم وقوفهم علی نصوص الکتاب والسُنّة، بل هبّوا لمخالفة صریح القرآن وسُنّة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله. فالخلیفة الثالث خالف طریقة رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی توزیع أموال بیت مال المسلمین وتسویته بینهم فی العطاء، فقدم الأعیان والأشراف ولا سیما خاصته وبطانته من قرابته. ثم انبری الخلیفة الثانی لیقول صراحة: متعتان کانتا حلالاً علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله وأنا أُحرمهما واُعاقب علیهما، متعة النساء (الزواج المؤقت) ومتعة الحج (الحج بصورة حج التمتع) ناهیک عن سائر البدع التی ظهرت علی عهد الخلفاء والتی أحصتها بعض الکتب(1). والإمام علیه السلام بدرایته الواسعة شعر أنّه إن لم یقف بوجه هذه البدع لمحق الدین وغیبت أحکامه، ولذلک عدَّ الإبتعاد عن البدعة من الإیمان.
ثم قال علیه السلام
:«وَأَنَّ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ لَایُحِلُّ لَکُمْ شَیْئاً مِمَّا حُرِّمَ عَلَیْکُمْ، وَلکِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّ اللّهُ، وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللّهُ». ومن ثم أشار إلی نقطة بمثابة الدلیل علی ما ذکر، فقال:
«فَقَدْ جَرَّبْتُمُ الْأُمُورَ وَضَرَّسْتُمُوهَا(2) ، وَوُعِظْتُمْ بِمَنْ کَانَ قَبْلَکُمْ، وَضُرِبَتِ الْأَمْثَالُ لَکُمْ، وَدُعِیتُمْ إِلَی الْأَمْرِ الْوَاضِحِ». بمعنی أنّکم شاهدتم حجم المصائب والإرباکات التی جرّتها البدع السابقة علی الإسلام والمسلمین. فالبدع فی زمان عثمان أدّت إلی تلک الثورة الهوجاء التی سفکت دمه وأحدثت التمییز بین العرب والموالی، إلی تلک الفرقة بین المسلمین أیضاً وکان عاقبتها سفک دمه أیضاً(3). وناهیک عمّا سبق، فإنّ اللّه ذمّ الیهود فی القرآن الکریم علی بدعهم وتحریفاتهم وکشف عن مصیرهم، وأنتم قد جرّبتم البدع وقد وعظتم بمن کان
ص:408
قبلکم، فقد دعوتم إلی مطلب واضح قامت علیه الأدلة الحیة والتجریبیة والنقلیة.
ثم خلص إلی هذه النتیجة:
«فَلَا یَصَمُّ عَنْ ذلِکَ إِلَّا أَصَمُّ، وَلَا یَعْمَی عَنْ ذلِکَ إِلَّا أَعْمَی. وَمَنْ لَمْ یَنْفَعْهُ اللّهُ بِالْبَلَاءِ وَالتَّجَارِبِ لَمْ یَنْتَفِعْ بِشَیْءٍ مِنَ الْعِظَةِ، وَأَتَاهُ التَّقْصِیرُ مِنْ أَمَامِهِ(1) ، حَتَّی یَعْرِفَ مَا أَنْکَرَ، وَیُنْکِرَ مَا عَرَفَ».
فالتجارب الحسیة والبلاء الإلهی أهم وسیلة لإیقاظ الإنسان، فمن لم یتیقظ بهذا الاسلوب یستبعد أن ینتفع بالمواعظ والنصائح، ولیس له من عاقبة سوی رؤیته للحسن سیّئاً والسیء حسناً، کما أورد ذلک القرآن الکریم: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُکُمْ بِالْأَخْسَرِینَ أَعْمَالًا * الَّذِینَ ضَلَّ سَعْیُهُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَهُمْ یَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ یُحْسِنُونَ صُنْعاً»(2).
فقد حسب معاویة وطلحة والزبیر أنفسهم من المدافعین عن دم المظلوم (دم عثمان) هذا فی صدر الإسلام، والیوم یری أصحاب البدع الوهابیون أنّهم مصلحو هذه الأُمّة، وعادة ما یزعم المبتدعون طیلة التاریخ أنّهم مصلحون.
ویختتم الإمام علیه السلام الخطبة بعبارة، لتمییز صفوف المبتدعین من صفوف المتبعین للدین، فیقول:
«وَإِنَّمَا النَّاسُ رَجُلَانِ: مُتَّبِعٌ شِرْعَةً وَمُبْتَدِعٌ بِدْعَةً، لَیْسَ مَعَهُ مِنَ اللّهِ سُبْحَانَهُ بُرْهَانُ سُنَّةٍ، وَلَا ضِیَاءُ حُجَّةٍ» وعلیه فلابدّ لکل شخص من معرفة صنفه. فإن کان متشرّعاً فهو تابع للکتاب والسُنّة والدلیل العقلی الیقینی، وإن کان فی صف المبتدعین فلیس لدیه دلیل من کتاب ولا سُنّة ولا نور ولا ضیاء من عقل ولا یتبع سوی أهوائه ویغیّر أحکام اللّه بما ینسجم وتلک الأهواء. وبناءً علی ما سبق فإنّ برهان السُنّة إشارة إلی الأدلّة النقلیة، وضیاء الحجة الأدلة العقلیة، وهکذا یُعرِّف الإمام علیه السلام أهل البدع بأنّهم الأفراد الذین یتبعون أهواءَهم وخیالاتهم الباطلة.
ص:409
رکّز الإمام علیه السلام فی المقطع المذکور من الخطبة علی وقوفه بوجه البدع. والبدعة فی اللغة تعنی إیجاد الشیء دون تجربة أو مثال وهی ممدوحة حیناً ومذمومة حیناً آخر. فالقرآن یصف اللّه بالقول: «بَدِیعُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ»(1) ، کما یصف النبی الأکرم صلی الله علیه و آله: «قُلْ مَا کُنْتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ»(2) والمراد هو المفهوم المذکور. إلّاأنّ لهذه المفردة مفهوماً خاصاً فی لسان الروایات وکلمات الفقهاء وهو تغییر الأحکام الشرعیة وتبدیلها بأحکام طبق الرغبات النفسیة والمنافع الشخصیة. ومن هنا ورد الذم الشدید للبدعة فی الروایات، حیث قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله:
«اَهْلُ الْبِدَعِ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِیفَةِ»(3).
وقال أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:
«اَمَّا أَهْلُ الْبِدْعَةِ فَالْمُخَالِفُونَ لِأَمْرِاللّهِ وَلِکِتَابِهِ وَرَسُولِهِ الْعامِلُونَ بِرَأْیِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ وَإِنْ کَثُرُوا»(4) والروایات کثیرة بهذا الشأن والتی ذمّت بشدّة، البدعة والمبتدع. والسبب واضح، فکما ذکرنا سابقاً أنّ باب البدع لو فتح لما بقی من أحکام الدین وأصوله وفروعه شیءٌ ولمحق الدین. وعلی هذا الأساس قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله
:«مَنْ تَبَسَّمَ فِی وَجْهِ مُبْتَدِعٍ فَقَدْ أَعانَ عَلَی هَدْمِ دِینِهِ»(5).
ویتضح من هنا خطأ أولئک الذین خلطوا المعنی الواسع للبدعة بمعناها الخاص لیزعموا أنّ کل القضایا متجددة، فمن یسعه الوقوف بوجه التجدد؟ وأمّا أولئک فإنهم یرون تغییر الآراء الإجتهادیة وکشف المسائل المستحدثة من الکتاب والسُنّة ضرباً من البدعة، فإمّا أنّهم یخدعون أنفسهم أو أنّهم یریدون خداع الآخرین. فکشف
ص:410
المسائل المستحدثة من الکتاب والسُنّة تبعیة للشرعة لا بدعة بالمعنی الخاص للکلمة؛ أی، تحریم حلال اللّه وتحلیل حرمته استناداً لأهواء النفس والمنافع الشخصیة. جدیر بالذکر أنّ المبتدعین وخشیة اعتراض المؤمنین یلجأون إلی التغییر بالرأی، فیحرفون آیات القرآن الکریم أو روایات المعصومین علیهم السلام لیوردوا البدع.
وبالطبع فإنّ هؤلاء أعظم خطراً من الذین یمارسون البدعة علانیةً. علی کل حال، فقد قال الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة: إنّ المؤمن مَن یلتزم بحلال اللّه وحرامه ولا یغیرهما، ویعمل بالأحکام الشرعیة فی کل الأوقات ولا یحید عن الکتاب والسُنّة.
ص:411
ص:412
وَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ یَعِظْ أَحَداً بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ «حَبْلُ اللّهِ الْمَتِینُ»، وَسَبَبُهُ الْأَمِینُ، وَفِیهِ رَبِیعُ الْقَلْبِ، وَیَنَابِیعُ الْعِلْمِ، وَمَا لِلْقَلْبِ جِلَاءٌ غَیْرُهُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ الْمُتَذَکِّرُونَ، وَبَقِیَ النَّاسُونَ أَوِ الْمُتَنَاسُونَ. فَإِذَا رَأَیْتُمْ خَیْراً فَأَعِینُوا عَلَیْهِ، وَإِذَا رَأَیْتُمْ شَرّاً فَاذْهَبُوا عَنْهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - کَانَ یَقُولُ: «یَابْنَ آدَمَ، اعْمَلِ الْخَیْرَ وَدَعِ الشَّرَّ، فَإِذَا أَنْتَ جَوَادٌ قَاصِدٌ».
تطرق الإمام علیه السلام هنا ثانیة إلی القرآن وعظمته لیتم ما ذکره سابقاً فأشار إلی بعض الأمور الجدیدة فقال:
«وَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ یَعِظْ أَحَداً بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ». ذلک لأنّ الکتب السماویة التی أنزلها اللّه لهدایة الخلق تشتمل علی أعظم المواعظ.
ویمتاز القرآن من بین هذه الکتب بکونه الشمس المشرقة ومواعظه فریدة وإرشاداته قیّمة. فتارة یتحدث مباشرة للعباد، وأخری کسؤال یجیب عنه الوجدان، وأحیاناً یطرق التاریخ الماضی الملیء بالدروس والعبر، وأحیاناً أخری یتحدث من خلال المثال البلیغ ویلبس الحقائق العقلیة ثوب الحسّ، ویورد کل ذلک بعبارات تفیض رقة وعذوبة وبلاغة، ومن هنا فلیس هنالک من مواعظ کمواعظ القرآن.
ثم ذکر علیه السلام أدلة ذلک، فقال:
«فَإِنَّهُ «حَبْلُ اللّهِ الْمَتِینُ(1)»، وَسَبَبُهُ الْأَمِینُ، وَفِیهِ رَبِیعُ
ص:413
الْقَلْبِ، وَیَنَابِیعُ(1) الْعِلْمِ، وَمَا لِلْقَلْبِ جِلَاءٌ غَیْرُهُ». فقد أوجز الإمام علیه السلام بهذه العبارات الخمس ما یمکن قوله فی القرآن؛ الأول: أنّه حبل اللّه المتین وکأنّه سحب من السماء إلی الأرض لیتمسک به العباد، فیحلِّقون به إلی عنان السماء ویبلغون مقام القرب. وهذه هی العروة الوثقی التی أشار اللّه إلیها فی کتابه: «فَمَنْ یَکْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَیُؤْمِنْ بِاللّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَکَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَی لَاانفِصَامَ لَهَا». یعنی لا شک فیه أنّ الطریق إلی الإیمان باللّه والکفر بالطاغوت هو القرآن.
الثانی: أنّه السبب الأمین، أی، الواسطة بین الخلق والخالق والذی لا یعرف الزلل والخیانة وکل ما فیه حق خالص. والثالث: أنّ القرآن ربیع القلوب، فکما تدبّ الحیاة فی الربیع فی الأشجار المیتة وتتفتح غصونها وأوراقها، کذلک من ینفتح علی القرآن یشعر بحیویة روحه وحیاته بالإیمان والفضائل والأخلاق. الرابع: أنّ القرآن ینابیع العلوم، لیس فقط العلوم التی تتعلق بمعرفة اللّه وتربی فی الإنسان روح الفضیلة والورع والتقوی فحسب، بل القرآن دافع للخوض فی العلوم التی تعنی بخلق الإنسان والسماء والأرض وسائر الأحیاء والکائنات، وله إشاراته العمیقة المعنی فی کل هذه العلوم. وأشار فی الخامس إلی هذه الحقیقة وهی، أنّ جلاء القلوب مما یعلق بها من أدران الذنب والغفلة لا یتیسر إلّابنور القرآن الذی یزیل عنها الصدأ من خلال تلاوته وتدبّر آیاته. أمّا قصّر الجلاء علی القرآن فذلک لأنّ سائر الوسائل إنّما تستند فی الواقع إلی القرآن، فالقرآن مصدر کل شیء. ومن الطبیعی أن یکون الکتاب الذی یشتمل علی هذه الخصائص أفضل واعظ.
وأعرب الإمام علیه السلام عن أسفه لوضع المسلمین تجاه القرآن، فقال:
««مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ الْمُتَذَکِّرُونَ، وَبَقِیَ النَّاسُونَ أَوِ الْمُتَنَاسُونَ» هذه العبارة إجابة عن سؤال مقدّر فی أنّ الآثار العظیمة التی أُشیر إلیها بشأن القرآن إن انحسرت فی المجتمع الإسلامی فسبب ذلک لا یُعزی إلی القرآن، بل لغفلة الجهال والمنافقین أو تغافلهم
ص:414
عن هذا الفیض الإلهی. ولعل هذه العبارة تشبه تلک التی ذکرها الإمام علیه السلام فی الخطبة 182 حین أعرب عن أسفه علی شهادة صحبه الأوفیاء، فبکی، وقال:
«أَوِّهْ عَلَی إِخْوَانِی الَّذِینَ تَلَوا الْقُرْآنَ فَأَحْکَمُوهُ، وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ، أَحْیَوُا السُّنَّةَ وَأَمَاتُوا الْبِدْعَةَ».
فقد صنّف الإمام علیه السلام الناس إلی ثلاث فئات، فئة یقظة تنتفع دائماً بآیات اللّه، وأخری غارقة فی مادیات الدنیا نَسِیَت القرآن، وثالثة، عمدت إلی تناسی تعالیم القرآن، فهی تمرّ علیه بکل بساطة رغم معرفتها بأهدافه. طبعاً إن رأینا المجتمع الإسلامی یشکو المرض من عدّة جوانب، فذلک لیس لتقصیر الطبیب ولا عدم فائدة الوصفة الطبیة، بل السبب الحقیقی یکمن فی عدم الإلتزام بهذه الوصفة الإلهیة الشافیة.
ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه وکأنّه ردّ علی إشکال مَن یقول: إن کانت هناک فئة نَسِیَت طریق الحق أو تناست، فذلک لأنّ طریق الحق لیس معروفاً وقد امتزج بطرق الباطل، بحیث لا یبدو تشخیصه سهلاً، فقال:
«فَإِذَا رَأَیْتُمْ خَیْراً فَأَعِینُوا عَلَیْهِ، وَإِذَا رَأَیْتُمْ شَرّاً فَاذْهَبُوا عَنْهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللّهِ - صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ - کَانَ یَقُولُ: «یَابْنَ آدَمَ، اعْمَلِ الْخَیْرَ وَدَعِ الشَّرَّ، فَإِذَا أَنْتَ جَوَادٌ(1) قَاصِدٌ(2)» .یتّضح من العبارة أنّ للخیر والشرّ معانیَ واسعة، کما تشیر العبارة إلی الحسن والقبح العقلیین فی أنّ الإنسان یدرک بعقله وفکره الخیر والشر، وإن عمل به فقد طوی مسافة واسعة من الطریق القویم والجادة المستقیمة. وللوقوف علی عظمة القرآن وأهمیّة مضمونه، فقد أوردنا مباحث کثیرة فی الأجزاء السابقة (الجزء الأول، ذیل الخطبة 18، والجزء الرابع، ذیل الخطبة 110) وسنتطرق بإذن اللّه إلی مبحث مفصل بهذا الشأن فی شرح الخطبة 198.
ص:415
ص:416
أَلَا وَإِنَّ الظُّلْمَ ثَلَاثَةٌ: فَظُلْمٌ لَایُغْفَرُ، وَظُلْمٌ لَایُتْرَکُ، وَظُلْمٌ مَغْفُورٌ لَایُطْلَبُ.
فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِی لَایُغْفَرُ فَالشِّرْکُ بِاللّهِ، قَالَ اللّهُ تَعَالَی: «إِنَّ اللّهَ لَایَغْفِرُ أَنْ یُشْرَکَ بِهِ». وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِی یُغْفَرُ فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْهَنَاتِ.
وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِی لَایُتْرَکُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً. الْقِصَاصُ هُنَاکَ شَدِیدٌ. لَیْسَ هُوَ جَرْحاً بِالْمُدَی وَلَاضَرْباً بِالسِّیَاطِ، وَلکِنَّهُ مَا یُسْتَصْغَرُ ذلِکَ مَعَهُ. فَإِیَّاکُمْ وَالتَّلَوُّنَ فِی دِینِ اللّهِ، فَإِنَّ جَمَاعَةً فِیمَا تَکْرَهُونَ مِنَ الْحَقِّ، خَیْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ فِیمَا تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ. وَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ یُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَةٍ خَیْراً مِمَّنْ مَضَی، وَلَا مِمَّنْ بَقِیَ.
یَا أَیُّهَا النَّاسُ «طُوبی لِمَنْ شَغَلَهُ عَیْبُهُ عَنْ عُیُوبِ النَّاسِ»، وَطُوبی لِمَنْ لَزِمَ بَیْتَهُ، وَأَکَلَ قُوتَهُ، وَاشْتَغَلَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ، «وَبَکَی عَلَی خَطِیئَتِهِ» فَکَانَ مِنْ نَفْسِهِ فِی شُغُلٍ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِی رَاحَةٍ!
أشار الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة الذی یمثل ختامها إلی ثلاثة مواضیع مهمّة؛ أحدها، أقسام الظلم الثلاثة، والآخر، موضوع وحدة المسلمین وأهمیّتها، والثالث، التهذیب وإصلاح النفس بدلاً من تقصّی عیوب الآخرین، والأبحاث التی ذُکرت فی هذه الخطبة بشأن المسائل الأخلاقیة والنصائح الواردة بهذا الخصوص تکتمل بهذه المواضیع الثلاثة. فقد قال علیه السلام فی الموضوع الأول:
«أَلَا وَإِنَّ الظُّلْمَ
ص:417
ثَلَاثَةٌ: فَظُلْمٌ لَایُغْفَرُ، وَظُلْمٌ لَایُتْرَکُ، وَظُلْمٌ مَغْفُورٌ لَایُطْلَبُ».
ثم خاض علیه السلام فی شرح کل قسم، فقال:
«فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِی لَایُغْفَرُ فَالشِّرْکُ بِاللّهِ، قَالَ اللّهُ تَعَالَی : «إِنَّ اللّهَ لَایَغْفِرُ أَنْ یُشْرَکَ بِهِ»». طبعاً، بالتوجه إلی صدر الآیة وذیلها:
«وَیَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِکَ لِمَنْ یَشَاءُ»(1) یتبیّن لنا أنّ الذنب الوحید الذی لا یغفره اللّه، إن مات الإنسان ولم یتب منه، هو الشرک، أمّا سائر الذنوب، کبیرةً کانت أم صغیرةً إن مات الإنسان ولم یتب منها، فربّما یُشمل بالعفو الإلهی، وإن لم یکن ذلک قطعیاً وشموله بالعفو خاضع لبعض الشرائط، لأنّ العبارة
(من یشاء) لا تعنی العفو عن المذنبین دون حساب وکتاب، ذلک لأنّ اللّه حکیم وإرادته ومشیئته حکیمة، ولا یشمل بالعفو سوی من امتلک مقوماته، بالضبط علی غرار العفو عن السجناء والذی ینظر إلی حالة السجین، فإن رأی فیه الإستعداد شمل بالعفو، والمراد من الشرک هنا هو الشرک الجلیّ من قبیل عبادة الأوثان وما شابه ذلک، وأمّا الشرک الخفیّ
(کالریاء) فهو من قبیل الکبائر الداخلة فی ذیل الآیة المذکورة.
ثم خاض علیه السلام فی بیان القسم الثانی والثالث، فقال:
«وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِی یُغْفَرُ فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْهَنَاتِ(2). وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِی لَایُتْرَکُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً.
الْقِصَاصُ هُنَاکَ شَدِیدٌ. لَیْسَ هُوَ جَرْحاً بِالْمُدَی(3) وَلَاضَرْباً بِالسِّیَاطِ، وَلکِنَّهُ مَا یُسْتَصْغَرُ ذلِکَ مَعَهُ». فقد أشار الإمام علیه السلام فی العبارة الأُولی إلی الصغائر التی ذکر القرآن شرط عفوها بترک الکبائر: «إِنْ تَجْتَنِبُوا کَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُکَفِّرْ عَنْکُمْ سَیِّئَاتِکُمْ»(4). أو إشارة إلی الکبائر التی لها بعد حق اللّه ویستطیع الإنسان غسلها بماء التوبة والندم وتدارکها بالأعمال الصالحة، أمّا العبارة الثانیة التی تبیّن النوع الثالث
ص:418
للظلم، فهی إشارة إلی حق الناس الذی توعد الإسلام علیه أشد العقوبات، واللّه لا یغفره ما لم یتنازل صاحب الحق، وعلیه، فالتعبیر بالقصاص فی العبارة إشارة إلی العقاب، لا القصاص الإصطلاحی المعروف، ولذلک قال: لیس ذلک القصاص جرحاً بالسکین والخنجر ولا ضرباً السیاط، بل عقاب یهون کل ذلک معه: «نَارُ اللّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِی تَطَّلِعُ عَلَی الْأَفْئِدَةِ»(1).
ورد فی الروایة، عن الإمام الصادق علیه السلام:
«إنّ اللّهَ أَوحی إلی نَبِیٍّ مِنْ أَنبِیائِهِ فِی مملَکَةِ جَبّارٍ مِنَ الجَبَّابرینَ أَن ائتِ هذا الجَبَّارَ فَقُلْ لَهُ: إِنّنی لَمْ أَستَعمِلَک عَلی الدِّماءِ اتّخاذِ أموالِ، بَل استَعمَلتُک لِتَکُفَّ عَنِّی أَصواتَ المَظلُومِینَ، فإنّی لَمْ أدعْ ظَلامَتَهُم وَإنْ کَانُوا کُفّاراً»(2).
وورد عن الإمام الباقر علیه السلام:
«ما مِن أَحِدٍ یَظلِمُ بِمَظلَمَةٍ إلَّاأَخَذَهُ اللّهُ بِها فِی نَفْسِهِ وَمالِهِ وَمَّا الظُّلمَ الَّذی بَینَهُ وَبَینَ اللّه فإذا تابَ غَفَرَ اللّهُ لَهُ»(3).
ثم تطّرق الإمام علیه السلام إلی موضوع وحدة صفوف المسلمین، فقال:
«فَإِیَّاکُمْ وَالتَّلَوُّنَ فِی دِینِ اللّهِ، فَإِنَّ جَمَاعَةً فِیمَا تَکْرَهُونَ مِنَ الْحَقِّ، خَیْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ فِیمَا تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ. وَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ یُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَةٍ خَیْراً مِمَّنْ مَضَی، وَلَا مِمَّنْ بَقِیَ».
العبارة
«فَإِیَّاکُمْ وَالتَّلَوُّنَ فِی دِینِ اللّهِ...» إشارة إلی أنّ کل طائفة کانت تتخذ لها صیغة تمیز برنامجها من الآخرین، سواء فی المسائل العقائدیة أو العملیة، وهذا التلوّن یؤدّی إلی فرقة الصفوف وضیاع الطاقات وأحیاناً نشوب الحروب الأهلیة التی تهدد مصیر المجتمع ومنافعه. وکلما کان أفراد المجتمع - کما ورد فی عبارات الإمام علیه السلام المذکورة - یتحولون بالمرونة فی القضایا البسیطة، والصبر فی الأمور التی لا تنسجم مع رغباتهم، فإنّ الوحدة ستسود هذا المجتمع جانب الهدوء والأمن
ص:419
والإستقرار. وبالطبع، فإنّ اختلاف الصفوف والفرق طیلة التاریخ - کما ذکر الإمام علیه السلام - لم یجلب من خیر قط.
وأخیراً اختتم الإمام علیه السلام الخطبة بدعوة الجمیع إلی إصلاح الذات وترک البحث عن عیوب الآخرین، فقال:
«یَا أَیُّهَا النَّاسُ «طُوبی لِمَنْ شَغَلَهُ عَیْبُهُ عَنْ عُیُوبِ النَّاسِ»، وَطُوبی لِمَنْ لَزِمَ بَیْتَهُ، وَأَکَلَ قُوتَهُ، وَاشْتَغَلَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ، «وَبَکَی عَلَی خَطِیئَتِهِ». ثم خلص علیه السلام إلی هذه النتیجة:
«فَکَانَ مِنْ نَفْسِهِ فِی شُغُلٍ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِی رَاحَةٍ!» إشارة إلی أنّ کل انسان - سوی أولیاء اللّه والمعصومین علیهم السلام - ینطوی علی عیب، فإن إنهمک بعیوب الآخرین غفل عن إصلاح نفسه ولا یسعه بلوغ القرب الإلهی والتهذیب الخلقی والسیر إلی اللّه، أمّا إن اختلی بنفسه وانشغل بعیبه وشعر بالندم لما فرط منه وغسل أدران المعصیة بمیاه طاعة اللّه ولاسیّما بقطرة دمع صادقة، أنذاک سیتمکن من إصلاح تلک نفسه والعروج بها إلی ساحة القدس.
حثّ الإمام علیه السلام فی ختام الخطبة علی الإنزواء والإعتزال، الإعتزال الذی یعدّ مقدمة لتهذیب النفس والإبتعاد عن المفاسد الإجتماعیة، وذهب أغلب علماء الأخلاق إلی أنّ الإعتزال یعدّ أحد الشرائط اللازمة لتهذیب الأخلاق. ولو تأملنا آیات القرآن الکریم لرأینا مرحلة العزلة التی شهدها الأنبیاء العظام والصالحون فی حیاتهم. فقد قال إبراهیم الخلیل علیه السلام حین واجه المجتمع الضال والمتعصب - الذی کان یصر علی عبادة الأوثان - «وَأَعْتَزِلُکُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ وَأَدْعُواْ رَبِّی عَسَی أَلَّا أَکُونَ بِدُعَاءِ رَبِّی شَقِیّاً»(1).
وقد اعتزل موسی علیه السلام قومه أربعین یوماً لأخذ الألواح واتّجه إلی الطور، حیث
ص:420
وردت تفاصیل هذا الموضوع فی الآیة 142 من سورة الأعراف.
وکما ورد اعتزال مریم علیها السلام حیث أشارت إلیه الآیة 16 من سورة مریم، وکذلک ما ورد فی شأن أصحاب الکهف عندما عجزوا من مقارعة الوثنیین فاعتزلوهم إلی الکهف وأشار القرآن الکریم إلی ذلک حیث قال: «وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا یَعْبُدُونَ إِلَّا اللّهَ فَأْوُوا إِلَی الْکَهْفِ یَنشُرْ لَکُمْ رَبُّکُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَیُهَیِّئْ لَکُمْ مِنْ أَمْرِکُمْ مِرفَقاً»(1).
وإننا لنعلم جمیعاً باعتزال النبی صلی الله علیه و آله القوم حین کان یختلی فی الغار لأیّام بل أشهر قبل البعثة ویجدّ ویجتهد فی العبادة.
نعم، وردت عدّة روایات بهذا الشأن ومنها، أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال:
«الْعُزْلَةُ عِبَادَةٌ»(2).
وقال أمیرالمؤمنین علی علیه السلام:
«اَلْعُزْلَةُ أَفْضَلُ شِیَمِ الْأَکْیَاسِ»(3).
وقال علیه السلام أیضاً:
«فِی اعْتِزَالِ ابْناءِ الدُّنْیَا جِمَاعُ الصَّلاَحِ»(4). والحال هنالک بعض الروایات أکدت علی الجماعة، فقد روی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:
«أَیُّهَا النَّاسُ عَلَیْکُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِیَّاکُمْ وَالْفُرْقَةِ»(5).
وورد مثل هذا المضمون عن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام قال:
«وَاَلْزَمُوا السَّوادَ الْأَعْظَمَ فَإِنَّ یَدَ اللّهِ عَلَی الْجَمَاعَةِ وَإِیَّاکُمْ وَالْفُرْقَةِ فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّیْطَانِ کَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ»(6).
فالأحادیث فی الموضوعین کثیرة، ویتصور أحیاناً تعارضها مع بعضها، والحال، صرحت ذات الروایات بکیفیة الجمع بینها. فالذی یفهم من النصوص القرآنیة
ص:421
والروائیة أنّ العزلة تتمّ علی ضوء بعض الشرائط الإجتماعیة الخاصة، والواقع أنّها استثناء إزاء حکم کلّی بالاجتماع، وقد ورد الحثّ علی العزلة فی الأمور التالیة:
1. الإبتعاد عن طلاب الدنیا والتی صرّحت به الأحادیث المذکورة.
2. الإبتعاد عن المجتمع الفاسد والمنحرف، کما ورد ذلک فی قصّة إبراهیم وأصحاب الکهف، وقد سئل الصادق علیه السلام عن سبب اعتزاله، فقال:
«فَسَدَ الزَّمَانُ وَتَغَیَّرَ الْإِخْوَانُ فَرَأَیْتَ الْإِنْفِرادَ أَسْکَنُ لِلْفُؤادِ»(1).
3. حین تکون العزلة بهدف التفکیر والتهذیب وإصلاح النفس، کالذی کان علیه رسول اللّه صلی الله علیه و آله قبل البعثة وتفرغه للعبادة فی غار حراء. ولا شک أنّ الإنسان إذا أفرد بعض الوقت من یومه ولیلته للتفکیر فی نفسه ومجتمعه کان لذلک آثاره الطیبة والنافعة.
4. الإبتعاد عن الأشرار - الذین یشکلون جزءاً من المجتمع - فقد. ورد الحثّ علی الإعتزال عن هؤلاء، وقد روی عن أمیر المؤمنین علی علیه السلام أنّه قال:
«مَنِ اعْتَزَلَ النَّاسَ سَلِمَ مِنْ شَرِّهِمْ»(2). وإلّا لیس هنالک من یسعه التنکر للجماعة التی حظیت باهتمام واسع من أحکام الشریعة السمحاء. والإبتعاد التام عن المجتمع یعنی الإبتعاد عن التجارب والعلوم والمعارف وطاقات أفراد المجتمع، أضف إلی ذلک فإنّ العزلة علی ضوء ما أثبتته التجربة قد تدفع بالإنسان إلی العجب والفخر وإساءة الظن بالآخرین، إلی جانب بعض الإدّعاءات الباطلة والفاسدة.
ص:422
فِی مَعْنی الحَکَمَیْنِ(1)
کما ورد فی سند الخطبة فقد خاطب الإمام علیه السلام الخوارج الذین ضغطوا بادیء الأمر علی الإمام علیه السلام فی قبول التحکیم فاضطر إلی الموافقة رغم ممانعته للحیلولة دون الإنقسام فی صفوف أتباعه ووقوع الحرب الأهلیة، ولکن ما إن ظهرت نتیجة التحکیم السلبیة أثر خیانة ممثله فی تحکیم أبی موسی الأشعری وخداعه من قبل عمرو بن العاص ممثل معاویة حتی اعترضوا علی الإمام علیه السلام فی قبوله التحکیم. فرد علیهم الإمام علیه السلام بذلک الردّ الحاسم فی أنّکم أنتم الذین أثرتم هذه الفتنة وقد حذّرتکم فلم ترعووا، والآن حیث ترون سوء اختیارکم تعترضون! أضف إلی ذلک أنّ التحکیم کان مشروطاً لا مطلقاً، وشرطه عدم الإنحراف عن القرآن ولکنّهم انحرفوا، وعلیه فینبغی الاعتراض علیهم لا علیَّ.
ص:423
ص:424
فَأَجْمَعَ رَأْیُ مَلَئِکُمْ عَلَی أَنِ اخْتَارُوا رَجُلَیْنِ، فَأَخَذْنَا عَلَیْهِمَا أَنْ یُجَعْجِعَا عِنْدَ الْقُرْآنِ، وَلَا یُجَاوِزَاهُ، وَتَکُونَ أَلْسِنَتُهُما مَعَهُ وَقُلُوبُهُمَا تَبَعَهُ، فَتَاهَا عَنْهُ، وَتَرَکَا الْحَقَّ وَهُمَا یُبْصِرَانِهِ، وَکَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا، وَالْإِعْوِجَاجُ رَأْیَهُمَا. وَقَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَیْهِمَا فِی الْحُکْمِ بِالْعَدْلِ وَالْعَمَلِ بِالْحَقِّ سُوءَ رَأْیِهِمَا وَجَوْرَ حُکْمِهِمَا. وَالثِّقَةُ فِی أَیْدِینَا لِأَنْفُسِنَا، حِینَ خَالَفَا سَبِیلَ الْحَقِّ، وَأَتَیَا بِمَا لَا یُعْرَفُ مِنْ مَعْکُوسِ الْحُکْمِ.
فصّلنا الکلام بشأن الحکمین فی الخطب السابقة ولا سیما الخطبة 125 و 127 وخلاصته، أنّه لما أوشک جیش الشام علی الهزیمة، لجأ عمروبن العاص إلی خدعة، فأمر برفع المصاحف علی أسنّة الرماح وقولوا: بینا وبینکم القرآن، فما حکم به القرآن رضینا به. أمیر المؤمنین علیه السلام حذّرهم من أنّها خدعة وأنّ هؤلاء القوم لا یتبعون القرآن فامضوا فی القتال، إلّاأنّ بعض الجهال والمغرضین رفضوا وضغطوا علی الإمام علیه السلام فی قبول الإحتکام إلی القرآن. لم یستجب لهم الإمام علیه السلام، فأصروا علیه بعد أن اختلفوا، فلم یر الإمام علیه السلام بدّاً من القبول. ثم أصّر هؤلاء القوم علی اختیار أبی موسی الأشعری. الإمام علیه السلام الذی کان یعلم بحماقة هذا الرجل وضعف إیمانه، أشار إلیهم بابن عباس الرجل العاقل العالم المعروف والذی لا یخدع بألاعیب عمرو بن العاص، لکنّهم رفضوا وأصروا علی اختیار ابی موسی، وهنا
ص:425
اضطر الإمام علیه السلام ودفعاً للفرقة والانقسام، إلی القبول بعدّة شروط، منها، عدم خروج الحکمین عن الحق والعدل. استغرقت المحادثات بین عمرو بن العاص وأبی موسی الأشعری، شهوراً عدیدة حتی قال ابن العاص: لیخلع کلٌّ منّا صاحبه حتی یختار الناس خلیفة. فأعلن أبو موسی هذا الجاهل والأحمق - عن خلعه للإمام علی علیه السلام من الخلافة، ثم انبری ابن العاص لیعلن نصبه لمعاویة. فشبّ النزاع بین القوم، وقدم أولئک الذین أصرّوا علی وقف القتال وقبول التحکیم واختیار الأشعری علی الإمام علیه السلام واعترضوا علیه، لم قبلت التحکیم؟ قال الإمام علی علیه السلام:
«فَأَجْمَعَ رَأْیُ مَلَئِکُمْ(1) عَلَی أَنِ اخْتَارُوا رَجُلَیْنِ، فَأَخَذْنَا عَلَیْهِمَا أَنْ یُجَعْجِعَا(2) عِنْدَ الْقُرْآنِ، وَلَا یُجَاوِزَاهُ، وَتَکُونَ أَلْسِنَتُهُما مَعَهُ وَقُلُوبُهُمَا تَبَعَهُ». فالإمام علیه السلام یشیر إلی أنّ قبول التحکیم وإن حصل بفعل الضغط إلّاأنّه کان مشروطاً لا مطلقاً دون قیود وشروط بحیث یفعلون ما یشاؤون حسبما تملیه علیهم أهواؤهم ورغباتهم وینبغی أن یقبله الآخرون. فالشرط کان تبعیة القرآن وعدم الإنحراف عن تعالیمه، إلّاأنّ الشیء الوحید الذی غُیِّب فی العملیة، إنّما کان القرآن، فانطلق الأشعری الأحمق لیتصرف خلاف منطق الحق والعدل القرآنی.
ومن هنا قال الإمام علیه السلام مواصلاً کلامه:
«فَتَاهَا(3) عَنْهُ، وَتَرَکَا الْحَقَّ وَهُمَا یُبْصِرَانِهِ، وَکَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا، وَالْإِعْوِجَاجُ رَأْیَهُمَا». ثمّ أکد الإمام علیه السلام علی شروط التحکیم، فقال:
«وَقَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَیْهِمَا فِی الْحُکْمِ بِالْعَدْلِ وَالْعَمَلِ بِالْحَقِّ سُوءَ رَأْیِهِمَا وَجَوْرَ حُکْمِهِمَا».
فهل فی القرآن الکریم آیة تصرّح بضرورة خلع شخص کعلی علیه السلام الذی بنی صرح الإسلام بجهاده وتربی فی حجر رسول اللّه صلی الله علیه و آله والقرآن، وکان مظهر الحق
ص:426
والعدل من الخلافة، أم هل هناک من آیة تصرّح باستخلاف سلیل الجاهلیة والکفر والظلم والجور الذی لا یخفی مکره وخداعه علی أحد، وقد استقطب حوله کل المنافقین والشیاطین؟
ثم خلص علیه السلام إلی هذه النتیجة:
«وَالثِّقَةُ فِی أَیْدِینَا لِأَنْفُسِنَا، حِینَ خَالَفَا سَبِیلَ الْحَقِّ، وَأَتَیَا بِمَا لَایُعْرَفُ مِنْ مَعْکُوسِ الْحُکْمِ». وهکذا یردّ بحسم علی المعترضین:
أولاً، إنّ قبول التحکیم کان من قبلکم، ثانیاً، إنّ هؤلاء لم یطلق لهم العنان فی التحکیم، بل کانوا مأمورین باتّباع القرآن والإنصیاع لأحکامه لا الإنصیاع لأهوائهم. وماداموا لم یلتزموا بالشروط فلا اعتبار لحکمهم، الغریب فی الأمر أنّ الحکمین نفسیهما لم یتفقا فی الحکم وسعی کل منهما لخداع الآخر ولیضعه أمام حقیقة لا نقاش فیها، بینما یشترط فی التحکیم اتفاق الحکمین علی الشروط المطروحة فی التحکیم؟
صرّح الإمام فی هذه الخطبة بتجاهل الحکمین للقرآن ومخالفة الحق وهما یبصرانه وقدّموا أهواءَهما علی الحقیقة وکان ذلک واضحاً، ولو أنّهما فکّرا قلیلاً فی مختلف الآیات القرآنیة الواردة بحق علی علیه السلام أو تلک التی تبیّن أصلاً کلیاً، والذی یمثل الإمام علی علیه السلام نموذجه البارز طبق روایات رسول اللّه صلی الله علیه و آله لما ترددّا لحظة فی ترجیحه علی شخصٍ کمعاویة بن أبی سفیان أعدی أعداء رسول اللّه صلی الله علیه و آله. فقد صرّح القرآن قائلاً: «إِنَّمَا وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلَاةَ وَیُؤْتُونَ الزَّکَاةَ وَهُمْ رَاکِعُونَ»(1) وهل کان غیر الإمام علی علیه السلام من تصدق بخاتمه حین رکوعه ونزلت هذه الآیة بحقّه؟ وقد روی هذا، عشرة من کبار الصحابة مثل ابن عباس
ص:427
وعمّار بن یاسر وجابر بن عبد اللّه الأنصاری وأبوذر الغفاری وأنس بن مالک وعبد اللّه بن سلام ومسلمة بن کهیل وعبداللّه بن غالب وعقبة بن حکیم وعبداللّه بن أبی، وذکر شرحه فی التفاسیر العامة.
وهل یساوی شخص بمن نام فی فراش النبی صلی الله علیه و آله لیلة المبیت(1) وفداه بنفسه فنزلت بحقه الآیة الشریفة: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ یَشْرِی نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللّهِ وَاللّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ»(2) وهل یتقدم علیه شخص وهو الذی عدّه القرآن الکریم خیر البریة ] بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله [ فقال: «إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِکَ هُمْ خَیْرُ الْبَرِیَّةِ»(3). لما نزلت هذه الآیة قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله:
«أَنْتَ وَشِیعَتُکَ یا علیّ خَیرُ البَرِیَّةِ»(4).
وهل ینبغی الإستغراق لشهورٌ، لکی تعلم الأُمّة الإسلامیة أیّها أفضل علیٌّ أم معاویة؟ حقّاً إنّها مقارنة عجیبة وجفاء کبیر لأمیرالمؤمنین الإمام علی علیه السلام فی أن یُقرَن بمعاویة ویعلم فضله، أین هذا من ذاک وأین الثری من الثرّیا؟!
ص:428
فِی الشَّهَادَةِ وَالتَّقْوی
وَقِیلَ إنَّهُ خَطَبَها بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ فِی أوَّلِ خِلافَتِهِ(1)
أشار الإمام علی علیه السلام بادیء الخطبة إلی صفات اللّه، ومنها، علمه المطلق سبحانه بجمیع الأشیاء حتی أصغرها حجماً - کعدد قطرات المطر وذرّات التراب - لیعلم الناس أنّ أعمالهم محفوظة عند اللّه ولا یخفی علیه شیء من أسرارهم.
ثم شهد فی القسم الثانی، للّه تعالی بالوحدانیة ولرسوله الأکرم صلی الله علیه و آله بالنبوّة، وقرن کل بصفاته لیکشف عن عمق تلک الشهادة.
أمّا القسم الثالث، فقد تحدّث فیه عن خداع الدنیا ووعودها الکاذبة التی تمنی بها من تعلق بزخرفها.
وأخیراً حذّر الجمیع من أنّ الذنوب سبب زوال النعم، وأنّ أیّاً من الأُمم لم تعشِ
ص:429
البؤس والشقاء إلّالارتکابها الذنوب والمعاصی، ومن هنا فقد دعی الجمیع لإعادة النظر فی أعمالهم وتصرفاتهم فیهبّوا لإصلاحها بغیة السعادة والفلاح.
ص:430
لَا یَشْغَلُهُ شَأْنٌ، وَلَا یُغَیِّرُهُ زَمَانٌ، وَلَا یَحْوِیهِ مَکَانٌ، وَلَا یَصِفُهُ لِسَانٌ، وَلَا یَعْزُبُ عَنْهُ عَدَدُ قَطْرِ الْمَاءِ وَلَا نُجُومِ السَّمَاءِ، وَلَا سَوَافِی الرِّیحِ فِی الْهَوَاءِ، وَلَا دَبِیبُ النَّمْلِ عَلَی الصَّفَا، وَلَا مَقِیلُ الذَّرِّ فِی اللَّیْلَةِ الظَّلْمَاءِ. یَعْلَمُ مَسَاقِطَ الْأَوْرَاقِ، وَخَفِیَّ طَرْفِ الْأَحْدَاقِ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَاإِلهَ إِلَّا اللّهُ غَیْرَ مَعْدُولٍ بِهِ، وَلَا مَشْکُوکٍ فِیهِ، وَلَا مَکْفُورٍ دِینُهُ، وَلَا مَجْحُودٍ تَکْوِینُهُ، شَهَادَةَ مَنْ صَدَقَتْ نِیَّتُهُ، وَصَفَتْ دِخْلَتُهُ وَخَلَصَ یَقِینُهُ، وَثَقُلَتْ مَوَازِینُهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمُجْتَبَی مِنْ خَلَائِقِهِ، وَالْمُعْتَامُ لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ، وَالْمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ کَرَامَاتِهِ وَالْمُصْطَفَی لِکَرَائِمِ رِسَالَاتِهِ، وَالْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرَاطُ الْهُدَی، وَالْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِیبُ الْعَمَی.
کما أشرنا سابقاً استهل الإمام علیه السلام خطبته خمس صفات من صفات اللّه الجمالیة والجلالیة بعبارات قصیرة وعمیقة المعنی فقال:
«لَا یَشْغَلُهُ شَأْنٌ، وَلَا یُغَیِّرُهُ زَمَانٌ، وَلَا یَحْوِیهِ(1) مَکَانٌ، وَلَا یَصِفُهُ لِسَانٌ». هذه الصفات تنبع من ذاته القدسیة المطلقة. فالفرد المحدود العلم والقدرة إن خاض فی شیء واستعان بعلمه وقدرته، فمن الطبیعی إلّا یسعه التعامل مع عمل آخر، أمّا الذات المقدّسة فهی تدبر عالم الوجود برمته فی لحظة واحدة، یسمع سبحانه استغاثة العباد ویعلم بحاجاتهم، وحیث کانت ذاته غنیة
ص:431
عن الحدود وجامعة للکمالات کافة فلیس من سبیل لتغییر تلک الذات، کما أنّ المکان من لوازم محدود الوجود، فتلک الذات المطلقة عن الحدود حاضرة فی کل مکان، وفی نفس الوقت هی لیست بحاجة إلی مکان. أضف إلی ذلک فإنّ صفات اللّه خارجة عن نطاق وصفنا، فنحن محدودون، والذات وصفاتها لیست محدودة، ولیست لنا من قدرة للحدیث عن کمالات اللّه وإن طال بنا الحدیث فإننا نعود من حیث ابتدأنا، شئنا أم أبینا. نعم، له وحده وصف ذاته وکمالاته کما ورد فی الحدیث:
«لَا أَبْلُغُ مَدْحَکَ وَالثَّنَاءَ عَلَیْکَ أَنْتَ کَمَا اثْنَیْتَ عَلَی نَفْسِکَ»(1).
ثم خاض فی الصفة الخامسة وهی علمه المطلق حیث رکّز علی سبعة مواضیع خفیة تماماً عن الآخرین، فقال:
«وَلَا یَعْزُبُ(2) عَنْهُ عَدَدُ قَطْرِ الْمَاءِ وَلَا نُجُومِ السَّمَاءِ، وَلَا سَوَافِی(3) الرِّیحِ فِی الْهَوَاءِ، وَلَا دَبِیبُ(4) النَّمْلِ عَلَی الصَّفَا(5) ، وَلَا مَقِیلُ(6) الذَّرِّ(7) فِی اللَّیْلَةِ الظَّلْمَاءِ. یَعْلَمُ مَسَاقِطَ الْأَوْرَاقِ، وَخَفِیَّ طَرْفِ(8) الْأَحْدَاقِ».
فالعبارة
«عَدَدُ قَطْرِ الْمَاءِ» تشیر إلی قطرات المطر وقطرات ماء البحار والأنهار والآبار والینابیع التی لا یعلمها إلّااللّه، کما یعلم عدد نجوم السماء التی یقول العلماء الیوم أنّ مجرتنا فقط تحتوی علی 200 ملیار نجمة، لکن ما عدد النجوم فی سائر المجرات التی لا تعد ولا تحصی؟ لا یعلم ذلک إلّااللّه. والأدهی من ذلک، ذرات الغبار التی ترتفع فی کل آن فی أمواج الریاح فی کرتنا الأرضیة وتنتقل من موضع إلی آخر ولا یعلم بها إلّااللّه. ذهب البعض إلی أنّ المراد من دبیب النمل، الأصوات
ص:432
التی تصدر عن وقع أقدام النمل علی الحجر، والذی یصعب إدراکها بأیّة وسیلة متطورة، إلّاأنّ اللّه عالم بکل ذلک، کما یعلم بمخادعها، والمراد، جمیع النمل فی نقاط العالم کافة.
وتشیر العبارة
«یَعْلَمُ مَسَاقِطَ الْأَوْرَاقِ» إلی موضع سقوطها فی أنحاء الکرة الأرضیة کافة حیث یسقط فی کل لحظة ما لا یعدّ ولا یحصی من الأوراق فی البساتین والحدائق وأعالی الجبال وأعماق الودیان ولا یعلم ذلک إلّااللّه، کما یعلم عدد أطباق أجفان عیون الناس والحیوانات وکل ذی عینین. أجل، لا یخفی علیه شیء من الکلیات ولا الجزئیات فی عالم الوجود بأسره، وکفی الإنسان تربیة وأدباً، إیمانه بهذا الإله، کفاه أن یعلم أنّ العالم حاضر بأسره لدی اللّه وهو علیم بظاهرنا وباطننا، ومن هنا ورد فی القرآن «وَلَوْ أَنَّمَا فِی الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ یَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ کَلِمَاتُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ»(1). ثم شهد للّه بالوحدانیة، فلیس سوی اللّه تعالی أهلٌ للعبودیة:
«وَأَشْهَدُ أَنْ لَاإِلهَ إِلَّا اللّهُ غَیْرَ مَعْدُولٍ(2) بِهِ، وَلَا مَشْکُوکٍ فِیهِ، وَلَا مَکْفُورٍ دِینُهُ، وَلَا مَجْحُودٍ تَکْوِینُهُ». وهکذا ینفی الإمام علیه السلام کلّ أنواع الشرک والشک والکفر بالآیات التکوینیة والتشریعیة، بعبارة أخری ینفی کل شبیه وشریک للّه ثم یخوض فی الشک فی ذاته المقدّسة وأفعاله التشریعیة والتکوینیة ویقول: لیس من سبیل للشک فی دینه ولا فی خالقیته وربوبیته فی عالم التکوین، ثم قال:
«شَهَادَةَ مَنْ صَدَقَتْ نِیَّتُهُ، وَصَفَتْ(3) دِخْلَتُهُ(4) وَخَلَصَ یَقِینُهُ، وَثَقُلَتْ مَوَازِینُهُ».
إشارة إلی أنّ هذه الشهادة لذات الحق وصفاته شهادة من اتصف بهذه الصفات الأربع: صدق نیّته وطهارة قلبه من الشرک والریاء وبعد یقینه عن الریبة والشک
ص:433
وتکشف أعماله عن عمق إیمانه باللّه، وهی لیست کشهادة المنافق أو الطامع بالمال والجاه، ولا ذلک الذی خلط إیمانه بالشک، ولا ذلک الذی یتحدث عن الإیمان ولا یبادر العمل الصالح.
ثم أردف شهادته للّه بالوحدانیة بالشهادة لمحمد صلی الله علیه و آله بالرسالة ونعته بست صفات، فقال:
«وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمُجْتَبَی مِنْ خَلَائِقِهِ، وَالْمُعْتَامُ(1) لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ، وَالْمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ(2) کَرَامَاتِهِ وَالْمُصْطَفَی لِکَرَائِمِ رِسَالَاتِهِ، وَالْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرَاطُ الْهُدَی، وَالْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِیبُ(3) الْعَمَی».
الصفة الأُولی، التی ورد الحدیث فیها عن صفته التی سببت اختیاره للرسالة.
والصفة الثانیة، وظیفته فی شرح حقائق الدین والعقائد الصحیحة. وتطرق فی الصفة الثالثة، إلی مکارم خلقه، والصفة الرابعة، فی وظیفته المهمّة فی بیان الأحکام، والصفة الخامسة، هدایته صلی الله علیه و آله عن طریق قوله وفعله وإمضائه العملی. وتحدث فی الصفة السادسة، عن جهوده فی محاربة الجهل والذی عبّر عنه بالعمی. وتشیر هذه الصفات إلی أنی لم أشهد اعتباطاً بنبوته وأنقاد لإمامته.
کما ورد فی کلمات الإمام علیه السلام العمیقة المعنی فإنّ الذات القدسیة تتجاوز الحدود والزمان والمکان ولها إحاطة علمیة تامة بکل شیء فی عالم الوجود. نعم، فالعالم بأسره حاضر عند اللّه وله حضور فی کل مکان دون أن یضمه مکان. وإنّ صفاته الجمالیة والجلالیة وإن منحتنا معرفة عمیقة، إلّاأنّه لابدّ من الإعتراف بأنّه خارج
ص:434
عن وصفنا. أحیاناً تبدو تعبیراتنا بشأن الذات لغز ونوع من التناقض، إلّاأنّ حلّ هذا اللغز یمکن فی الإلتفات إلی نقطة وهی أنّ وجوده مطلق ولا متناهٍ من جمیع الجهات، فلیس له من بدایة ولا نهایة ولا حد محدود. وإن تصور هذا الموجود للانسان المحدود من جمیع الجهات یبدو مستصعباً، ولکن علی کل حال لا تحل قضیة الصفات الإلهیة دون الإلتفات إلی ذلک الأمر. فإن قلنا إنّه عالم بکل شیء حتی بذرات الغبار التی تتعلق بالهواء، فذلک لأنّه حاضر فی کل مکان، وقولنا إنّه حاضر فی کل مکان بمعنی أنّ وجوده غنی عن الحدود ومحیط بکل شیء. وإن قلنا لیس له مکن زمان أو مکان، ذلک لأنّ الزمان یأتی من الحرکة والمکان بواسطة محدودیة الإنسان، ولیس للوجود المطلق من حرکة نحو النقص أو الکمال، وحیث هو غنی عن کل شیء فلا حاجة به إلی مکان. وخلاصة الکلام إذا أردنا معرفة اللّه فإنّ علینا أن ننفی جمیع صفات المخلوقات التی تنبع من الحاجة والمحدودیة عن تلک الذات المقدّسة.
تضمنت آیات القرآن الکریم والروایات وخاصة نهج البلاغة، الکثیر من الکلمات بشأن هدف بعث الأنبیاء ولا سیما نبی الإسلام صلی الله علیه و آله، ومن ذلک، العبارات العمیقة التی أوردها الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة. فقد بین الإمام علیه السلام أنّ أحد أهداف رسالة النبی صلی الله علیه و آله شرح الحقائق والتی یمکن أن یراد منها کل حقیقة أو حقائق مرتبطة بالمبدأ والمعاد وأصول العقائد، إلی جانب بیان القیم الخلقیة کما روی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال:
«إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَکَارِمَ الْأَخْلَاقِ»(1).
والهدف الآخر، بیان الرسالات السماویة فی الأحکام الدینیة وکشف علامات الهدایة وأخیراً طرح حجب الجهل والعمی عن قلوب الناس وأبصارها. فهو معلم عظیم ومربٍّ ربّانی ومرشد خبیر.
ص:435
ص:436
أَیُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الدُّنْیَا تَغُرُّ الْمُؤَمِّلَ لَهَا وَالْمُخْلِدَ إِلَیْهَا، وَلَا تَنْفَسُ بِمَنْ نَافَسَ فِیهَا، وَتَغْلِبُ مَنْ غَلَبَ عَلَیْهَا. وَایْمُ اللّهِ، مَا کَانَ قَوْمٌ قَطُّ فِی غَضِّ نِعْمَةٍ مِنْ عَیْشٍ فَزَالَ عَنْهُمْ إِلَّا بِذُنُوبٍ اجْتَرَحُوهَا، لِأَنَّ «اللّهَ لَیْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِیدِ».
وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ حِینَ تَنْزِلُ بِهِمُ النِّقَمُ، وَتَزُولُ عَنْهُمُ النِّعَمُ، فَزِعُوا إِلَی رَبِّهِمْ بِصِدْقٍ مِنْ نِیَّاتِهمْ، وَوَلَهٍ مِنْ قُلُوبِهمْ، لَرَدَّ عَلَیْهِمْ کُلَّ شَارِدٍ، وَأَصْلَحَ لَهُمْ کُلَّ فَاسِدِ. وَإِنِّی لَأَخْشَی عَلَیْکُمْ أَنْ تَکُونُوا فِی فَتْرَةِ. وَقَدْ کَانَتْ أُمُورٌ مَضَتْ مِلْتُمْ فِیهَا مَیْلَةً، کُنْتُمْ فِیهَا عِنْدِی غَیْرَ مَحْمُودِینَ، وَلَئِنْ رُدَّ عَلَیْکُمْ أَمْرُکُمْ إِنَّکُمْ لَسُعَدَاءُ. وَمَا عَلَیَّ إِلَّا الْجُهْدُ، وَلَوْ أَشَاءُ أَنْ اقُولَ لَقُلْتُ: عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَفَ!
خاطب الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة الناس کافة وذکرهم بأربع نقاط مهمّة، لها بالغ الأثر فی حیاة الناس، فقال فی النقطة الأُولی:
«أَیُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الدُّنْیَا تَغُرُّ الْمُؤَمِّلَ لَهَا وَالْمُخْلِدَ(1) إِلَیْهَا، وَلَا تَنْفَسُ(2) بِمَنْ نَافَسَ فِیهَا، وَتَغْلِبُ مَنْ غَلَبَ عَلَیْهَا». لما کان حبّ الدنیا کما ورد فی الحدیث رأس کل خطیئة فقد شرع الإمام علیه السلام بحبّ الدنیا. الجدیر بالذکر أنّه لم یرد ذم لمن حصل علی الدنیا بل علی
ص:437
أولئک الذین یتهافتون علی الدنیا ویتعلقون بزخارفها. وقد تغر زخارف الدنیا أولئک المتکالبین علیها حتی یظنون بأنّ کل شیء خالد فیها، إلّاأنّهم یرون فجاة زوال کل شیء بفعل حادثة ألیمة، علی سبیل المثال، فإنّ زلزلة لا تستغرق بضع ثوان تضرب المدینة فتقضی علی ما فیها ومن فیها، نعم ربّما یفیق لمدّة وسرعان ما یعود إلی سبات الغفلة.
ثم أشار إلی النقطة الثانیة فقال کقاعدة کلیة:
«وَایْمُ اللّهِ، مَا کَانَ قَوْمٌ قَطُّ فِی غَضِّ(1) نِعْمَةٍ مِنْ عَیْشٍ فَزَالَ عَنْهُمْ إِلَّا بِذُنُوبٍ اجْتَرَحُوهَا(2) ، لِأَنَّ «اللّهَ لَیْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِیدِ»». والواقع أنّ هذه العبارة اقتباس من الآیة الشریفة: «إِنَّ اللّهَ لَایُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّی یُغَیِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ»(3) والآیة: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَی آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَیْهِمْ بَرَکَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَکِنْ کَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا کَانُوا یَکْسِبُونَ»(4). طبعاً، نعم اللّه تقسّم علی العباد حسب استعدادهم وأهلیتهم، ومن هنا یستحقها الصالحون الطاهرون لا الآثمون الملوثون.
سؤال: ورد فی بعض الروایات أنّ اللّه یبتلی أولیاءه بأنواع البلاء کما جاء فی الخبر «البلاء للولاء»(5) لرفع مقام أولیائه، کما یستفاد من بعض الروایات أنّ البلاء قد یکون امتحاناً للمؤمن وأخری تحذیراً وایقاظاً للعباد، أفلا یتنافی هذا وما ورد فی عبارة الإمام؟
الجواب: ما ورد فی کلام الإمام علیه السلام قانون کلّی ونعلم أنّ لکل قاعدة شواذ، فموارد الامتحان والإیقاظ وأمثال ذلک استثناءات من تلک القاعدة الکلیة والقانون
ص:438
العام، وبعبارة أخری، عبارة الإمام علیه السلام تحمل علی الغالب وهذا شبیه ما ورد فی القرآن: «وَمَا أَصَابَکُمْ مِّنْ مُّصِیبَةٍ فَبِمَا کَسَبَتْ أَیْدِیکُمْ وَیَعْفُو عَنْ کَثِیرٍ»(1) قطعاً، لیس هناک من منافاة بین هذه الآیة، والآیة: «وَلَنَبْلُوَنَّکُمْ بِشَیْءٍ مِنَ الْخَوْفِ...»(2) التی تتحدث عن مختلف الإمتحانات الإلهیة بواسطة البلاء، وکذلک الآیة: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِی الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا کَسَبَتْ أَیْدِی النَّاسِ لِیُذِیقَهُمْ بَعْضَ الَّذِی عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ»(3) ولعل الإنسان إذا تأمل قلیلاً لأمکنه التعرف علی الموارد التی یکون البلاء فیها جانب العقاب والجزاء أو الامتحان والتحمیص والتحذیر. فإن بدرت منه معصیة أو قارف المجتمع أنواع الفساد وأصابته بعض الحوادث المریرة فإنّ ذلک عقاباً؛ أمّا الحوادث المریرة التی تطیل الصالحین فهی تمحیص یهدف إلی رفع مقامهم.
ثم خلص الإمام علیه السلام إلی نتیجة فقال:
«وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ حِینَ تَنْزِلُ بِهِمُ النِّقَمُ، وَتَزُولُ عَنْهُمُ النِّعَمُ، فَزِعُوا إِلَی رَبِّهِمْ بِصِدْقٍ مِنْ نِیَّاتِهمْ، وَوَلَهٍ(4) مِنْ قُلُوبِهمْ، لَرَدَّ عَلَیْهِمْ کُلَّ شَارِدٍ(5) ، وَأَصْلَحَ لَهُمْ کُلَّ فَاسِدِ». عادة ما یعمد هذا الطبیب الربانی الماهر إلی وصف العلاج بعد ذکر المرض، ویعلم الناس سبیل دفع المکروه والبلاء، ویری أنّ الدعاء إن کان صادقاً وخارجاً من أعماق القلب بمعنی تحدث حالة من التغییر لدی الإنسان فإنّه یدفع البلاء کما ورد ذلک فی العدید من الروایات، ومنها ما روی عن الإمام السجاد علیه السلام أنّه قال:
«اَلدُّعاءُ یَدْفَعُ الْبَلاءَ النَّازِلِ وَمَا لَمْ یَنْزِلْ»(6).
ثم أشار إلی النقطة الرابعة التی بینها سابقاً علی نحو العموم فقال:
«وَإِنِّی
ص:439
لَأَخْشَی عَلَیْکُمْ أَنْ تَکُونُوا فِی فَتْرَةِ(1). وَقَدْ کَانَتْ أُمُورٌ مَضَتْ مِلْتُمْ فِیهَا مَیْلَةً، کُنْتُمْ فِیهَا عِنْدِی غَیْرَ مَحْمُودِینَ، وَلَئِنْ رُدَّ عَلَیْکُمْ أَمْرُکُمْ إِنَّکُمْ لَسُعَدَاءُ. وَمَا عَلَیَّ إِلَّا الْجُهْدُ، وَلَوْ أَشَاءُ أَنْ اقُولَ لَقُلْتُ: عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَفَ!». أمّا مراد الإمام علیه السلام من هذه الإشارة المطلقة إلی بعض انحرافاتهم، فقد قیل إنّه أشار قضیة عثمان وحکومته التی فوّضت إلیه من جانب شوری عمر الظالمة بعد أن سلبتها من أولی الناس بها (علیّ) - والذی أثبتت الحوادث اللاحقة هذه الحقیقة - وقد سلمتم لتلک الحکومة، وورود الخطبة بعد مقتل عثمان فی أوائل خلافة الإمام علیه السلام شاهد علی هذا المعنی. لکن الاحتمال الأکبر أنّه إشارة إلی جمیع الخلفاء والأحداث المریرة التی رافقت الخلافة. ومراده من العبارة «
وَلَوْ أَشَاءُ أَنْ اقُولَ لَقُلْتُ»، أی لو أردت أن أکشف النقاب عن هذه الأحداث الألیمة لاستطعت، لکننی أغض النظر عنها وأسال اللّه أن لا یؤاخذکم ویعفو عن تقصیرکم(2).
ص:440
وَقَدْ سَأَلَهُ ذِعْلِبُ الیَمَانِیُّ فَقَالَ: هَلْ رَأَیْتَ رَبَّکَ یا أمِیرَالمُؤمِنِینَ؟ فَقَال علیه السلام: أفَأَعْبُدُ مَا لَاأری؟
فَقَالَ: وَکَیْفَ تَراهُ؟ فَقَال:(1)
یدور محور الکلام حول صفات اللّه ویؤکد هذا المعنی: إن تعذرت رؤیة اللّه بالعین فإنّه یمکن مشاهدته من خلال قبسات صفاته بالبصیرة.
ص:441
ص:442
فقال: لَاتُدْرِکُهُ الْعُیُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِیَانِ، وَلکِنْ تُدْرِکُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِیمَانِ. قَرِیبٌ مِنَ الْأَشْیَاءِ غَیْرَ مُلَابِسِ، بَعِیدٌ مِنْهَا غَیْرَ مُبَایِنٍ. مُتَکَلِّمٌ لَا بِرَوِیَّةٍ، مُرِیدٌ لَابِهِمَّةٍ، صَانِعٌ لَابِجَارِحَةٍ. لَطِیفٌ لَایُوصَفُ بِالْخَفَاءِ، کَبِیرٌ لَا یُوصَفُ بِالْجَفَاءِ، بَصِیرٌ لَایُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ، رَحِیمٌ لَایُوصَفُ بِالرِّقَّةِ. تَعْنُو الْوُجُوهُ لِعَظَمَتِهِ، وَتَجِبُ الْقُلُوبُ مِنْ مَخَافَتِهِ.
یستفاد من مختلف الروایات فی سیرة أمیر المؤمنین علی علیه السلام أنّه قال مراراً:
«سَلُونِی قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِی»، فقد أعرب عن استعداده للإجابة عن کل سؤال یتعلق بدین الناس ودنیاهم، وقد کّرر هذه العبارة حتی حین التقی الناس وهو علی فراش الموت بعد ضربة ابن ملجم. وحین وُلّی علیه السلام الخلافة خطب فقال:
«سَلُونِی قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِی» وأکّد بهذا المعنی بأنّه أعلم بآیات القرآن فیم نزلت وأین نزلت وناسخها ومنسوخها ومتشابهها ومحکمها. فقام ذعلب الیمانی وکان رجلاً شجاعاً وبلیغاً فسأله السؤال المذکور وأجابه الأمیر علیه السلام(1) فقال:
«أَفَأَعْبُدُ ما لاآری؟» بمعنی أنّ العبادة فرع من المعرفة وللمعرفة درجات أرفعها درجة الشهود، وقد التفت الإمام فی کلامه علیه السلام إلی مرحلته العبادیة الرفیعة التی ترافق مشاهدة الذات المقدّسة، ذعلب غرق فی التفکیر فی أنّ مراد الإمام علیه السلام هنا أیّة رؤیة؟ هل الرؤیة الحسیة التی
ص:443
یقول بها أم المجسمة؟ أم الرؤیة الروحیة والمعنویة التی تفوق الرؤیة العقلیة؟ لذلک أردف سؤاله بسؤال آخر فقال:
«وَکَیفَ تَراهُ؟»
هل هذا سؤال واستفهام لکشف الحقیقة أم نوع من الإنکار والجدال؟ الجواب عن هذا السؤال یتوقف علی تقییمنا لذعلب، فإن کان من أصحاب الإمام علیه السلام فلا شک فی أنّ سؤاله کان لمعرفة الحقیقة، وإن کان أنساناً طائشاً، کما یستفاد من بعض روایات المارة - فإنّ سؤاله یستند إلی الانکار والجدال. علی کل حال أجابه الإمام علیه السلام بما یمیط اللثام عن بعض الحقائق وقد أثر جوابه بالجمیع بما فیهم ذعلب، حیث نفهم علی قدر مطالعتنا أنّه أُصیب بالذهول عندما فرغ الإمام من الکلام.
فقد قال علیه السلام:
«لَا تُدْرِکُهُ الْعُیُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِیَانِ، وَلکِنْ تُدْرِکُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِیمَانِ». المراد من حقائق الإیمان، الأصول العقائدیة والمعارف الحقة. ولتوضیح هذا الکلام ینبغی الالتفات إلی هذه النقطة وهی أنّ المشاهدة علی ثلاثة أنواع:
1. المشاهدة الحسیة التی تتم بالعین، وأحیاناً تزود هذه العین ببعض الأجهزة کالمجهر والتلسکوب.
2. المشاهدة العقلیة التی یبلغها عن طریق الإستدلال به فیری الحقائق ببصیرة کالشمس من قبیل - ما ذکره المرحوم مغنیة فی شرح نهج البلاغة - مشاهدة نیوتن لقانون الجاذبیة الذی یستحیل رؤیته بالعین أثر مشاهدته لسقوط التفاحة من الشجرة علی سطح الأرض.
3. الشهود الباطنی وهو نوع من الإرداک الباطنی لکن لیس الاستدلالی.
فالإنسان یری ببصیرته الواقع الموجود ویؤمن به دون الحاجة إلی الاستدلال ویبدو فهم هذا الإدراک والرؤیة صعباً ما لم یبلغه الإنسان، ولهذا الموضوع نماذج کثیرة فی الآیات القرآنیة والروایات الإسلامیة، فقد ورد فی آیة بشأن إبراهیم: «وَکَذَلِکَ نُرِی إِبْرَاهِیمَ مَلَکُوتَ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ»(1). وبشأن یعقوب حین انطلق إخوة یوسف
ص:444
بقمیصه، فقال: «إِنِّی لَأَجِدُ رِیحَ یُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ»(1) والنبی الأکرم صلی الله علیه و آله حین حفر الخندق قبیل شروع معرکة الأحزاب لما ضرب الحجر ثلاث مرات وزف البشارة لصحبه بفتح قصور کسری وقیصر وقصور صنعاء فی الیمن(2). وقد أخبر علی مراراً فی نهج البلاغة عن المستقبل، وکان یقول فی بعض المواقع، کأنّی أری جماعة ستفعل کذا وکذا، بل نال بعض المؤمنین المخلصین هذا الکشف والشهود.
ومعروفة هی قصّة ذلک الفتی الذی قال للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله:
«کَإنِّی أنظُرُ إِلی أَهْلَ الجَنَّةِ، یَتَنَعّمُونَ فِیی الجَنَّةِ... کَإنِّی أنظُرُ إِلی أَهْلَ النّارِ وَهُم فِیها مُعَذَّبُونَ». فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله لأصحابه:
«هذا عَبْدٌ نَوَّرَ اللّهُ قَلْبَهُ بِالإِیمانِ»(3). وسائر الموارد التی تستحق کتاباً مستقلاً فی الکشف والشهود، والتی تدل جمیعاً علی وجود شهود آخر یفوق الشهود الحسی والعقلی(4).
ثم بیّن الإمام علیه السلام احدی عشرة صفة من صفات اللّه وأسمائه الحسنی، وقد قرن تسعة منها بعبارات تنفی عنه صفات المخلوقات لتوضیح هذا المطلب فی کیفیة إدراک القلوب للّه بحقائق الإیمان فقال فی الصفة الأُولی والثانیة:
«قَرِیبٌ مِنَ الْأَشْیَاءِ غَیْرَ مُلَابِسِ(5) ، بَعِیدٌ مِنْهَا غَیْرَ مُبَایِنٍ». ذکرنا مراراً أنّ مشکلتنا فی فهم صفات اللّه هی الإنطلاق من صفات المخلوقات والممکنات التی تعیقنا عن إدراک صفات اللّه ما لم نبتعد عنها، مثلاً فی هذین الوصفین حین نقول: اللّه قریب، یتراءی لنا سیء مثل
ص:445
قرب جسمین من بعضهما یقعان فی مکانین حسیین، وعندما نقول: اللّه بعید یتداعی لنا جسمان بعیدان عن بعضهما وانفصالهما، والحال، بعدهما وقربهما لیس کذلک، فهو قریب من کل شیء، بمعنی إحاطته التامة بجمیع الموجودات، وبعید بمعنی تنزه کبریائه عن أدناس المکان وصفات المخلوقات الناقصة.
وقال فی الصفة الثالثة والرابعة:
«مُتَکَلِّمٌ لَابِرَوِیَّةٍ(1) ، مُرِیدٌ لَابِهِمَّةٍ(2)». وإن طرح موضوع الکلام والإرادة یتبادر إلی أذهاننا إنّ الشخص یجید لغة معینة ویفکر فی مطلب ثم یصوغه فی إطار کلمات وعبارات، ثم یستعین بلسانه وشفتیه لیوصل صوته المنطلق من حنجرته إلی الآخرین، وهکذا الأمر بالنسبة للإرادة فی أن یفکر المرید مسبقاً ویتأمل صلاح الشیء من فساده ثم یعزم علی القیام بالعمل وأمر الجوارح والأعضاء بالتنفیذ. قطعاً إنّ أیّاً من هذه الأمور لا تصدق علی اللّه، فهو لیس بجسم ولیس له أعضاء وجوارح ولیس بحاجة إلی التفکیر. فکلامه لیس سوی خلق الموجات الصوتیة فی الفضاء کتلک الأمواج التی سمعها النبی موسی علیه السلام من الشجرة، وإرادته لیست سوی علمه بالمصالح والمفاسد. وهذه الحقیقة صادقة تماماً علی الصفات السبع الأخری. ومن هنا اعتبر الإمام علیه السلام أنّ أفضل طریق لمعرفة اللّه، نفی صفات المخلوقات عنه، فقال:
«وَکَمالُ الْإِخْلاصِ نَفْیُ الصِّفَاتِ عَنْهُ»(3).
وقال فی الصفة الخامسة:
«صَانِعٌ لَابِجَارِحَةٍ» نعم، إنّ أمره إذا أراد شیئاً إنّما یقول له کن فیکون، وله أن یخلق عالماً واسعاً ومترامیاً کعالمنا فیقول له کن فیکون ولا یحتاج إلی وسائل وأدوات وأجزاء کالإنسان.
وقال فی الصفة السادسة والسابعة:
«لَطِیفٌ لَایُوصَفُ بِالْخَفَاءِ، کَبِیرٌ لَایُوصَفُ بِالْجَفَاءِ»، لشرّاح نهج البلاغة وعلماء الکلام أحادیث مسهبة فی باب صفات اللّه ومنها صفة اللطیف، فذکروا لها عدّة معانٍ، فتارة فسّروه بالخفی، وأخری بخالق الأشیاء الظریفة وأخیراً ذو اللطف والحبّ، وللّه کل هذه الصفات، إلّاأنّ المعنی الأول أنسب، أی أنّ الذات المقدّسة ظریفة الخفاء، لکن لا بمعنی الخفاء عن العباد،
ص:446
ذلک لأنّ آثاره ملأت أرکان العالم وتجلّت فیه جمیع الموجودات، والعبارة
«لَا یُوصَفُ بِالْجَفَاءِ» إشارة إلی عظمته، لکن لیست کعظمة الطواغیت والجبابرة الممزوجة بالظلم والجور والجفاء، کما قال القرآن الکریم فی أواخر سورة الحشر:
«الْمَلِکُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ».
وقال فی الصفة الثامنة والتاسعة:
«بَصِیرٌ لَایُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ، رَحِیمٌ لَایُوصَفُ بِالرِّقَّةِ». فإن قلنا: فلان بصیر، تبادر إلی الذهن بسرعة العین التی یبصر بها، وحین یقال: فلان رحیم تتداعی شفقة قلبه ورقته، والحال، هذه الصفات الممکنات والموجودات الجسمانیة واللّه أسمی من ذلک. فبصره سبحانه بمضی علمه بالموجودات کافة التی تری بالعین ورحیمیته بمضی لطفه وعطائه لعباده، وإن مثل هذه الصفات مرکبة من النقص والکمال، وللّه کمالها ونزاهته من نقصها.
وقال فی الصفتین الأخیرتین:
«تَعْنُو(1) الْوُجُوهُ لِعَظَمَتِهِ، وَتَجِبُ(2) الْقُلُوبُ مِنْ مَخَافَتِهِ». إشارة إلی أنّه رغم لطفه ورحمته، إلّاأنّ ذلک لا یعنی جرأة العباد علی الذات من خلال التشبث بتلک الصفات، بل لابدّ من خشیة عقابه إلی جانب الأمل بلطفه ورحمته. ومن هنا قال القرآن بشأن المؤمنین: «وَالَّذِینَ یُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ»(3). ونعلم جمیعاً بأنّ تعادل الخوف والرجاء من شأنه الأخذ بید الإنسان إلی السمو والکمال.
ص:447
ص:448
فِی ذَمِّ الْعَاصِینَ مِنْ أصْحَابِهِ(1)
یستفاد من کتاب (الغارات) للثقفی، أنّ الإمام علیه السلام خطب هذه الخطبة حین أتاه رسولا محمد بن أبی بکر لنجدته قبل قتاله مع عمرو بن العاص فی مصر، فدعی الإمام علیه السلام الناس إلی المسجد وأخبرهم بالأمر، إلّاأنّه لم یستعد للجهاد سوی نفر قلیل. ثم بعث، لیلاً، إلی أشراف الکوفة ودعاهم إلی دار الإمارة، وکان حزیناً، لأنّه کان یعلم بعمق الخسارة فی ظهور ابن العاص وأعوان معاویة علی مصر. فعرض بالذم فی هذه الخطبة لصحبه العاصین وناشدهم دفع فتنة عمرو بن العاص عن مصر.
ویتضح ممّا قیل أنّ مضمون الخطبة ذم لترک الجهاد وحثّ علی جهاد العدو إلی جانب العواقب الوخیمة للوهن والضعف.
ص:449
ص:450
أَحْمَدُ اللّهَ عَلَی مَا قَضَی مِنْ أَمْرٍ، وَقَدَّرَ مِنْ فِعْلٍ، وَعَلَی ابْتِلَائِی بِکُمْ أَیَّتُهَا الْفِرْقَةُ الَّتِی إِذَا أَمَرْتُ لَمْ تُطِعْ، وَإِذَا دَعَوْتُ لَمْ تُجِبْ. إِنْ أُمْهِلْتُمْ خُضْتُمْ، وَإِنْ حُورِبْتُمْ خُرْتُمْ وَإِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَی إِمَامٍ طَعَنْتُمْ، وَإِنْ أُجِئْتُمْ إِلَی مُشَاقَّةٍ نَکَصْتُمْ. لَاأَبَا لِغَیْرِکُمْ! مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِکُمْ وَالْجِهَادِ عَلَی حَقِّکُمْ؟ الْمَوْتَ أَوِ الذُّلَّ لَکُمْ؟ فَوَاللّهِ لَئِنْ جَاءَ یَوْمِی - وَلَیَأْتِیَنِّی - لَیُفَرِّقَنَّ بَیْنِی وَبَیْنَکُمْ وَأَنَا لِصُحْبَتِکُمْ قَالٍ، وَبِکُمْ غَیْرُ کَثِیرٍ.
إستهل الإمام علیه السلام الخطبة کسائر أغلب الخطب بحمد اللّه والثناء علیه، وقال:
«أَحْمَدُ اللّهَ عَلَی مَا قَضَی مِنْ أَمْرٍ، وَقَدَّرَ مِنْ فِعْلٍ، وَعَلَی ابْتِلَائِی بِکُمْ». لشرّاح نهج البلاغة عدّة تفاسیر فی المراد بالقضاء والقدر فی هذه العبارات هل له معنی واحد ویشیر بأجمعه إلی المقدرات الإلهیة، أم له معنیان؟ قال البعض: کلاهما بمعنی واحد، وقال الآخر: القضاء یتعلق بخلق عالم الأمر والعقول یعنی عالم ماوراء الطبیعة، والقدر إشارة إلی عالم الخلق أی عالم الطبیعة. وأحد التفاسیر الواضحة للقضاء والقدر - والذی تؤیده الآیات والروایات - أنّ القضاء سواء فی عالم التکوین أو عالم التشریع یشیر إلی أمر اللّه بأصل وجود الشیء، ویشیر القدر بحجمه وأجزائه وشرائطه، مثلاً، شخص یأمر ببناء مسجد أو مستشفی، فهذا مصداق للقضاء، ثم یبیّن متطلباته، وهذا هو القدر. فأمر اللّه بالصلاة والصوم فی عالم
ص:451
التشریع، القضاء، وأمره بالنسبة لأجزائه وشروطه، قدر.
النقطة الأخری فی کلام الإمام علیه السلام حمده اللّه علی ابتلائه بأصحابه العاصین. ذلک لأنّ أولیاء اللّه المسلمون لأمره ویرون کل ما ینالهم منه حسناً جمیلاً.
ثم خاطب علیه السلام الحاضرین فی المجلس من زعماء قبائل الکوفة فقال:
«أَیَّتُهَا الْفِرْقَةُ الَّتِی إِذَا أَمَرْتُ لَمْ تُطِعْ، وَإِذَا دَعَوْتُ لَمْ تُجِبْ. إِنْ أُمْهِلْتُمْ خُضْتُمْ(1) ، وَإِنْ حُورِبْتُمْ خُرْتُمْ(2) وَإِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَی إِمَامٍ طَعَنْتُمْ، وَإِنْ أُجِئْتُمْ(3) إِلَی مُشَاقَّةٍ(4) نَکَصْتُمْ(5)». فقد أشار إلی أربع نقاط لضعف الناس تجاهه: المعصیة وعدم الإهتمام بالدعوة وتضییع الفرصة والضعف فی میدان القتال، ولا شک أنّ کل واحدة تکفی لأن تکون سبباً للهزیمة فضلاً عن اجتماعها. ثم وبخهم بنوع من الحب، فقال:
«لَا أَبَا لِغَیْرِکُمْ! مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِکُمْ وَالْجِهَادِ عَلَی حَقِّکُمْ؟ الْمَوْتَ أَوِ الذُّلَّ لَکُمْ؟»(6).
إشارة إلی أنّ الوضع الذی أنتم علیه - إزاء العدو الماکر کمعاویة وجیشه والذی یتسم بالضعف وعدم الإکتراث - لیس له من نتیجة سوی الموت أو الذل، وإن بقیتم أحیاء فالذلّة لهؤلاء، العزّ فی الجهاد ونتیجته النصر أو الشهادة، کما قال الإمام علیه السلام:
«اَلْمَوْتُ فِی حَیَاتِکُمْ مَقْهُورِینَ وَالْحَیاةُ فِی مَوْتِکُمْ قَاهِرِینَ»(7).
ثم قال:
«فَوَاللّهِ لَئِنْ جَاءَ یَوْمِی - وَلَیَأْتِیَنِّی - لَیُفَرِّقَنَّ بَیْنِی وَبَیْنَکُمْ وَأَنَا لِصُحْبَتِکُمْ
ص:452
قَالٍ(1) ، وَبِکُمْ غَیْرُ کَثِیرٍ». فقد لفّت الإمام علیه السلام انتباههم إلی قضیة مهمّة وهی أنّ وجودی سند عظیم لکم فعُوا ذلک. واعلموا إن مِتُّ فسوف لن أخسر شیئاً سوی جیش لا إرادة له، بینما ستخسرون أنتم کل شیء وستفقدون قائداً شجاعاً وآمراً لا یقهر.
ص:453
ص:454
للّهِِ أَنْتُمْ! أَمَا دِینٌ یَجْمَعُکُمْ! وَلَا حَمِیَّةٌ تَشْحَذُکُمْ! أَوَلَیْسَ عَجَباً أَنَّ مُعَاوِیَةَ یَدْعُو الْجُفَاةَ الطَّغَامَ فَیَتَّبِعُونَهُ عَلَی غَیْرِ مَعُونَةٍ وَلَا عَطَاءٍ، وَأَنَا أَدْعُوکُمْ - وَأَنْتُمْ تَرِیکَةُ الْإِسْلَامِ، وَبَقِیَّةُ النَّاسِ - إِلَی الْمَعُونَةِ أَوْ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَطَاءِ، فَتَفَرَّقُونَ عَنِّی وَتَخْتَلِفُونَ عَلَیَّ؟ إِنَّهُ لَایَخْرُجُ إِلَیْکُمْ مِنْ أَمْرِی رِضیً فَتَرْضَوْنَهُ، وَلَا سُخْطٌ فَتَجْتَمِعُونَ عَلَیْهِ؛ وَإِنَّ أَحَبَّ مَا أَنَا لَاقٍ إِلَیَّ الْمَوْتُ! قَدْ دَارَسْتُکُمُ الْکِتَابَ، وَفَاتَحْتُکُمُ الْحِجَاجَ، وَعَرَّفْتُکُمْ مَا أَنْکَرْتُمْ، وَسَوَّغْتُکُمْ مَا مَجَجْتُمْ، لَوْ کَانَ الْأَعْمَی یَلْحَظُ، أَوِ النَّائِمُ یَسْتَیْقِظُ! وَأَقْرِبْ بِقَوْمٍ مِنَ الْجَهْلِ بِاللّهِ قَائِدُهُمْ مُعَاوِیَةُ! وَمُؤَدِّبُهُمُ ابْنُ النَّابِغَةِ!
واصل الإمام علیه السلام عرضه بالذم لأولئک الضعاف من أصحابه فی الامتثال لأوامره:
«للّهِِ أَنْتُمْ! أَمَا دِینٌ یَجْمَعُکُمْ! وَلَا حَمِیَّةٌ(1) تَشْحَذُکُمْ(2)!».
إشارة إلی أنّ الوقوف بوجه العدو والدفاع عن الأهداف المقدّسة یتطلب أحد العنصرین: أحدهما الإیمان باللّه ویوم الجزاء ووعده للمجاهدین والشهداء أو الدفاع القومی الوطنی، وللأسف لیس فیکم أیّ من هذین العنصرین، فدینکم وإیمانکم ضعیفان ولیس فیکم من دافع أو هاجس لحب الوطن، ولذلک توانیتم حتی شنّت
ص:455
علیکم الغارات وداهمکم العدو.
ثم قارن الإمام علیه السلام بینهم وبین أصحاب معاویة فقال:
«أَوَلَیْسَ عَجَباً أَنَّ مُعَاوِیَةَ یَدْعُو الْجُفَاةَ(1) الطَّغَامَ(2) فَیَتَّبِعُونَهُ عَلَی غَیْرِ مَعُونَةٍ وَلَا عَطَاءٍ، وَأَنَا أَدْعُوکُمْ - وَأَنْتُمْ تَرِیکَةُ(3) الْإِسْلَامِ، وَبَقِیَّةُ النَّاسِ - إِلَی الْمَعُونَةِ أَوْ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَطَاءِ، فَتَفَرَّقُونَ عَنِّی وَتَخْتَلِفُونَ عَلَیَّ؟». فهنا سؤالان جدیران بالاهتمام، الأول أنّ معاویة معروف فی البذل والعطاء السیاسی الهادف، فکیف یقول الإمام علیه السلام إنّ معاویة لا یقدم للأفراد معونة ولا عطاء؟ أجاب بعض شرّاح نهج البلاغة عن هذا السؤال بأنّه کانت لمعاویة مساومات سیاسیة مع زعماء القبائل وقادة الجیش فکان یغدق علیهم الأموال الطائلة دون الالتفات إلی الناس، أمّا الإمام علی علیه السلام فکان یقسّم أموال بیت المال بالتسویة علی الناس بمنتهی العدل والقسط ویقدم التکالیف الحربیة لجمیع المقاتلین.
والثانی: لم عبّأ معاویة الناس بتلک الطریقة من توزیع الأموال، بینما لم یتعبّأ الناس لأمیر المؤمنین علیه السلام رغم تعمیمه العطاء والمعونة علی أساس العدل؟ ولا تبدو الإجابة عن هذا السؤال صعبة، فإضافة إلی ضعف أهل الکوفة وغدرهم کان هناک وفاء أهل الشام وانصیاع الأفراد لزعماء قبائلهم الذین کان یرشیهم معاویة بالأموال، ولکن زعماء القبائل کانوا یشعرون بعدم الرضا من تسویة الإمام علیه السلام بینهم بالعطاء، فلم یکونوا یعبئون أفراد قبیلتهم.
ثم ذم الإمام علیه السلام فرقتهم واختلافهم فقال:
«إِنَّهُ لَایَخْرُجُ إِلَیْکُمْ مِنْ أَمْرِی رِضیً فَتَرْضَوْنَهُ، وَلَا سُخْطٌ فَتَجْتَمِعُونَ عَلَیْهِ».
ویبدو تفسیر هذه العبارة واضحاً رغم اختلاف الشراح فی تفسیرها فالامام علیه السلام
ص:456
یرید أن یقول إنّکم دائماً تحثون الخطی باتّجاه التشتت والفرقة ولیس هناک ما یوحّد کلمتکم، لا العناصر التی ترضینی ولا النواهی عن الأمور التی تغضبنی، والفرقة هی أهم عوامل فشلکم، فأنتم لا تمتثلون لأوامری ولا تنتهون بنهیی، کما یحتمل أن یکون مراد الإمام علیه السلام أنّکم تجتمعوا علی ما یخالف رغبتکم أو یطابقها، کمن یقول للمریض انک لا تتناول الدواء المر ولا الحلو، أی إن لم تقبل الأول فاقبل الثانی، کحد أدنی. ثم تشتعل النار فی قلب الإمام علیه السلام بعد ذلک الذم والتوبیخ فیقول:
«وَإِنَّ أَحَبَّ مَا أَنَا لَاقٍ إِلَیَّ الْمَوْتُ!». حقّاً إنّها لفاجعة أن تبلغ الحالة درجة یتمنی معها هذا الجبل الشامخ الذی یفیض صبراً وتحمّلاً الموت. نعم أحیاناً یصیب الإنسان من صحبه الغدرة الفجرة ما لا یصیبه من أعدائه وهنا یتمنی الإنسان الموت، الموت الذی یفرق بینه وبین مثل هؤلاء الأفراد الناکرین للجمیل المنحرفین عن الحق.
ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی أیادیه الثقافیة والتربویة لأُمّة الإسلامیة سیما بالنسبة لصحبه فأشار إلی أربعة مواضیع مهمّة فقال:
«قَدْ دَارَسْتُکُمُ(1) الْکِتَابَ». طبعاً القرآن کان بأیدی المسلمین یتلونه أثناء اللیل والنهار ولم تکن هنالک من حاجة لتدریس الإمام علیه السلام، فالمراد فهم مضمون القرآن الکریم وسبر أغواره والوصول إلی مفاهیمه حیث یعتبر الإمام علیه السلام المفسّر الأول بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله، فکان یفسّر للناس آیات القرآن ویستشهد بها فی أغلب خطبه، ثم تطرق إلی خدمته الثانیة للأمة فقال:
«وَفَاتَحْتُکُمُ الْحِجَاجَ(2)». أی علمتکم الأدلة العقلیة کحجة شرعیة بعد الأدلة النقلیة.
وقال فی الخدمة الثالثة:
«وَعَرَّفْتُکُمْ مَا أَنْکَرْتُمْ» فقد کشفت لکم الغطاء عن مکنون کثیر من الحقائق الخافیة علیکم وکنتم تجهلونها، کما یمکن أن یکون لهذه العبارة مفهومٌ آخر هو انکارکم لبعض المسائل واتخاذکم مواقف أخری منها بفعل
ص:457
جهلکم، فعرفتکم حقیقتها لتقلعوا عن انکارکم، وأخیراً
«وَسَوَّغْتُکُمْ(1) مَا مَجَجْتُمْ(2)».
فهنالک الکثیر من المفاهیم التی لم تبلغوا عمقها وحقیقتها، ومن هنا کنتم تمجون هذه المفاهیم وتبتعدون عنها، إلّاأنّی کشفت لکم عن أسرارها لتصبح لدیکم کالماء الزلال.
ثم أعرب عن أسفه عن سذاجة مخاطبیه فقال:
«لَوْ کَانَ الْأَعْمَی یَلْحَظُ، أَوِ النَّائِمُ یَسْتَیْقِظُ!». فأنا لم أُقصر فی تربیتکم وتعلیمکم، وقد بنیت لکم کل ما ینفعکم، ولکن لیس لدیکم من استعداد وکان بذور علمی وتربیتی وحکمتی قد صادفت أرضاً قاحلة.
ثم اختتم علیه السلام خطبته بإبراز تعجبه قائلاً:
«وَأَقْرِبْ(3) بِقَوْمٍ مِنَ الْجَهْلِ بِاللّهِ قَائِدُهُمْ مُعَاوِیَةُ! وَمُؤَدِّبُهُمُ ابْنُ النَّابِغَةِ(4)!». جاء فی الروایة أنّ الإمام علیه السلام قال هذه العباراة مع إضافات حین مرّ بجماعة من أهل الشام کان فیهم الولید بن عقبة، المعروف بشرب الخمر وقد أُقیم علیه الحد، حین سمعه البعض قد شتم الإمام علیه السلام فهمّوا به ونهاهم الإمام علیه السلام(5).
قال الإمام علیه السلام فی الخطبة المذکورة إنّ معاویة لم یقدم لأتباعه معونةً ولا عطاءً
ص:458
(طبعاً، المراد الأفراد العادیون، وإلّا فإنّ شراءَه لزعماء القبائل بواسطة الأموال الطائلة ما تناقلته کتب التاریخ). والفارق بین المعونة والعطاء، إلّاأنّ العطاء شیء من قبیل المرتبات الرسمیة والمعونة ما یقدم من منح ومساعدات لإعداد السلاح أو الدابّة للقتال.
أشار الإمام علیه السلام فی الخطبة المذکورة إلی أربعٍ من خدماته لصحبه، وأوجزها فی:
تعلیم کتاب اللّه، القرآن الکریم، والثانیة، تعریفهم بالأدلة العقلیة والبراهین الجلیة، والثالثة، تعلیمهم ما کانوا یجهلونه وکشف أسرار أغلب الحقائق المتعلقة بالدین والدنیا، والرابعة، والأخیرة إعادتهم إلی المفاهیم الحقة وجعلها مستساغة لهم بعد أن کانت ممجوجة، والواقع هو أنّ هذه الأصول الأربعة تشکل دورة تعلیمیة ودینیة وفکریة متکاملة، ینبغی لجمیع القائمین علی شؤون التعلیم، الإلتفات لها، وبالطبع فإنّ النتیجة المطلوبة لهذه اللحظة إنّما تتأتی حین یتمتع الفرد الخاضع للتربیة والتعلیم بالإستعداد التام لتقبّلها.
اللّهم ارزقنا عیناً باصرةً وأُذناً سامعةً ویقظةً ووعیاً لنصغی إلی کلمات أولیائک التی تطهّر روح الإنسان وتهذّبها وننظر إلی آیات عظمتک بعین البصیرة.
اللّهم لا تفرّق بیننا وبینهم ولا طرفة عین فی الدنیا وفی الآخرة وثبّتنا علی مسیرتهم. یاربّ العالمین.
ختام الجزء السادس
کانون الثانی 2003 م
محرم الحرام 1425 هجری
ص:459